متقدم
 

فصل في تسمية النصارى بالمسيحيين

إن تسمية النصارى بالمسيحيين هي نظير تسمية اليهود بإسرائيل فهما في البطلان سواء، فإن النصارى وإن تشدقوا بأنهم أتباع المسيح لكنهم بالحقيقة أعداؤه المخالفون لأمره والمرتكبون لنهيه، قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً، وضلوا عن سواء السبيل. فلا يجوز متابعتهم على تسميتهم الكاذبة الخاطئة التي لم يثبت لها أصل في الكتاب ولا في السنة ولا عن الصحابة، ولم يكونوا معروفين بهذه التسمية لدى كافة المؤرخين المتقدمين.

لو كان حبك صادقاً لأطعتَه
إن المحب لمن يحب مطيـــــع

﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ٦ وأحمد هو من أسماء الرسول، لكون الخلق يحمدونه يوم القيامة، كما أن اسمه محمد في التوراة والإنجيل والقرآن، لكنهم حذفوها من جملة ما حذفوه حسداً له وللعرب، يقول الله: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ. فهذه الجملة هي مما أخفوه، كما قال – سبحانه -: ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ۖ وهذه الآية هي من الشيء الكثير الذي أخفوه. ومثله ما روى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: إنا لنجد صفة محمد في التوراة إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً وحرزاً للمؤمنين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة، بل يعفو ويغفر ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، بأن يعبد الله لا يشرك به شيئاً ويفتح الله به أعيناً عميا وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً.

ولما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بداية نبوته قال: (دعوةُ أبي إبراهيمَ وبُشرَى عيسَى ورؤيا أمِّي آمنةَ).

وقد أنزل الله الإنجيل على نبيه المسيح كالمتمم لما قبله من التوراة المشتملة على الشرائع والأحكام وأمور الحلال والحرام، يقول الله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وقد حصل فيها من الحذف والتغيير فيها بما استباح فعله القسيسون الذين يغيرون من شريعة الرب ما يشاءون ويشتهون، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون.

وقد صنف شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - كتابه «الجواب الصحيح فيمن بدل دين المسيح» وذكر فيه أن النصارى بدلوا دين المسيح وغيروه عن حقيقته وكفروا بما جاء به من الحق، يقول الله: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۗ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ٦٨ وكذلك يقال إن أولى الناس بالمسيح للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا به. وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أنا أولى الناس بعيسى بن مريم، لأنه ليس بيني وبينه نبي» وكما أن اليهود كذبوه وآذوه وضربوه وصلبوه بزعمهم ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ۚ، فهم يزعمون بأنه غير المسيح المبشر به في التوراة ورموا أمّه بالعظائم والمفتريات، أعلى الله قدرها عما يقولون علواً كبيراً، وقال تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا١٥٥ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا١٥٦ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ۚ.

فهدى الله المؤمنين لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فآمنوا به وصدقوه و اتبعوا النور الذي أنزل معه وجعلوه كسائر الرسل عبداً لا يُعبَد ورسولا لا يكذب، بل يطاع ويتبع - صلوات الله عليه وعلى نبينا محمد وسائر النبيين أجمعين - وقد أمر الله المؤمنين بأن يقولوا: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ١٣٦.

إن المسيح - عليه السلام - لم يأمر أتباعه من الحواريين وغيرهم بأن يجعلوه رباً أو ابناً لله أو يجعلوه ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة، ولم يقل بحلول اللاهوت في ذاته المقدسة كما يقول النصارى بحلول اللاهوت في الناسوت، وامتزاجه كامتزاج الماء باللبن، فمتى دعوت المسيح فقد دعوت الله أو دعوت الله فقد دعوت المسيح، وقال - سبحانه -: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا١٧١، ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ١١٦ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ.

