متقدم

عبدالله بن زيد آل محمود العالم النحرير والفقة الثبت, كما عرفناه

لقد كانت فاجعة الوفاة كبيرة بالنسبة للجميع ليس اعتراضا على أمر الله فالموت لا مفر منه والأجل محتوم ولكن لأن خسارة فقد الشيخ ابن محمود لا تعادلها خسارة سواء على مستوى قطر أو على مستوى العالم الإسلامي بأسرة وما ذاك إلا لأنه رحمه الله كان أمة واحده لأنه كان على الحق فيما أفتى به وما حكم به باعتراف جهابذة العلماء يكاد الإجماع ينعقد بين العلماء والمفكرين على أن الشيخ ابن محمود هو من العلماء القلائل الذين صدحوا بقول الحق حينما تبين لهم دونما خشية من أحد إلا الله ودون خوف من لومة لائم في الله وقد ثبت رحمه الله على هذا النهج طوال حياته فكبُر في عين الصغير والكبير وغدا مثالا يُحتذى به في العلم والورع والتقوى والجرأة في قول الحق وربما تخونني الذاكرة قليلا وقد لا تسعفني كلية وأنا استعرض بعض جوانب شخصية هذا السلفي العظيم منذ عرفته وتوثقت صلتي به عندما زار بيروت للعلاج عام 1975م وكنت أعمل آنذاك في سفارة قطر وإن كنت قبل هذا التاريخ أسمع عنه وأقرأ له الكثير وأستمع إلى خطبه في الجمعة والأعياد والاستسقاء وقد بلغ حبي له وتأثري بشخصيته وتعلقي به أن الله سبحانه منّ علي بحفظ الكثير من فتاواه ورسائله وخطبه التي أفدت منها كثيرا في أبحاثي وأطروحاتي وما زلت كذلك أعتبرها الأساس في كل شيء وغالبا ما يتم الاقتباس من هذه الخطب الجامعة والاستشهاد بأسلوبها البليغ في الكثير من المناسبات.

وفي بيروت ازدادت صلتي به كما قلت كثيرا فكنت أتدارس معه رسائله وأقرأ عليه بعض خطبه فكان يسر بذلك وتنشرح نفسه وقد أهداني رحمه الله عندما زرته في قطر كل رسائله وفتاواه وكنت عندما أزور قطر في الإجازات أحرص على زيارته أسبوعيا وتتحول الزيارة إلى تذاكر واستذكار لهذه الخطب والتي ما يزال صداها يدوي في كل أنحاء العالم الإسلامي وكان رحمه الله حريصا بدوره على أن يوافيني بنسخة من رسائله الجديدة فور صدورها وخروجها من المطبعة.

ولقد انتابتني حيرة كيفية تناول مآثر هذه الشخصية التي ظهرت على المسرح الإسلامي في هذا القرن وفي هذه الحقبة التي قال فيها رأيه الصريح وصدع بفكره النير في كثير من المسائل والمشكلات التي تهم العالم الإسلامي كما أن حكمته في المعضلات وفي كبريات المسائل جعله في مصاف الفقهاء الذين يشار إليهم بالبنان في دنيا الإسلام.

إن سيرته مثال يحتذى به للرجل العصامي الذي شق طريقة بعزيمة لا تعرف الكلل معتمدا على ربه وتعهدته والدته بالرعاية مع خاله نظرا لفقده والده منذ صغره وكان دعوات والدته الصالحة خير معين له بعد الله.

ورغم قسوة الحياة في وقته الذي نشأ فيه إلا أن إيمانه بالله وتصميمه على بلوغ هدفه وتحقيق تطلعاته فرض عليه أن يتحدى الصعاب وأن يجوب البوادي والحواضر سعيا في طلب العلم لم يتوان ولم يتأخر تنقل في مدن المملكة العربية السعودية كالرياض ومكة وغيرهما يطلب العلم على أيدي مشايخها وما أن سمع بوجود الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع يدرس في المدرسة الأثرية في قطر حتى شد إليه الرحال بحدوه شغف ليغترف من علم هذا العالم.

