متقدم

دمعة حرى على علم من أعلام الإسلام سماحة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود ولمحات من حياته رحمة الله

ودع العالم الإسلامي في الأيام الماضية علما بارزا من أعلامه وفقيها مجتهدا وخطيبا رائعا وداعية وقاضيا من الطراز الأول ذلكم هو سماحة الشيخ الجليل عبد الله بن زيد آل محمود مفتي قطر ورئيس المحاكم الشرعية فيها وقاضي قضائها لمدة تزيد على سبعة وأربعين عاما رحمه الله تعالى رحمة واسعة وقد رزئت الأمة الإسلامة بفقده في يوم الخميس الثامن والعشرين من رمضان المبارك عام 1417هــ وكان لوفاته رنة أسى وحزن لدى كل من يعرفه ويدرك قدره ومكانته لما يتصف به من إخلاص وورع وما يحمله في قلبه الكبير من حب للمسلمين وسعي لنصرتهم ودأب على قضاء حوائجهم وصبر على نصح المسلمين وشجاعة في توجيه الناس للخير وحثهم على اتباع المنهج الصحيح كما أنه يعتبر أحد رواد التيسير على المسلمين في مجال الاجتهاد الشرعي.

السيرة العطرة والنشأة والتكوين:

وشيخنا رحمه الله هو الشيخ عبد الله بن زيد بن عبد الله بن محمد بن راشد بن إبراهيم بن محمود منتسب إلى الأشراف ولد في حوطة بني تميم عام 1327هــ ونشأ بها بين والديه وقد كان والده تاجرا وتوفى والشيخ صغير لم يبلغ سن الرشد فكان وصيا عليه خاله حسن بن صالح الشتري وتلقى دروسه كعادة الناس في زمنه على عدد من المشايخ كالشيخ عبد الملك بن إبراهيم آل الشيخ قاضي الحوطه في زمنه والشيخ محمد بن علي الشتري والشيخ عبد العزيز بن محمد الشتري (أبو حبيب) وعندما انتقل الشيخ أبو حبيب إلى (الرين ) انتقل معه لملازمته والدراسه على يده حيث بقى عنده من سن العاشرة إلى سن الرابعة عشرة وحفظ القرآن الكريم وهو صغير.

تفرغ لطلب العلم فدرس وحفظ الكثير من الكتب والمتون كمتن الزاد ومختصر نظم ابن عبد القوي وبلوغ المرام وألفية الحديث للسيوطي ونظم المفردات وألفية ابن مالك وقطر الندى في النحو وكثير من الأحاديث النبوية.

ومما يذكر في هذا المجال أن والدته (نورة بنت عبد العزيز أبو سعود الشثري) كانت تدعو له بدعوات متكررة في جوف الليل كان منها (اللهم ارزقه علما نافعا للمسلمين وارزقه المال والبنين)

وقد استجاب الله دعاءها.

وهكذا بذل الشيخ وقته وجهده في تحصيل العلم وانتقل من بلد إلى آخر فسافر إلى قطر طلبا للعلم على يد الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع سنة 1355 هــ وكان له من العمر ستة وعشرون عاما درس على يديه عددا من كتب الفقه والحديث والتفسير.

بعد عودته من قطر لزم الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية بالرياض وأخذ عنه العلم سنة كاملة ثم صدر أمر الملك عبد العزيز رحمه الله إلى الشيخ محمد بن إبراهيم باختيار ثمانية من العلماء للذهاب إلى مكة للوعظ والتدريس في المسجد الحرام وكان الشيخ ابن محمود واحد من هؤلاء.

تولية القضاء في قطر:

في مطلع ذي الحجة عام 1359 هــ قدم الشيخ عبد الله بن قاسم آل ثاني رحمه الله إلى مكة قاصدا الحج بصحبته ابنه الشيخ حمد بن عبد الله وعدد من كبار أفراد الأسرة والأعيان وبعد أداء فريضة الحج طلب من الملك عبد العزيز آل سعود طيب الله ثراه أن يبعث معهما برجل يصلح للقضاء والفتيا حيث كانت قطر في ذلك الوقت دون قاض بعد أن غادرها محمد بن مانع وقد وقع اختيارهما على الشيخ عبد الله بن زيد بإيعاز من الشيخ ابن مانع وقد صدر الأمر إليه بالتوجه معهما في السنة نفسها حيث تقلد أمانة القضاء في أواخر ذي الحجة عام 1359هــ.

