متقدم

ورحل العالم الجليل

وأخيرا – وبعد مرض طال على الشيخ أرجو أن يكون طهورا كفارة لجميع سيئاته وزيادة في حسناته ورفعة لدرجاته – رحل عن دنيانا علامة قطر وقاضيها وفقيهها الأكبر وخطيب مساجدها الأعظم وأول رئيس لمحاكمها الشرعية وشؤونها الدينية ففقدت قطر وبلاد الخليج بل الأمه الإسلامية بقفده أحد العلماء والأعلام والقضاة الأثبات والفقهاء الميسرين والدعاة المبشرين إنه العالم الجليل الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله رحمة واسعة وتقبله في عباده الصالحين.

لقد لقي ربه راضيا مرضيا إن شاء الله في 28 من شهر رمضان المبارك 1417هــ وفي العشر الأواخر منه.

وأشهد أن هذا الرجل كان صواما قواما كثير التلاوة لكتاب الله عز وجل مشغولا بالعلم دراسة وتعليما وتأليفا وقضاء وكنت كلما زرته في مجلسه وجدته مشغولا بقراءة كتاب مهم من كتب التفسير أو الحديث أو الفقه أو غيرها يقرؤها عليه أحد أبنائه أو أحد تلاميذه وهو يستمع ويعلق فهكذا كان يقضي وقته بين العلم قراءة وكتابه والعبادة والإفتاء والقضاء وشؤون المساجد وأموال القصر والأوقاف وحاجات الناس ولم يكن عندة مجال للهو ولا لهزل فقد كان عنده الحق والجد ما يصرفه عن كل باطل.

كان الشيخ يذهب إلى عمله مبكرا في المحكمه فهو يعلم أن البركه في البكور وربما سبق الموظفين جميعا وهناك يجلس يستمع إلى المتقاضين يقضي بينهم في القضايا والمعضلات بسرعة وحسم إلا ما احتاج منه إلى مراجعة أو مشاورة وقد يرى الإصلاح بين الخصوم فيجتهد في ذلك ويوفق فيه.

وهو يسهم في قضاء حاجات المحتاجين وفي نصرة قضايا المسلمين بماله وجاهه ومنصبه ويخطب الجمعة في الجامع الكبير جامع الشيوخ في موضوعات حيه تتصل بحياة الناس وهو يحضر خطبته تحضيرا جيدا بحيث يكاد يحفظها وهو يغذيها بآيات القرآن وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام يزودها بحكم الحكماء وشعر الشعراء مشتملة أحيانا على بعض السجع المقبول الذي لا يحمل التكلف وقد صدرت خطبه في مجلد كبير سماه " الحكم لشتى العلوم النافعة"

لقد عرفت الشيخ ابن محمود منذ قدومي إلى قطر من نحو ستة وثلاثون عاما وبعد يومين من تسلمي العمل في إدارة المعهد الديني وأخبرني الأخ الكريم الشيخ علي شحاته – وهو من قدامى المصريين الرواد الذين قدموا إلى قطر – وامتزجوا بأهلها وشيخها أن الشيخ ابن محمود يقرأ كتابك: " العبادة في الإسلام في مجلسه يثني عليك خيرا ورأى أن تزوره في بيته وقلت له: هذا واجب علي أن أزور مثل هذا العالم الذي سمعت عنه قبل أن أراه وأتعرف عليه فالعلم وفعلا في يومها زرت الشيخ رحمه الله في مجلسه ورحب بنا ترحيبا بالغا وتحدثنا في مسائل عملية مهمة رأى الشيخ أننا متوافقان فيها.

خصائص فقه الشيخ:

منهج الشيخ في فقهه ووجهته في الاجتهاد يعرف من خلال عناصر أو خصائص خمسة هي:

1- تحرره من التقليد: والعصبية المذهبية التي ابتلى بها كثير من العلماء في العصور الأخيرة.

2- النزعة الواقعية: معرفته بالواقع المعاش وما يعانيه الناس فيه والفقه الحق هو من يزاوج بين الواجب والواقع فلا يجعل كل اهتمامه لما يجب أن يكون بل فيما هو كائن ايضا .

3- النزعة التجديدية: فبالتجديد يحيا الدين وتحيا العلوم الشرعية وتتجدد الحياة كلها. ولا غرو أنّنا لمسنا هذه النزعة في كثير مما كتبه مخالفا المألوف والسائد مثل ما كتبه عن " الأضحية عن الميت" مؤكدا أن الأضحية إنما شرعيت للحي لا للميت.

4- ميله إلى التيسير: على الخلق ورفع الحرج عنهم مؤمنا بأن هذا هو نهج القرآن وهدي النبي عليه الصلاة والسلام.

قد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم الناس تيسيرا على أمته في تعليمه إذا علم وفي فتواه إذا أفتى كما قال: " إن الله بعثني معلما ميسرا" رواه مسلم. وقال: "إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" رواه البخاري. وأمره الأمة بالتيسير فقال: " يسروا لا تعسروا " متفق عليه.