فدخل مدرسته وكان من أذكى وأنبه تلاميذه لمس في علامات النجابة والفطنة حتى إنه عندما طلب الملك عبد العزيز من الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع أن يرشح لقطر قاضيا بناء على رغبة حاكمها الشيخ عبد الله بن جاسم آل ثاني في عام 1359هــ زكى الشيخ ابن مانع الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود لهذا المنصب لكون هو القاضي قائلا له: إذا كان قطر تريد قاض فالشيخ ابن محمود هو تلميذي وأنا اعرفه حق معرفة وأعرف ما يتمتع به من طول باع وسعة اطلاع في علوم الفقه والتفسير والحديث.

وقد لبى رحمه الله هذه الرغبة القطرية بعد أن وقع عليه الاختيار للقضاء رغم أنه كان يدرّس في الحلقة في الحرم المكي عندما ناداه المنادي للسفر إلى الرياض حيث كان استعد للإيفاد للدراسة في الأزهر كما أوضح لي رحمه الله.

ويقول تقرير المحاكم الشرعية إنه باشر عمله فور وصوله إلى قطر عام 1359هــ بتنظيم المحكمة الشرعية وإليه يعود الفضل في إرساء لبِنات هذا الصرح القضائي على أسس حديثة حيث باشر في تسجيل القضايا وقضايا المواريث وكتابة أوراق الطلاق والأحوال الشخصية وتنظيم الإجراءات واتخذ من الشيخ حسن بن محمد الجابر رحمه الله عونا وسندا له وبعبارة أخرى يمكن القول إن تاريخ القضاء الشرعي الرسمي بدأ في قطر ببدء تولي الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود أمانة القضاء إذ لم يكن هناك قضاء رسمي قبل هذا التاريخ يتضمن شكلا للمحكمة وأجهزتها الإدارية والفنية ثم أتبع رحمه الله هذا التنظيم بإنشاء إدارات خاصة بالوقف والمساجد وشؤون المقابر والوصايا وغيرها لتكمل الحلقة ولتصبح المحاكم الشرعية في تنظيمها تضاهي أحدث النظم المعمول بها في بلاد العالم.

وكان رحمه الله يبتُّ في مختلف القضايا كمسائل العقارات والطلاق والزواج والديات والتعويضات والحوادث والجنايات وغيرها وابتدأ رحمه الله رغم انشغاله بمسائل القضاء التي من لوازمها شغل الفكر وتشتت الفهم يخرج إلى دائرة أعم وأرحب لينطلق منها إلى حيث ذاع صيته في العلام والإسلامي باجتهاداته وفتواه وعهد على نفسه كما أبان لي رحمه الله أن يظهر عمله للناس لأن العلم أمانة والكتمان خيانة كما كان يردد رحمه الله خاصة إزاء ما لاحظه من اختلاف المسلمين في بعض المسائل وكانت نقطة البداية في فتاواه التي انطلق منها في رسالته حول جواز رمي الجمرات قبل الزوال التي أفتى بها منذ نحو أكثر من أربعين عاما .

وبالرغم مما في هذه الرسالة من التيسير على المسلمين إلا أنها أهاجت عليه غضب بعض العلماء وبخاصة علماء المملكة الذين ألف بعضهم رسائل في الرد عليها ولكنه لم يتبرم بما أبدوه من آراء معارضة بل فسح المجال لهم للتعبير عن آرائهم بل ووجه في هذا الشأن رسالة إلى مشايخ الرياض الكرام كشفت عن أدب الحوار والالتزام بالأدب الشرعي الذي يتميز به علامتنا الجليل وشاء الله أن تحظى هذه الرسالة بالقبول فيما بعد يؤيده فيها العديد من العلماء وبذلك عاد رأيه نورا وعاد قول معارضيه بورا.