ومنذ ذلك الوقت وحتى وفاته وهو مرجع الفتيا في دولة قطر والقاضي العادل و مؤسس القضاء الشرعي فيها ومنشئ نظام تسجيل الأحكام والعقارات وراعي أموال اليتامى واستثمارها وتبنى منهجا فريدا يتمثل في قيام المحكمة الشرعية باستثمار أموال اليتامي وتنميتها لحين بلوغهم سن الرشد واستمر في القضاء أكثر من سبعة وأربعين عاما كان خلالها مثال النزاهة والعدالة ومقصد الناس في فض خصوماتهم والإصلاح بينهم بل ويسهم في ماله إذا كان الخصم فقيرا كان ذلك ديدنه في كل حال يجتهد في ألا تطول القضايا ولا تتشعب الجلسات للقضية الواحدة وكان يقف بنفسه لمعاينة مكان الخلاف ويتأنى كثيرا قبل إصدار حكمه ومتى ما اتضح له الحق حكم به.

وفوق هذا كله والقضاء عمل شاق وصعب ويحتاج إلى صبر وتضحية وجلد وإخلاص كان الشيخ يرى أن من واجباته تبيين أحكام هذا الدين العظيم للناس فكان يخصص وقتا للإفتاء و الدرس ووقتا آخر لقضاء حوائج الناس والشفاعة لهم ومد يد العون لهم من ماله وجاهه وهذا كرم منه وسنة وحسنة أخذها من شيوخه الأبرار والأطهار.

الشيخ ابن محمود في برنامجه اليومي:

اعتاد الشيخ الكريم رحمه الله على برنامج يومي ارتضاه لنفسه يبدأ قبل طلوع الفجر حيث يستيقظ مبكرا ليؤدي ما شاء الله له من صلاة ودعاء في آخر الليل ثم يؤدي صلاة الفجر ويتبعه أولاده إلى المسجد وبعد الصلاة يمكث برهة للورد اليومي ثم يذهب إلى بيته حيث يتناول إفطاره ثم يتوجه مباشرة إلى رئاسة المحاكم الشرعية حيث يجلس وقتا طيبا للقراءة والبحث والتأليف ثم يدخل إلى مكتبة ليبدأ في القضاء بين المتخاصمين وعند أذان الظهر يغادر إلى المسجد وبعد الصلاة يذهب إلى بيته ويجلس في مجلسه الكبير مع من يكون لديه من الضيوف وما يخلو بيته من ضيوف سواء من داخل قطر أو من خارجها ويكون أولاده كلهم محيطين به يتناول معهم ومع ضيوفه طعام الغداء ثم يأخذ قسطا من الراحة حتى يؤذن لصلاة العصر وبعدها يجلس لاستقبال الضيوف والزوار والمراجعين والمستفتين أو يقوم ببعض الزيارات وبعد المغرب هناك الدرس المعتاد حيث يقرأ عليه أحد أولاده أو أحد طلبة العلم في كتاب مختار سواء في مجال العقيدة أو الفقه أو التاريخ أو الأدب وبعد الانتهاء من الدرس يقدم العشاء ويكرم ضيوفه كعادته ثم يصلي العشاء ويأوي إلى بيته بعد الصلاة.

آثاره ورسائله العلمية:

لم يكن ابن محمود رحمه الله يكتفي بالوعظ والإرشاد بل سارع بهمة عالية وفطنة وذكاء إلى المشاركة في معالجة قضايا المسلمين وما يعيشون في عصرهم وفق منهج القرآن وهدي النبي عليه الصلاة والسلام.