والتسير في الفتوى يحبب الدين إلى الناس وهم في حاجة إليه وخصوصا في عصرنا الذي كثر فيه مشاغل الناس وضعفت هممهم ووهنت عزائمهم فما أحوجهم إلى التيسير ومن هنا تبنى الشيخ منهج التيسير في فقهه وفي فتواه وأحكامة كما في فتواه بإخراج صدقة الفطر من النقود لما فيه منفعة للفقراء في عصرنا .

ومثل ذلك فتواه بالانتفاع بالمقابر القديمة إذ أصبحت في وسط البنيان وانتهى الدفن فيها من زمن وغدا الناس في حاجة إليها.

5- الشجاعة الأدبية: فقد يوجد علماء متحررون في فكرهم مشتغلون في علمهم يسيرون وراء الدليل ولا وراء فلان أو فلان أو علان من البشر.

كان رحمه الله يصدع رأيه إذا اعتقد أنه الحق الذي وصل إليه بالدليل لا يخاف لومة لائم فأحسبه من الذين قال الله فيهم: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ﴾ [الأحزاب: 39]

وأود أن أشير هنا إلى قضية في غاية الأهمية التبس فيها الأمر على الكثيرين من أهل الدين وهي اعتقادهم أن التيسير على الناس في الفتاوى والأحكام من الأدلة على قلة دين الفقيه والمفتي وتهاونه في أمر الله وأن المعسر المشدد أكثر ورعا وأعظم تقوى لله من الميسر وهذا خطأ كبير: فإن العالم الذي يفتي بالتيسير يتبع المنهج القرآني والنبوي في التيسير ويتبع منهج الخلفاء الراشدين خاصة الصحابة عامة ولا سيما علماؤهم مثل حبر الأمة ترجمان القرآن: ابن عباس الذي اشتهر برخصه وهو كذلك يريد أن يربط الناس بدين عن طريق التيسير.

خطب مطعمة بالفقه:

لقد أوتي الشيخ ابن محمود " ملكة الفقيه " البصير بدين الله برزت هذه الملكة في إفتائه إذا أفتى وفي قضائه إذا قضى وفي خطبه إذا خطب.

أجل تراه في خطبه المنبرية يطعمها ببعض الأحكام الفقهية التي يحتاج إليها الناس كما يضمنها بعض آرائه الخاصة. وأضرب لذلك بعض الأدلة:

في خطبته: " التذكير بعيد لأضحى " تعرض لحديث أم سلمة الذي رواه مسلم مرفوعا: " من أراد أن يضحي ودخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا " وعلق عليه بقوله: " فهذا الحديث قد اختلف العلماء فيه فمنهم من أنكر صحته ومنهم عائشة أم المؤمنين ومنهم من حمل النهي على الكراهة كما هو الظاهر من مذهب الشافعي ومالك ورواية عن الإمام أحمد ورجحها في الإنصاف وبعض الأقوال إنه حرام ومتى قلنا إن النهي للكراهة فإن الكراهة تزول بأدنى حاجة وعلى كل الأقوال فإنه لو حلق الشخص رأسه أو أخذ شيئا من شعر لحيته أو قلم أظافره في عشر ذي الحجة ثم لو أراد أن يضحي فإن أضحيته صحيحة بإجماع أهل العلم ومثله المرأة لونقضت شعرها أو نشلته بالمشط فتساقط منه شعر وأرادت أن تضحي فإنها تضحي وأضحيتها صحيحة كما يباح مباشرة النساء والطيب وغيرهما"

ومثل هذه اللقطات الفقهية المضيئه كثيره في خطبه ومؤلفاته وهي تدل على ما قلنا إن الشيخ فقيه في المقام الأول.

هذا هو الشيخ ابن محمود لم يكن ملكا مطهرا ولا نبيا معصوما بل هو إنسان مجتهد في خدمة دينه ويصيب يخطئ ولكن أخطاءه وهفواته التي لا يسلم منها بشر في بحر حسناته ومحيط مزاياه.

لقد كان الشيخ ممن طال عمره وحسن عمله وكانت حياته حافلة بالعطاء مؤثرة فيمن حوله من حكام ومحكومين موافقين ومخالفين.

وأشهد لقد كان بيني وبينه صلة وثيقة ومودة ومحبة رغم أني قد اختلفت معه في أحيان قليلة كما في فتواه في حل ذبائح غير المسلمين والمرتدين وعدم جواز نقل زكاة الفطر إلى خارج بلادة ولكن اختلاف الرأي لا يفسد الود فأفاضل العلماء تختلف آراؤهم ولا تختلف قلوبهم.

رحم الله الشيخ ابن محمود وغفر له وكتبه في المحسنين وجعله من عتقاء الشهر الكريم وحشره مع الذين أنعم عليهم من الصديقين والنبيين والشهداء الصالحين وحسن أولئك حسن رفيقا وعوض الأمة الإسلامية عنه خيرا.

انتهى