وقد حججت ولله الحمد عدة مرات وسمعت الكثير من الحجاج يدعون للشيخ بعد رمي الجمرات على فتواه التي رفعت عنهم الحرج الكثير وهو ما أدى إلى تهافت الكثير من الجهات والجمعيات عليها يطلبون ترجمتها إلى الأردية والفارسية والإنجليزية والفرنسية ذلك أن رسائل الشيخ التي اجتهد فيها تمتاز كما يقول العلامة الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي بأنها رسائل تبحث في مشكلات العصر تعالج الواقع وتحرر من التقليد وتتبع منهج التيسير وروحه في ضوء القواعد الكلية للشرع الحنيف.

ومن المميزات التي امتاز بها الراحل الكريم وهي ميزات كثيرة أنه لا يضيق ذرعا بالرأي المخالف ولا يتبرم منه كما أشرنا بل يفتح قلبه للحوار ويتمنى أن يرشده الآخرون إلى خطئه إذا أخطأ وحتى في رده على المعارضين فإنه يسلك الأسلوب الرصين الواقعي والمهذب الملتزم بحدود الأدب الشرعي وإذا شئت أن ترى ذلك فانظر إلى رده على مقال الشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رشيد رحمه الله فيما يتعلق بمسألة الأضحية عن الميت التي ألفها ورد الشيخ ابن رشيد فقد قال الشيخ ابن محمود كلاما هو ذروة في الأدب الرفيع والخلق السامي حيث قال: وإنا لنرجو لفضيلة الشيخ عبدالعزيز الأجر والثواب سواء أخطأ في النقد وأصاب لأنه وإن رد علي أو رددت عليه فما هو إلا محض التلقيح ويبقى الود ما بقي العتاب. وهكذا كانت موافقة في كل رسائله وردوده!

ومن نعم الله على فضيلته وتوفيقه له أن وجدت هذه الرسائل والفتاوى صدى واسعا في العالم الإسلامي وترحيبا شديدا بها وإعجابا بمؤلفها وهنا لابد لي من شهادة رأيت تسجيلها للتاريخ فقد دخلت ذات مرة على الشيخ حسن خالد مفتي لبنان السابق رحمه الله وكان ذلك في أواخر السبعينيات لأزوره كالمعتاد وإذا بي أجد معه نسخة من رسالة الشيخ حول الطلاق البدعي والطلاق السني فبادرني بالقول: جزى الله الشيخ ابن محمود خيرا لقد حل لنا بهذه الفتوى مسائل عويصة في الطلاق يعاني منها المجتمع اللبناني والمجتمع الشامي عموما ولا نملك جميعا – وأرجو أن تبلغه – إلا أن ندعو الله له بالسداد والتوفيق وطول العمر فما أحوج أمتنا إلى مثله فقيها متبحرا وبصيرا.

وفي مسائل عقود التأمين التي أفتى فيها رحمه الله وقال فيها القول الفصل فمن الطرائف الجميلة التي حكاها لي فضيلته رحمه الله أنه كان يوما في زيارة للملك خالد رحمه الله في الطائف وكان فضيلته يجلس بجانبه وإذا بشخص يبدو أنه أعرابي يدخل على الملك ويسلم عليه وكان الملك قد أهدى هذا الشخص سيارة جديدة له وبادره الملك بقوله: يا فلان وهل دفعت عليها رسوما للتأمين ؟ قال: نعم فقال له الملك ولماذا تدفع ذلك أما تعلم أن التأمين حرام فقال له الرجل: يا طويل العمر لقد سمعت أن في قطر عالما فاضلا جليلا يدعى الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود أفتى بجواز التأمين فاتبعته والتزمت بفتواه لأني وجدت الناس أخذوا بها فقال له الملك ضاحكا مبتسما وهل تعرف الشيخ ابن محمود؟ قال: لا فقال الملك: حسنا هذا هو الشيخ ابن محمود الذي تذكره فقام الرجل وشكر الشيخ ودعا له

لقد اكتسب الشيخ ابن محمود شهرة واسعة في العالم الإسلامي بأسره بهذا الاجتهادات والفتاوى وأصبح اسم قطر يقترن باسمه.

