متقدم

عودة إلى فتوى رمي الجمار قبل الزوال

نشرت جريدة الشرق القطرية في 13 من يونية 1994 مقالا بقلم سعادة السيد عبد الرحمن بن عبد الله بن زيد آل محمود رئيس محاكم الشرعية بعنوان: عودة إلى فتوى رمي الجمار قبل الزوال قال فيه:

اطلعت على مقال للشيخ عبد القادر العماري نشر في جريدة الراية الصادرة في 21-12-1414هــ (1-6-1994) بعنوان " حتى لا تسفك دماء المسلمين عند رمي الجمرات" وليس لي أي تعليق على مضمون الرسالة التي وجهها إلى علماء المسلمين طلبا فيها أن يجتمعوا لإصدار فتوى شرعية بجواز الرمي قبل الزوال تيسرا على المسلمين وحفاظا على أرواحهم ولكن أثار استغرابي أن الكاتب لم يشر في مقدمته التي مهد بها لهذه الرسالة إلى أحد كبار العلماء الذي تفخر بهم دولة قطر الذي أفتى بجواز الرمي قبل الزوال وفي كل وقت من النهار والليل وكان الفقهاء في ذلك الحين يفتون بعدم جواز الرجم إلا بعد الزوال وحتى غروب الشمس ما أدى إلى وقوع وفيات عديدة وذلك هو الوالد الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود الذي سأتناول في هذا المقال طرفا من فتواه الشهيرة في الرجم قبل الزوال.

إن تناول هذا الموضوع في جريدة قطرية مع تجاهل الإشارة إلى صاحب الفتوى والذي ارتبطت باسمه حيث كان أول من قال بها في العصر الحديث فيه نوع من النكران والجحود الذي أعلم أن الشيخ عبد القادر لا يقصده ولكن لكل جواد كبوة.

وقد ترددت في أن أكتب حول موضوع يخص والدي الكريم الذي أعتبره والد الجميع كما يقول أهل قطر ولكن ما سمعت من محبي الشيخ الذين طالبوني بالكتابة حول هذا الأمر لإبراز جزء من تراثه العلمي شجعني على كتابة هذا المقال خاصة أن ما حدث هذا العام من ضحايا تزاحم الناس في المرجم يعضد هذه الفتوى التي أصبح الأخذ بها ضروريا وقد لاحظت تزايد الأصوات التي تطالب بضرورة النظر في توسيع وقت الرجم على المسلمين ومن ذلك ما نشرته جريدة الرياض السعودية بعنوان " رسالة إلى مركز أبحاث الحج " في عددها الصادر يوم الثلاثاء 28-12-1414هــ (7-6-1994) تناول فيه الكاتب بعض المقترحات بشأن تنظيم رمي الجمرات (كما أنني اتطلع إلى أصحاب السماحة والفضيلة من مشايخنا وعلمائنا الأجلاء أن يجتهدوا في الرأي ويصدروا فتوى بجواز الرجم قل الزوال- إن كان ذلك ممكنا شرعا- مما يخفف الضغط على هذا العدد الهائل من الحجاج في الوقت الوجيز جزاهم الله على المسلمين خيرا واقتداء برسول الكريم صلى الله عليه وسلم والذي كان يتحرى رفع الحرج والمشقة عن أصحابه الكرام واستئناسا بقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه " أفعل ولا حرج افعل ولا حرج " انتهي.

وإني أقول إن مسؤولية علماء الإسلام كبيرة في رفع الحرج والمشقة على المسلمين وإن هذه الأرواح التي تزهق والنساء التي تترمل والأطفال الذين يتيتمون بل العورات التي تكشف في زحام شبيه بيوم الحشر كان من الممكن إنقاذه لو أخذه الناس بهذه الفتوى التي أصدرها فضيلته منذ أربعين عاما ونبه فيها إلى خطورة حمل الناس على وقت قصير للرجم هوما بين الزوال (الظهر) أو غروب الشمس وأفتى بجواز الرجم قبل الزوال وفي كل ساعات النهار والليل إذ لا يوجد دليل صريح يمنع ذلك وقد كتب في ذلك رسالته الشهيرة " يسر الإسلام في أحكام حج بيت الله الحرام " وقد أحدثت الرسالة ضجة كبيرة في وقتها وتناولها الكثيرون بالتقريظ أو الرد وأحدثت جدلا واسعا حيث جاءت على خلاف الفتوى المعتمدة في الحج.