وهذا ما تبرزه الرسائل التي ناقش فيها النوازل والتي عاشتها أمتنا المسلمة مبرزا فيها منهجه الفقهي الرصين والمتميز وموضحا قدرة هائلة في اقتضاء الدليل والتحرر من التقليد ومعاجلة الأمور برؤية صادقة تنشد التيسير على المسلمين دون أن يلوي عنق الدليل بل يجتهد ما وسعه الاجتهاد وهكذا العلماء في كل عصر وحين المدركون لواقعهم والمعايشون لحياة الناس.

هذا هو الشيخ ابن محمود يعالج مشكلة رمي الجمرات قبل أربعين عاما وأفتى فيها برأي زلزل ما ألفه علماء الأمة في حينه واجتمع العلماء وحاوروه وظل متمسكا بدليله في شجاعة تنم عن فهم لمستقبل الأيام وما ينبغي للعلماء أن يتخذوه من تيسير على الناس خصوصا في أعمال الحج وكذلك رسالته في جواز الإحرام من جدة لركاب الطائرات والسفن.

وقد بلغت رسائله أكثر من ثلاثين رسالة تبرز ما للشيخ من باع طويل في الاجتهاد ونشدان الحق والتمسك به والدعوة إليه.

إنه فقيه مجتهد وعالم محقق وداعية رائد في تحبيب الناس للخير ودلالتهم عليه وهو ما يحتاجه الناس في عصرنا من دعوة باللين والرفق وعطف عليهم وتقدير لظروفهم والداعية مقامه الأول التيسير لا التعسير والتبشير لا التخويف.

هذا هو الفقيه الرائد الشيخ الجليل ابن محمود يحدد ملامح منهجه في مقدمة إحدى رسائله.

فيقول: (إن المخلص الناصح والبصير الناقد يجب عليه أن يثبت في الرد والنقد وأن يقدر ضرورة الحال والمحل فلكل مقام مقال والعله تدور في المعلولات وجودا وعدما وتختلف الفتوى باختلاف الزمان والمكان فيما لا يتعلق بأصول العقيدة والأركان وقد جاءت هذه الشريعة السمحة لجلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها ومن قواعدها المعتبرة أنه إذا ضاق الأمر اتسع والمشقة تجلب التيسير ويجوز ارتكاب أدني الضررين لدفع أعلاهما والحرج منفي عن الدين جملة وتفصيلا: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78] والدليل عدل الله في أرضه ورحمته في عباده شرع لإسعاد البشرية في أمروهم الروحية والجسدية والاجتماعية ولو فكر العلماء بإمعان ونظر لوجدوا فيه الفرج والمخرج من كل ما وقعوا فيه من الشدة والحرج ومن صفة رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ١٢٨﴾ [التوبة: 128]

هذه سماحة الإسلام يعضدها الشيخ الكريم بقوة الدليل وحاجة العصر ومقاصد الشريعة إنه اجتهاد يرفع الحرج عن المسلم ويبين له أحكام الدين بيسر وسهولة هكذا كان الشيخ نبراسا وضاء ومعقد الأمل والرجاء وداعية مخلصا إلى عقيدة صافية لا تشوبها شائبة وله الفضل بعد الله في تأكيد العقيدة الصحيحة ونشرها في بلاد قطر وعدد من دول الخليج.

خصالة ومناقبة:

لعل من أبرز مناقب الشيخ السماحة والكرم والجود والإنفاق بلا حدود في أوجه الخير وصلة الرحم والبر بالأقارب والأهل والتواصل معهم والعطف على الأيتام وتفقد أحوال المساكين.

ولمثل صاحب هذه الأخلاق الحميدة قصده الناس لقضاء حوائجهم كما كان مشاركا لهم في أفراحهم وأتراحهم كما كان يعود المرضى ويزور العاجز ويحرص على صلاة الجنائز ويشيعها حتى المقبرة والتعزية فيهم وإلقاء موعظة قصيرة على أهل المتوفين.

كان همه مساعدة الناس أينما كانوا. ولذا عرفه الناس وسموه (أبا المساكين ) و(أبا اليتامى ) لما له من أياد بيضاء في مساعدتهم.