وقال لي أحد القطريين: إنه زار إحدى مدن الهند فسألوه: من أي البلاد أنت؟ فقال: إنه من قطر. فقالوا: أهلا بك فأنت من البلاد التي فيها العالم الكبير الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود.

لقد كانت رسائله متنوعة عالجت موضوعات كثيرة يحتاج إليها المسلمون في حياتهم ويتطلعون لحسم الجدل القائم بشأنها فكفاهم فيها فضيلته المؤونة ووجدوا عنده البغية ومن هذا الرسائل الفتاوى على سبيل المثال ما فيه خلاف واختلاف مثل: جواز الإحرام من جدة للقادمين على متن الطائرات وظهور السفن وأحكام عقود التأمين والغناء وما عسى أن يقال فيه من الحظر واجتماع أهل الإسلام على عيد واحد كل عام ولا مهدي ينتظر بعد الرسول خير البشر.

ومن هذه الرسائل إبطال مزاعم يراد بها تشويه سمعة الإسلام مثل بدعة الاحتفال بالمولد النبوي وزواج المتعة وغيرها ولم يكن فضيلته في رسائله بمعزل عما ينتاب أمته من مشاكل وما يدور فيها من حروب وصراعات فقد ألف رحمه الله رسالة بين فيها موقف الإسلام من الاقتتال في لبنان كما بين موقفه أيضا من بعض العقائد الوافدة الدخيلة على ديار الإسلام في رسالته عن الاشتراكية الماركسية ومقاصدها السيئة.

وكعادة فضيلته في قوله الحق والجرأة والشجاعة دونما خوف ولا وجل كان ينصح ولاة أمر المسلمين في جميع بقاع العالم بالعدل ورفع الظلم والاحتكام إلى الشريعة الغراء والحكم بها من خلال رسائله الكثيرة بين ثناياها نظرا لما لأسلوبه في رسائله من طابع خاص وروعة بلاغية فقد أطلق بعض العلماء على أسلوبه: "السهل الممتنع" كما أن خطبه كان يلقيها في أيام الجمع التي امتدت قرابة أربعين عاما وكذلك في الأعياد والاستسقاء لها وقع ونمط من طراز فريد بما تحتوي عليه من آيات كريمة وأحاديث نبوية وأشعار يغديها بها وهو ما حذا بالكثير من المسلمين الساكنين في الديار المجاورة إلى الحرص على الاستماع إلى خطبة من إذاعة قطر مرتين إحداهما في صلاة الجمعة والأخرى في ليلة السبت وجزى الله فضيلته خيرا من أحسن صنعا بجمع هذه الخطب في كتاب أسماه: "الحكم الجامعة لشتى العلوم النافعة" نرجو أن يكون ذلك في ميزان حسناته لأنه من العلم الذي ينتفع به الميت بعد موته.

أما عن فتاواه في الأحكام فحدث عنها ولا حرج فقد حكم في أعقد المشكلات وما رأيت أسلوبا مثل اسلوبه في صياغة الفتاوي وأقولها صادقا:

لقد كانت كل كلمة منها تحتاج إلى قاموس من فرط قوة البلاغة وجمال التعبير ورصانة التدبيج أرسل لنا فضيلته ذات مره فتوى بشأن مسألة تركة ميراث وكان جزء من هذه التركة عبارة عن عقار في لبنان وقد صيغت الفتوى بأسلوب أدهشت المحامين ووقفوا إزاءها مشدوهين لما انطوت عليه من أحكام وقواعد والأكثر من ذلك فقد عرفت من مصادر أن بعض الدول المجاورة وبعض الدول العربية يكتبون لفضيلته يستطلعون رايه في بعض أحكام الجنايات قبل إصدار الحكم وأحيانا يرسل الحكم لفضيلته لإبداء رأيه فيه .