وقد سجل الشيخ في رسالته الموجة إلى العلماء الذين ناظروه بشأن فتواه حول الرجم والملحقة بكتابه " يسر الإسلام " مضمون رده على ما خالفوه وهي رسالة ممتعه تنمّ عن أسلوب علمي رصين وقدرة فائقة على الاستدلال والمجادلة بالتي هي أحسن حيث استهلها بنفي الكمال عن نفسه وطلب من العلماء تسديده إذا كان مخطئا في فتواه فقال عن كتابة: " إني وإن كنت أرى في نفسي إني أصبت فيه مفاصل الإنصاف والعدل ولم أنزع فيه إلى ما ينفيه الشرع أو يأباه العقل لكنني أعرف أني قرد من بني الإنسان الذي هو محل للخطأ والنسيان وأنتم (أي العلماء) من الفقه والإتقان بمكان تعرفون النصوص ولا تخفى عليكم القصود وهذا الكتاب بين أيديكم معروض والقول منكم بما يستحقه مفروض على كل أخ مخلص ناضج أن يجيل فيه النظر بإمعان وتفكر ولك أن يعيد دراسته ويعجم عود فراسته ليتضح له على الجليلة معناه ويقف على حقيقة مغزاه فإن تبين أني خلطت في الدراسة وأخطأت في الرواية وجئت قولا إداً وجرْت على الحق قصدا وجب عليه أن يسددني من الهفوة يسندني من الكبوة ويكشف لي بكتاب عن جه ما خفي على الصواب لأن الحق أحق أن يتبع والعلم جدير بأن يستمع والقصد واحد والغاية متساوية وكل ما على حسبه من العلم بكتاب ربه وسنة نبيه!

ثم يوضح الشيخ أساس الرأي الذي ذهب إليه وأنه يستند إلى الأدلة والبراهين الشرعية فيقول: (والله يعلم وهو عند لسان كل قائل وقلبه أني لم أتخوض فيما قلت بمحض التخرص في الأحكام ولا التقول بلا علم في أمور الحلال والحرام وإنما بنيت أصول ما قصدت على النصوص الجلية والبراهين القطعية قارنا كل قول بدليله مميزا بين صحيحه وعليله ودعوت فيه الناس إلى ما دعاهم كتاب ربهم وسنة نبيهم من السماحة واليسر بدل ما وقعوا فيه من الحرج والعسر)

ثم استدل الشيخ على من استدل بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم على منع الرمي قبل الزوال فقال (وسمعت من استدلالهم في اعتراضهم (أي فتوى الشيخ) بقوله صلى الله عليه وسلم" خذوا عني مناسككم " وإنه رمى اليوم الثاني والثالث بعد الزوال ولم يشعر هذا المعترض أن هذا الاستدلال هو عمدتي في المنقول وعدتي التي بها أصول وأجول وقد أجبت في هذه الرسالة على فرض تقدير هذه المقالة: من أن تركه للرمي قبل الزوال لا يدل على أنه غير وقت له كما ترك الوقوف بعرفه بعد العشاء إلى طلوع الفجر وهو وقت له (إي للوقوف)

ومع ذلك فهو لم يتركه (أي الرمي قبل الزوال) فقد رمى في أول يوم من أيام منى ضحى ثم رمى بقية الأيام بعد الزوال وفعله في هذا وهذا هو مشروع منه لأمته وإعلام منه بسعة وقته تأجل العمل به إلى قت حاجته فمن قال باختصاص الجواز بيوم العيد فهو مطالب بالدليل ولن يجد إليه من سبيل)