أولاده:

لشيخنا رحمه الله (سبعة عشر ولدا) وعدد آخر من البنات وجميع الأولاد أنهوا دراساتهم الجامعية وبعضهم واصل الدراسات العليا وأكبرهم (محمد) رجل أعمال ويليه الشيخ عبد الرحمن رئيس المحاكم الشرعية في قطر بعد والده وهو يحمل الماجستير من الأزهر وتولى إدارة مجلة الأمه الشهرية القطرية سابعا وأحمد وهو وزير الدوله للشؤون الخارجية في قطر حاليا بعد أن تقلد منصب سفير في عدد من الدول من بينها الولايات المتحدة الأمريكية وعلي وهو سفير دولة قطر الحالي لدى المملكة وكل أولاد الشيخ السبعة عشر يعملون ويسهمون في التنمية الحديثة في دولة قطر في السلك المدني والعسكري ويتصفون بالسيرة الحسنة والنزاهة والالتزام.

أمل ورجاء: إن هذا أمل ورجاء أتوجه به إلى أبناء الشيخ في أن يدرسوا فكرة إنشاء مشروع خيري يخلد اسمه وذلك بإيجاد مكتبة تحمل اسمه يوضع لها نظام ومجلس وتكون إحدى المؤسسات الخيرية ليس في قطر فحسب بل نريد أن يتعدى نشاطها لكل أبناء العالم الإسلامي لمساعدة المحتاجين والأيتام والفقراء واللاجئين وطلبة العلم وأن تسهم في بناء المساجد والمراكز الإسلامية وأعمال الخير الأخرى.

ورجاء متصل أن يشرع أبناؤه في طباعة رسائله ومؤلفاته طبعة جديدة وتوزيعها على أبناء المسلمين ومراكز الفقه وكليات الشريعة في عالمنا الإسلامي.

ودعوة إلى الباحثين والمهتمين والدارسين في علوم الشريعة إلى دراسة منهج الشيخ في فتاواه وفقهه وإعداد الرسائل العلمية (ماجستير ودكتوراه) في دعوته وفقهه وأسلوبه في القضاء وتبنيه للعديد من المشروعات الخيرية والوقفية.

وأخيرا كلمة عتاب لعلمائنا وكتابنا:

لقد كان الشيخ ابن محمود رحمه الله واحدا من علمائنا الأبرار وتلقى تعليمه وعاش حياته بيننا ودرس العلم على يد مشايخنا وعلماؤنا الموجودون والآن هم زملاؤه وإخوانه أفلم يكن من الواجب أن تؤدى عليه صلاة الغائب رحمه الله في المسجد الحرام والمسجد النبوي وسائر الجوامع. كما كان من الواجب التنوية عنه في الصحف ووسائل الإعلام والمختلفه فهو عالم مشهور على مستوى العالم الإسلامي.

وهو قبل هذا وبعد ابن هذه البلاد رحمه الله وأحد طلبة العلم كلف بأمر ولي الأمر للعمل في قطر درس العلم على يد مشايخ البلاد وفي مقدمتهم سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله فلماذا قصرنا في حقه مع أنه سبق صلاة الغائب على عدد من العلماء والمشايخ لا يقلون عنه منزلة رحمهم لله جميعا.

وأخيرا:

هذه نبذه مختصرة عن الشيخ الجليل كما عرفته وإلا فهو أرفع مقاما وأجل مكانة عمل لخدمة دينه وإعلاء كلمة الله ونشر العقيدة الصحيحة فكان علمه مباركا ودعوته مستجابة وخيره وبذله وعطاؤه لا ينسى نعم لقد فقدنا فقيها مجتهدا مخلصا وفيا فدعاؤنا للشيخ الجليل بالرحمة والمغفرة والعتق من النار ورجاؤنا أن ينزله الله منازل الشهداء الأطهار وأن يوفق الله بنيه لتخلد ذكره الطيب ومناقبه الحميدة ففي الحديث الشريف (ينقطع عمل ابن آدم إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) وهذه الأمور نحسب أنها كلها متوفرة بحمد الله وجزى الله شيخنا الراحل أحسن الجزاء لما قدمه لأمته ودينه وخدمة جليلة والله ما أخذ والله ما أعطى وكل شئ عنده بمقدار.

انتهى