وهنا لابد لي أن انقل شهادتين تدلان دلالة كبرى على المكانة المميزة لهذا العالم عند علماء المسلمين.

ففي الخمسينيات ذهب جماعة من أهل قطر بينهم خصومة بشأن ميراث والدهم إلى الرياض للاحتكام لدى الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع رحمه الله الذي كان قبل ذلك قاضيا في قطر وسبق له حكم في هذه القضية بغية أن يكمل الشيخ ابن مانع النظر فيها وفي بعض تداعياتها التي ظلت عالقة كما نظرها أول مرة حكم فيها ولما وصلوا إلى الرياض وقابلهم الشيخ ابن مانع وكان يومئذ مشغولا بهموم وزارة المعارف السعودية قال لهم والكلام لأحد أطراف الخصومة: كيف تتكبدون مشاق الحضور وعندكم الشيخ ابن محمود فهو في هذه المسائل ربما يكون أطول باعا مني.

وفي الستينيات ذهب شخص من قطر أرسله والدة يستفتي الشيخ ابن باز في الرياض حول علاقة الأب بالابن فيما يملكانه فما كان من الشيخ ابن باز والكلام لراوي الحديث الذي ما يزال على قيد الحياه حينما عرف أنه قدم من قطر قال له: كيف جئت إلي وعندك الشيخ ابن محمود ؟ وسأله: ماذا قال لك الشيخ ابن محمود؟ قال: قال لي: الولد وما يملك لأبيه قال له الشيخ ابن باز: وأنا أثني على هذا الكلام. وما قاله هو الصحيح اذهبوا للشيخ ابن محمود صاحب الباع الطويل في الفتوى والفقه.

وإنني وقد اطلعت على كل هذه الرسائل والفتاوي والخطب تقريبا كما اطلع عليها غيري وأهيب بطلاب العلم في مختلف جامعات العالم العربي والإسلامي أن يبحثوا في اجتهادات وأسلوب هذا العلم وفي خطبه وما فيها من بلاغة ورصانة وأن يعدوا رسائل ماجستير ودكتوراه حول فكر هذه الشخصية العظيمة حفاظا على التراث والفكر الإسلامي الذي يمثل إسهام هذا العالم.

ابن محمود الإنسان: أما عن الشيخ ابن محمود الإنسان فسجلة ولله الحمد في قطر ناصع البياض وعمله هو خير ما يخلده فلا يزال أهل قطر جميعا يذكرون له رحمه الله مواقفه اتجاه الأيتام والأرامل والمساكين ممن عمل على تنمية وقفهم أو ميراثهم وذلك بشراء البيوت لهم حتى بلغوا سن الرشد وأصبح لهم ما يقتاتون به وكم من أيتام فقدوا أباءهم نتيجة موتهم في حوادث فاستثمر مبلغ دياتهم وهم صغار حتى شبوا على الطوق وأصبحت هذه الاستثمارات تدر عليهم دخلا يعينهم على مجابهة تكاليف الحياة وكم من بيوت قديمة يشترك فيها ورثة كثيرون يستفيدون منها وفيهم ضعاف ومحتاجون كل هذه المواقف لا تنسى للشيخ الجليل.

ابن محمود القدوة والمثل: وأما الشيخ الذي يحتذى فالكلام فيه يطول فقد رزقه الله المال والعلم والولد واستجابة لدعوة والدته غفر الله لها فإذا بذريته على ما نشهد ذرية صالحة بعضها من بعض ومن أطرف ما رأيناه من حسن تربية هذا الشيخ لأبنائه أنه كان يحرص على تفقدهم يوميا حيث يصلون معه في المسجد في كل صلاة وكل منهم يأتي ليسلم على والده ثم يجلسون معه في مجلسه بكل أدب واحترام فيا لها من تربية وما أعظمها وكثيرا ما كنت أسمعه رحمه الله يردد هذا الدعاء: "اللهم أصلح لي في ذريتي ".