ثم يأتي بدليل آخر ردا على هذا الاعتراض فيقول: " من كان استدلاله إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني والثالث مع إعراضه وعدم نظره إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الأول وإلى قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن التقديم والتأخير (افعل ولا حرج) لزمه أن يقول بوجوب طواف الإفاضة في خاصة يوم العيد من غير تأخير كفعله صلى الله عليه وسلم وكذلك الحلق والتقصير على أنه لم يقل بذلك أحد ممن يعتد به وإنما جعلوه موسعا يفعله متى شاء ليلا أو نهارا وكذلك رمي الجمار إذ ليس عندنا أن رميها فيما بين زوال إلى الغروب كان على المؤمنين كتابا موقوتا)

ثم يذكر الشيخ علة تأخير النبي صلى الله عليه وسلم للرمي في اليومين الثاني والثالث إلى ما بعد الزوال فقال: " وقد ذكر بعض العلماء علة تأخير إلى الزوال وإنه إنما أخرها إلى ما بعد الزوال لقصد أن يصلى بالناس الظهر بمسجد الخيف من منى فيخرج للصلاة وللرمي خروجا واحدا كما فعل فإنه لما فرغ من رمي الجمار انصرف إلى المسجد فصلى بالناس فيه وذكرهم بأحكام حجهم "

وقد قلت في الرسالة إنه لوكان ما قبل الزوال وقت نهي غير قابل للرمي لبينه صلى الله عليه وسلم بنص قطعي الرواية والدلالة واردا مورد التكليف العام إذ لا يجوز في الشرع تأخير بيان مثل هذا عن وقت حاجته "

ثم يناقش فضيلته جواز الرمي قبل الزوال مستندا إلى أصول الشريعة من سقوط شرط الرمي في زمن معين للعجز عنه فيقول: " وقلت أيضا (أي في الرسالة) إنه لوكان التقدير بهذا الزمن القصير شرطا لسقط للعجز عنه أو لجاز تقديمه محافظة على أصل فعله لأن القول بلزومه يستلزم الحكم بسقوطه خاصة في هذه الأزمان مع شدة الزحام حيث إنه صار في حق أكثر الناس من تكليف ما لا يستطاع ولا يقول بلزومه على الجمع الكثير خاصة هذا الوقت القصير إلا من يحاول حطمة الناس وعدم رحمتهم "

ثم يستند الشيخ إلى نص ساقة العلامة ابن القيم فيقول: " إنني في مثل هذا المقام أُذكِّر فقهاء الإسلام بكلام ساقه العلامة ابن القيم في الأعلام من ذكر العلل والأحكام ما نصه:

" فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد، قال: وهذا فصل عظيم النفع جدا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة وأجب من الحرج والمشقة وتكليف مالا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به فإن الشريعة مبناها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي كلها عدل ورحمة ومصالح وحكمة فكل مسألة خرجت عن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بتأويل " انتهى.

ثم يستأنف الشيخ مناقشته لسقوط الرمي عن غير المستطيع لمرض أو كبر سن فيقول: " بل إن سقوط الرمي عن المعذور ثابت بالنص من إذن النبي صلى الله عليه وسلم للعباس أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته ولم يأمره بأن يستنيب فما بالك بسقوطه عمن لا يستطيعه بنص الكتاب والسنة ثم إن رمي الجمار في اليوم الثاني والثالث يتمشى مع قرائنه كذبح النسك وحلق الرأس وطواف الإفاضة مع العلم أنه ركن الحج وهذه كلها يجوز فعلها في أيه ساعه شاء من ليل أو نهار فما بالك برمي الجمار الذي هو أشد وأشق من هذه الأعمال وقد ذكر صاحب كشاف القناع أن الحاج لو أخر الجمار كلها حتى جمرة العقبة يوم العيد ثم رماها كلها في اليوم الرابع أجزأته ووقعت أداء (لا قضاء) لاعتبار أن أيام منى كلها كالوقت الواحد "

