كلما فقدنا واحدا من الآباء الكرام من ذوي المكانة والخير والعمل الصالح والعطاء والبناء نشعر وكأننا شجرة تتعرى من أوراق الخير والأصالة والشيم والقيم النبيلة ولكن ما يعزي النفس أننا نرى على فروع هذه الشجرة وريقات تنبت من جديد لتينع وتخضر.
ويوم أمس شعرت بذلك بشدة وأنا أتلقى نبأ انتقال الوالد الكريم والعالم الجليل شيخنا الكبير عبد الله بن زيد آل محمود إلى الرفيق الأعلى ليلقى ربه بعد حياة حافلة في خدمة الإسلام والمسلمين وخدمة العلم والقضاء وخدمة الوطن بتفان وإخلاص.
ومع إيماننا بأن الموت هو حكمة الخالق الكبرى وأنه النهاية المحتومة التي لا مفر منه ولا بد من الاستسلام لها إلا أننا لا نملك أنفسنا من أن نحزن ونأسى على فقدان عزيز كبيرا كان أو صغيرا ومن الحزن ما يكون في حدود أهل الفقيد ومعارفه ومنه ما يكون في إطار أعم وأشمل وفق مكانة الفقيد وسمعته وأثره في المجتمع.
وعندما يكون الفقيد واحدا مثل الوالد الكريم والعالم الجليل صاحب الفضيلة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود فإن الحزن على فقده يعم الناس جميعا والأسف على فراقه الأبدي يعتري نفوسهم لأن الفقيد كبير والفقيد عالم جليل عظيم.
وعلى الرغم من أن قطر حديثة عجت ساحتها بالعلماء والأجلاء الذين خدموا الإسلام والمسلمين مثل الشيخ محمد الجابر والشيخ حسن محمد الجابر والشيخ إبراهيم بن عبد الله الأنصاري والشيخ عبد الله بن تركي والشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري وغيرهم رحمهم الله إلا أن عالمنا الجليل الشيخ ابن محمود يبقى علَما بينهم جميعا ورمزا كبيرا من رموز العلم والتفقه والقضاء والإفتاء وأمور التشريع والوقف في قطر، وقد غرست أعماله واجتهاداته في قطر ونمت وانتشرت فروعها إلى العالم الإسلامي أجمع.
الشيخ ابن محمود ارتبط اسمه وعمله بهذه الأرض الطيبه رباط الخير وسرت سمعته ومكانته بين الناس كما يسري ريح الطيب في الأجواء عطرا شذيا فكان جزءا من الناس وكان الناس جزءا منه لأنه عمل في أهم ما يهم الناس ألا وهو أمور دينهم ودنياهم فكان فقيههم ومفتيهم وقاضيهم وناصحهم وموجههم ومرشدهم إلى دروب الطاعة لله وإلى سبيل الهدى ومصلحا ما بينهم ومشرفا على أحوالهم الشخصية فيما يتعلق بدينهم في كل باب من أبواب الحياة و الموت.
كان مُنشئ القضاء الشرعي وواضع سجلاته وضوابطه ونظمه مؤسس شؤون الوقف والزكاة وأمورهم ومنظم مناهج الوعظ والإرشاد وصاحب الفتاوى الجريئة الصريحة المتفاعلة من متطلبات العصر ومقتضاياته.
كان الخطيب المفوه الجامع للكلمة المسموع من الناس بتأثر المتطرق إلى أمور المجتمع وأحوال الناس في خطبه جميعا فاستحق بكل ذلك هذه المكانة من الحب والاحترام والتقدير.
ارتبط آباؤنا وارتبط من هم في جيلنا بالشيخ ابن محمود وباسمه المحمود على كل لسان فعندما يأتي ذكره فإنما يذكر القاضي المجتهد في العدل والإنسان المتواضع العزيز النفس والمحدث المجالس بصوت منخفض والمتأدب بالأدب الجم العف اللسان المتأني في تفكيره الرصين في سلوكه الورع في دينه
كان رحمه الله بحرا من العلم ولكنه ذلك البحر الهادئ المستكين الذين لا يتباهى بما في لجته من درر تقذفها الأمواج العالية بل يحدث عما فيه من كنوز الفقه والمعرفة بسماحة وهدوء ففيه.
ارتبطنا به صغارا ثم فتية وشبابا ورجالا منذ أن كان في مسكنه بالجسرة فنحضر مجلسه حيث يقضي بين الناس ثم في المحكمة العدلية جنوبي القلعة مقابل مصلى العيد بالجسرة وبعد ذلك بمقر المحكمة الشرعية قرب وزارة التربية والتعليم إلى أن انتقل إلى مسكنه في غربي الدوحة حيث أطلق اسمه على الفريق "فريق بن محمود" إلى أن انتقل إلى مقر سكناه الحالي بشارع الأمير
عرفناه وهو يخطب فينا لسنوات وسنوات يؤمنا في صلاة الجمعة بمسجد الشيوخ وكذلك وهو يؤم المصلين في العيدين بمصلى الجسرة فمصلى شارع ابن محمود ومصلى الأمير في الريان فكنا مع كل ذلك نشعر كأنه جزء مما اعتدنا عليه واعتاد علينا فأحببناه وأحبنا وارتبطنا به وارتبط بنا وحين أقعده المرض وتقدمت به السن وأحسسنا بأننا فقدنا شيئا عزيزا علينا وكنا نعزي النفس أنه يعيش بين ظهرانينا إلى أن اختاره ربه إلى جواره.
وإذا ما أردنا أن نتحدث عن الشيخ ابن محمود فإن الحديث يطول ويحتاج إلى كتب كثيرة الصفحات لأن الحديث يكون عن إنسان عالم عامل أعطى لوطنه ولدينه والعالم الإسلامي دون أن ينتظر جزاء ولا شكورا إلا من صاحب الفضل ومن يعود إليه الأمر الأول والآخر.
ونحن حين نودع عالمنا الجليل الشيخ ابن محمود إنما نودع جسدا يعود إلى التراب وروحا تعود إلى باريها ولكن يبقى معنا علمه وفكره وذكره .
حين نودع ابن محمود فإن عمله انقطع إلا من ثلاث فصدقته في الخير وللخير معرفة وجارية إن شاء الله وعلمه الذي ينتفع به ظاهر يشع في الكتب وفي القلوب والعقول ليستزيد منه من عاصروه ومن سيأتون بعده بإذن الله أما الولد الصالح الذي تركه فحدث ولا حرج ما شاء الله ففي أبنائه جميعا الخير والبركة حيث رباهم في طاعة الله وعلى الأخلاق الحميدة والأدب الجم والتعامل مع الناس بالحسنى فجعل الله سبحانه وتعالى فيهم جميعا الخلف الصالح.
رحم الله والدنا الكريم وشيخنا العالم الجليل الفضيلة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود وجزاه عما قدم من خير وعلم لأمته خير جزاء وأسكنه جنات النعيم مع الشهداء والأبرار الصالحين وألهم أهله وذويه ومريديه جميل الصبر وحسن العزاء. "إنا لله وإنا إليه راجعون"
انتهى