رحمك الله أيها الشيخ الجليل: كم أمتعتنا بصوتك الندي وأنت تقرآ القرآن الكريم في صلاة التهجد والتراويح ونحن نصغي إلى القرآن الكريم في صلاة التهجد والتراويح ونحن نصغي إلى القرآن ينطق به لسانك غضا طريا لقد أكرمك الله بحفظ كتابه ومنّ عليك بتثبيته في قلبك حتى آخر لحظات حياتك فبالرغم من مرضك وعجزك وكبر سنك ونسيانك إلا أنك لم تنس القرآن. وكنت تتابع الآيات مع القارئ في شريط التسجيل وقد روى لي الشيخ سعيد لطفي إمام مسجد الشيوخ وكان يتابع مع فضيلته القرآن يوميا في المحكمة كل صباح والشيخ رحمه الله كان يقرأ يوميا جزأين أو ثلاثة دون أن أرد عليه في غلطات إلا ما ندر وما كان يخطئ في التشابهات وهذه نعمة من نعم الله على شيخنا حيث ثبته الله بالقول الثابت.

وما أطيب مجلسك الذي تعطره بالقرآن وبذكر الله ما أجمل تلك الجلسات التي أجلس فيها معك وأقرأ عليك شيئا من خطبك ورسائلك فتنشرح نفسك وتسر غاية السرور وأحيانا تترقرق عيناك بدموع الفرح.

ما أعظم تلك الجمع التي سعدنا فيها بخطبك العظيمة في مسجد الشيوخ ومسجد آل أحمد وفي صلاة العيد حين ترقى المنبر تعلوك الهيبة والوقار وما أعظم خطبة العيد التي كنت تخطب بها وتشد المصلين إليها.

رحمك الله يا شيخنا ذهبت إلى ربك راضيا مرضيا فرحا بلقائه وأنت الذي قلت في الكثير من خطبك: لا يجزع من الموت إلا الذي لم يقدم لآخرته خيرا والحمد لله ها أنت قد رحلت تحمل في صدرك القرآن الكريم والذي يؤنسك في قبرك وعملك الصالح وخلفت العلم الذي ينتفع به والولد الصالح الذي يدعو لك.

عبدت الله حق العبادة صمت النهار وقمت الليل وتقربت إلى الله بالطاعات والصدقات التي ما كنت تريد أن يعلم بها أحد حتى أتاك اليقين .

سنظل نذكرك يا شيخنا ما حيينا وسيظل يذكرك كل من عرفك ولقد أحببت أهل قطر كلهم كما أحببت عائلتك فكنت موضع ثقتهم وسرهم تعرفهم حق المعرفة حتى درجة القرابة في الأسرة الواحدة ستبقى أعمالك وفتواك ورسائلك وخطبك شاهدة لك تتداولها أجيال الإسلام جيلا تلو جيل وأنت الذي لم تضعها إلا طلبا في مرضات الله وفي كل ما يعود عليهم بالخير في دنياهم وآخرتهم بهذه المناسبة كم نتمنى على إذاعة قطر أن تعيد خطب الشيخ رحمه الله وهي موجودة ومسجلة لديها وحبذا لو كانت تتابع كل أسبوع وفي إذاعة القرآن الكريم حتى يعرف الجميع فضل وقدر ومكانة الشيخ ابن محمود.

وإلى أبنائه الكرام الصالحين الذين رباهم فأحسن التربية نقول: كونوا على قلب رجل واحد إخوة متحابين تسيرون على هديه كما كان يؤمل ويرجو.

وفي الختام هذا بعض من سيرة عالم أوجدت وفاته ثلمة في صفوف الأمة ونسأل الله أن يعوضها في فقده خيرا وسوف يظل الشيخ ابن محمود حيا باقيا بعلمه وفكره وسوف يبقى قبسا ينهج منه العلماء والدعاة ورجال الفكر.

فاللهم ارحم شيخنا وأجزل له المثوبة واجمعنا به في جنتك أفسح له في قبره ونوّر له فيه وأدخله في الصالحين من عبادك وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.

انتهى