ثم يرد على من قال إن فتواه على خلاف ما عليه الناس كدليل على بطلانها فقال: " وأما الاعتراض بدعوى إنها خلاف ما عليه عمل الناس فإنها دعوى داحضة وحجة غير ناهضة فإن عدم عمل الناس بالشيء ليس دليلا على بطلانه في الشرع كما أن فعلهم للشيء لا يدل على صحته في الشرع فقد رأينا الناس يفعلون في الحج أشياء من الخالفة لا يجوز يتابَعوا عليها بل ولا يقروا على فعلها وإن كان لهم فيها وجه تأويل منها الدفع من مزدلفة فقد رأينا كثيرا من الناس يدفعون قبل نصف الليل وهم أصحاء أقوياء منهم العلماء والفقهاء مع العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقفوا به حتى الفجر ولم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الدفع لأحد قبلة سوى الضعفة من الغلمان والنساء وفي القرآن الكريم: ﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۚ﴾ [البقرة: 199]

والناس هم الرسول وأصحابه وهم إنما أفاضوا بعدما صلوا الفجر وأسفروا جدا فدل على أن الدفع قبل وقته فيه مخالفة واضحة ولم نجد من أنكره على فاعله.

ومنها رمي جمرة العقبة بالليل فإن هؤلاء الذين يدفعون يجمعون بين الدفع قبل أوانه وإساءة الرمي قبل دخول وقته لأن رمي جمرة العقبة من عمل يوم العيد أشبه نسك النحر والحلق والتقصير وقد أجمع العلماء على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رمى جمرة العقبة ضحى وفي حديث ابن عباس قال: أرسلنا رسول صلى الله عليه وسلم أغلمة (غلمان) بني عبد المطلب على حميرات لنا من جمع بليل فجعل يلطخ على أفخاذنا ويقول: (أي بني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس) رواه مسلم فاستباح أكثر الناس مخالفة هذه النصوص فصاروا يدفعون بالليل ويرمون الجمرة بالليل ويأتون المسجد الحرام بالليل من غير أن يجد أحدهم في نفسه حرجا من فعله بينما ينكر أحدهم ما يعد بعيدا عن المخالفة من القول بجواز الرمي قبل الزوال الثابت مشروعيته بالنص القطعي من أن النبي صلى الله عليه وسلم ما سئل عن شيء من التقديم والتأخير إلا قال " افعل ولا حرج"

ثم رد الشيخ على من ادعى انفراد الشيخ بهذا القول مع وجود من هو أرسخ منه في العلم (يلاحظ أن الشيخ كان في منتصف العمر في مواجه علماء ومشايخ كبار بل كان تلميذا عند بعضهم) فقال: وأما الاعتراض بدعوى انفرادي بهذا القول مع كون غيري أرسخ في العلم وأرقى في العقل والفهم فقد بينت في الرسالة تسمية من سبق إلى هذه المقالة والفضل للمتقدم وعلى فرض ما ذكروا فإن العلماء متفقون قاطبة على أنه لا يترك حق الانفراد قائله كما أنه لا يقبل باطل لكثرة ناقله وإن من كان على الحق فهو أمة وإن كان وحده.

فهذا الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد خالف سائر الفقهاء حتى الأئمة الأربعة في الوقف على الذرية فحقق القول ببطلانه في رسالة ممتعة وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد خالف الأئمة الأربعة فيما يزيد عن سبع عشرة مسألة بل أنهى ابن القيم مخالفته لبعضهم إلى ما يزيد عن خمسين مسالة منها: الطلاق الثلاث بلفظه واحد وكونها عن واحدة ومنها اليمين بالطلاق وأن فيه إذ ا حنث كفارة يمين وقد شنوا عليه من أجلها الغارات بحجة أنه خرق الإجماع العام وأباح للناس الفرج الحرام ومع هذا كله فقد ازداد قوله نورا وعاد قول معاديه بورا ورأيهم ثبورا.

ومن المسائل التي خالف فيها الأئمة: كون المستمتع يكفيه سعي واحد كالقارن لأن مسماهما في كتاب الله واحد فالقارن اسم للمتمتع كما أن المتمتع اسم للقارن وأن هذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة.