وقال - سبحانه -: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۖ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۖ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ٧٢ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ۘ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۚ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ٧٣ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ٧٤ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ۗ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ٧٥. وروى البخارى ومسلم عن عبادة بن الصامت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من شَهِدَ أن لا إله إلَّا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ له وَأنَّ مُحَمَّدًا عَبدُه وَرَسولُه وأن عيسى عبدُ اللهِ وَرسولُه وَكَلِمَتُه ألقاها إلى مَريَم وَرُوحٌ مِنهُ وَأنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ وَأنَّ النَّارَ حَقٌّ أَدخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ)

ضل النصارى في المسيح وأقسموا
لا يهتدون إلى الرشاد سـبيلا
جعلوا الثلاثة واحداً ولو اهتدوا
لم يجعلوا العدد الكثير قليلا
وإذا أراد الله فتنة معشــر
وأضلهم رأوا القبيح جميـلا

والمقصود أنه لم يثبت في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ولا من قول الصحابة تسمية النصارى بالمسيحيين، وإنما سماهم الله النصارى، فقال - سبحانه -: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ۖ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ۚ ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ، ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ۗ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ١٣٥، وقال: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا، في كثير من الآيات يرسم فيها اسمهم الذي هو بمثابة السيماء لهم، فهذا هو اسمهم الحقيقي لا الاسم المبدل الذي قصدوا به بأنهم أتباع المسيح أو أنهم أولياؤه ﴿وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ ۚ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ٣٤.

وتسميتهم بالمسيحيين إنما حدثت من عهد قريب، بحيث لم يكن لها أصل في اللغة ولا في التاريخ كحدوث تسمية اليهود بإسرائيل وكلتاهما بدع من القول وزورا.

إن القرآن الحكيم مملوء من ذكر البينات والبراهين الدالة على صدق أنبيائه موسى وعيسى وسائر الأنبياء وخاتمهم محمد صلى الله عليهم أجمعين مما يدل على وجوب تصديقهم فيما جاءوا به ويستدعي قبول الناس وإقبالهم إليهم والإيمان بهم وبكتبهم النازلة عليهم.. غير أن النصارى بموجب إصرارهم على التكذيب بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وبالقرآن النازل عليه، فإن تكذيبهم به مستلزم لتكذيبهم بنبوة موسى وعيسى وسائر الأنبياء فإن من كذب نبياً فإنه يعتبر بأنه مكذب لسائر الأنبياء وكافر بالله – عز وجل – وبما - أرسل الله به رسله. يقول: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ١٠٥. ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ١٢٣ ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ١٤١، فإن التكذيب بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وبالقرآن النازل عليه وزعمهم بأنه شيء فاض على نفس محمد بدون أن يوحى الله به إليه أو ينزل به جبريل عليه فكل هذا يعتبر بأنه تكذيب لمحمد وبسائر الأنبياء قبله، ومن لوازمه التكذيب بالمسيح عيسى بن مريم - عليه الصلاة والسلام- ثم التكذيب بمعجزاته التي أثبتها القرآن الحكيم.

إن القرآن هو المعجزة الخالدة لنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - والمصدق لسائر الأنبياء قبله ولسائر الكتب النازلة عليهم من الله.. والعجب من عقلاء النصارى المستقلة أفكارهم والذين برعوا في الذكاء والفطنة وعرفوا اللغة العربية، كيف يصرّون ويستكبرون على التكذيب بنبوة محمد والتكذيب بالقرآن النازل عليه تقليداً منهم للمكذبين من القسيسين والمبشرين. كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً.

وموضع العجب منهم هو أن القرآن النازل على محمد - عليه الصلاة والسلام - كله نضال في الجهاد والجدال عن نبوة عيسى بن مريم - عليه الصلاة والسلام - يحقق صدق نبوته وكرامة نشأته وطهارة مولده وبراءة أمّه مريم البتول - عليها السلام - ويثبت بأن الله - سبحانه – خلق المسيح عيسى بن مريم بيد القدرة من أم بلا أب، كما خلق آدم من تراب، ثم قال له: كن فكان. وأن الله أيّده بالمعجزات الباهرات الدالة على صدق نبوته. فكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وينبي الناس بما يأكلون وما یدخرونه في بيوتهم مع تكليمه في المهد وقوله: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا٣٠ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا٣١ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا٣٢ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا٣٣ ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ٣٤ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ ۖ سُبْحَانَهُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ٣٥.