ومنها المرأة التي حاضت قبل ان تطوف طواف الإفاضة وخشيت على نفسها إن تخلفت عن رفقتها فأفتاها بأن تطوف وهي حائض وبه يصح حجها. فاستباح بهذه الفتوى نهيين مؤكدين أحدهما: دخولها المسجد الحرام وهي حائض وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " إني لا أحل المسجد لحائض " والثاني: طواف التطهر وانقطاع الموجب. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة " افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري " لأنه لدقيق فقهه وغوص فهمه يعلم أن هذه النصوص العمومية يدخلها التخصيص بالإباحة لسبب اقتضى ذلك فتجعل المنهي عنه مأمورا به لقوله تعالى: ﴿ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ ﴾ [البقرة: 173] كالصلاة فإن من شرطها الطهارة بالماء أو التيمم عند عدمه أو تعذر استعماله وقد جوزوا لعادم الطهورين الصلاة حسب حاله لأن هذا هو غاية وسعه والله لا يكلف نفسا إلا وسعها وللضرورة حال ويتعلق بها أحكام غير أحكام الاستطاعة والاختبار.

ثم رد الشيخ على المعترضين المستدلين بفعل النبي صلى الله عليه وسلم بسؤالهم حول مبرر تحريم الرمي ليلا فقال: " وهب أنهم (اي المعترضين) وجدوا دخول وقت الرمي بالزوال استنادا بمفهوم الفعل فمن أين يجدون انتهاءه بالغروب؟ وأن الليل لا يجوز فيه رمي كما لا يصح فيه صوم "

ثم يوضح السبب في تعود الناس في ذلك الوقت على الرمي قبل الزوال فقال: " وعندي أنه لما كان ما بعد الزوال هو أفضل وقت يرمي فيه الحاج تأسيا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم صار يتبعون الأفضلية في هذا الوقت حيث لا طرد ولا ضرب (لم يكن عدد الحجيج كبيرا في الزمن الماضي) فتبع الناس بعضهم بعضا التماسا للأفضل فظن عامة الناس أنه فرض محتم لأن الناس غالبا يألفون ما يعرفون ويأنفون مما لا يألفون ومن عادة الحجاج في ماضي السنين أنهم يتبعون أمير الحج في سائر فعل مناسك الحج فيرمون برميه وسبب استمرارهم على فعله أنهم ظنوا أن الرمي في خاصة هذا الوقت واجب محتم عليهم.

ثم يختم الشيخ رسالته إلى العلماء بأسلوبه الفذ فيقول " وفي الختام فإن الإنسان مهما كان فإنه عرضة للخطأ والنسيان وما من الناس إلا راد مردود عليه بحق أو بغيره لأن صواب القول صدقة وعدله وغير كافل لصيانته من الرد عليه والطعن فيه حتى لكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل حكيم حميد فإنه لم يسلم بكماله من الطعن في كلامه وأحكامه (وكذب به قومك وهو الحق) فما بال بكلام من هو مثلي وأنا المقر على نفسي بالخطأ والتقصير وأني لدى الحق أسير.

ويعذرني القارئ إذ كنت قد أطنبت في نقل فقرات من الرسالة فقد هدفت إلى إعطاء القارئ فكرة واضحة عن فتوى الشيخ والحجج التي استند إليها حتى يستطيع أن يتبين وجه الحق فيه ولا يتحرج من الرجم قبل الزوال أول الليل.

وأن أنقل عن رسالة " يسر الإسلام" للشيخ عبد الله بن زيد آل محمود هذه الفقرة التي توضح من سبق إلى القول بجواز الرجم قبل الزوال: " فإن القول بجواز رمي أيام التشريق قبل الزوال مطلقا هو مذهب طاووس وعطاء ونقل في التحفة عن الرافعي أحد شيخي مذهب الشافعي الجزم بجوازه قال: وحققه الإسنوي وزعم أنه المعروف مذهبا وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه يجوز الرمي قبل الزوال للمستعجلين مطلقا وهي وراية عن الإمام أحمد ساقها في الفروع بصيغة الجزم بقوله: وعنه (أي الإمام أحمد) يجوز رمي مستعجل قبل الزوال وقال في الواضح: يجوز الرمي بعد طلوع الشمس في الأيام الثلاثة وجزم به الزركشي ونقل في بداية المجتهد عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: رمي الجمار من طلوع الشمس, وروي عن الدار قطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص للرعاة أن يرموا جمارهم بالليل وأية ساعة من النهار" إلى أخر ما نقله الشيخ حول هذه المسألة.

ومنذ صدور الفتوى المذكورة تتكرر كل سنة تساقط الضحايا وقد استمر الحال ولمدة ثلاثين سنه وبعد صدور فتوى الشيخ والرجم محصور فيها بين الزوال والغروب حتى صدرت منذ اكثر من عشر سنوات فتوى جديدة بأكثرية الآراء تبيح الرجم في الليل حتى الفجر دفعا للمشقة التي تلحق بالحجاج وذلك بعد تزايد أعداد الضحايا وأن زيادة أعداد الحجيج تتطلب إعادة النظر من أصحاب الفضيلة العلماء الكرام في إجازة الرجم قبل الزوال رحمة من الله بالمسلمين وتيسيرا عليهم وهل أكثر من هذا الحرج والمشقة الذي يودي بالحياة وإزهاق الأرواح التي طالب الشرع الحنيف بحفظها وصيانتها. وإن إباحة الرجم ليلا لمن لم يتمكن منه نهارا لا يحل المشكلة حيث إن الحاج في ثالث أيام العيد يكون قد حزم متاعه مستعدا للسفر ويتوجه للجمرات للرمي ثم الذهاب إلى الحرم لطواف الوداع فإذا ذهب إلى الجمرات مبكرا رغبة في تجنب الزحام في الرمي أو الطواف واجهه بعض الشباب في طلبة العلم بمكبرات الصوت يطلبون من الحجاج عدم الرمي قبل الزوال وأن ذلك لا يجوز والكثير من الناس الذين لا يعلمون ما في هذا الأمر من خلاف يقفون في الانتظار أو يعودون لحين اقتراب الزوال وتتراكم جموع الناس حول منطقة الجمرات وتزايدون حتى تحين ساعة الزوال فتندفع الآلاف المؤلفة نحو الجمرات يقذفونها ثم يعودون إلى المسجد الحرام لطواف الوداع وفي هذه الأثناء يخلط الحابل بالنابل فمن ذاهب للرمي ومن عائد منه والجموع الغفيرة تندفع لإنجاز مهمتها غير عابئة بمن يسقط بين الأقدام والكثير من الناس لا يعرفون مصيبة السقوط في مصيدة الزحام حيث لا يستطيع الإنسان التقدم أو التأخر وتضغط عليه الجموع من أكثر من جهة فلا يستطيع أن يتنفس ولا يقدر على الخروج بل إن بعضهم من حلاوة الروح يقذف بنفسه من فوق جسر الجمرات إذا كان قريبا من حافته.

ولا ننسى ان الكثير من الناس يذهبون للرجم للمرة الأولى فهم لا يعرفون خطورة الرمي في هذا الوقت إذا اكتشف خطورة الأمر وقرر الانسحاب وترك الرمي فرارا بحياته فإن الوقت يكون متأخر للتراجع فلا سبيل للخروج ويتوجه إلى ربه بالدعاء عله ينجيه من هذه المهلكة فأقدامه لا تصل إلى الأرض وهو مرة فوق الرؤوس ومره بين الأقدام وتأخذه الجموع معها يمنة ويسرة وفي النهاية قد يكون بين الموتى أو الجرحى أو يخرج بملابس ممزقة وبأقدام حافية بل إن النعال المتراكمة تصل إلى ارتفاعات تعرقل السائرين وهي تجربة يظل الحاج الذي مر بها يتذكرها طوال عمره.

ولا شك أن هناك بعض الأمور التنظيمية التي قد لا تخفى عن الجهات المنظمة للحج والتي يمكن أن تخفف من حدة المشكلة كمنع الحجاج من افتراش الأرض تحت الجسور المحيطة بالجمرات ونطاقها ووضع نظام للسير يمنع تقاطع المشاة بأن يكون السير في اتجاه والعودة في اتجاه آخر

ولكن يبقى أن تتبنى هيئات الإفتاء فتوى الرجم قبل الزوال حفاظا على أرواح المسلمين وللضرورة التي تستدعي ذلك في هذا الزمان.

والله نسأل أن يوفق علماءنا وأئمتنا إلى ما فيه من خير العباد والبلاد والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

انتهى