فكل هذه المزايا من الصفات والمعجزات قد أثبتها القرآن وآمن بها المسلمون، ومن كذب بها فإنه كافر ولا توجد هذه الصفات وهذه المعجزات بالإنجيل الذي بأيدي النصارى لأن الله ذكر في كتابه المبين بأن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه مختلفون.

على أن الإنجيل الموجود الآن ليس هو الإنجيل النازل على المسيح عيسى بن مريم - عليه السلام - وإنما هو مبدّل منه وفيه التحريف الكثير والكذب على الله وعلى الأنبياء. ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ۖ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ۖ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ۖ وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي ۖ (من سورة المائدة).

ومثله معجزات موسى ومعجزات داود وسليمان، فقد أثبتها القرآن الكريم ومن كذب بها فإنه كافر وقد امتنع نزول الآيات بعد عيسى، يقول الله: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ۚ، وكل معجزات الأنبياء زالت بزوالهم ولم يبق إلا الإيمان بها في جملة الإيمان بالغيب، وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من نبي إلَّا وقد أوتِيَ مِن الآياتِ ما آمن به البشر، وأن المعجزة الَّتي أوتيتها هو هذا القُرآن، وإنِّي أرجو أنْ أَكونَ أكْثَرَهم تَبَعاً). فهذا القرآن هو الآية الخالدة المشاهدة إلى يوم القيامة وهو معجزة الدهور وسفر السعادة ودستور العدالة وقانون الفريضة والفضيلة محفوظ في المصاحف وفي الصدور، بحيث لا يستطيع أحد أن يُقحم فيه حرفاً أو يحذف منه حرفاً، لأن الله - سبحانه - تولى حفظه فقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ٩. أما سائر الكتب المقدسة فقد وكل حفظها إلى أهلها فضيعوها كما قال سبحانه -: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.

والقرآن هو أساس دين الإسلام مع سنة محمد - عليه الصلاة والسلام - وإنه لولا هذا القرآن لكذب الناس بنبوة عيسى بن مريم وبمعجزاته كما كذب بها اليهود وغيرهم ورموا أمّه بالمفتريات - أعلى الله قدرها- عما يقولون علواً كبيراً.

أفيجازي محمد رسول الله الذي جاهد أشد الجهاد في الدفاع عن عيسى ابن مريم بأن يقابل شكره بتكذيبه والتكذيب بالقرآن النازل عليه مع العلم أنه كان أمياً لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وليس في بلده مدارس ولا كتب. يقول الله: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ٤٨ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ٤٩.

إن الله - سبحانه - ختم الرسل بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ، كما ختم الشرائع بشريعته الشاملة الكاملة الصالحة لكل زمان ومكان، قد نظمت حياة الناس أحسن نظام بالحكمة والمصلحة والعدل والإتقان، فلو أن الناس آمنوا بتعاليمها وانقادوا لحكمها وتنظيمها ووقفوا عند حدودها ومراسيمها لصاروا بها سعداء. لأنها تهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم. فلا يجوز الأحد أن يتعبد بغير شريعته، لأن الله - سبحانه - أرسله إلى كافة الناس بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فكما أنه رسول للمسلمين فإنه رسول لليهود والنصارى وسائر الأمم أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها. يقول الله: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا. وقال – سبحانه -: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ١٠٧، أي للخلق أجمعين. وقد أثنى الله – سبحانه – على الذين يتبعون الرسول النبي الأميِّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون». وفي الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن كل نبي يُبعثُ إلى قومِه خاصةً وبعثتُ إلى النَّاسِ كافَّةً) رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري، فهو رحمة من الله مهداة لجميع خلقه.

إن أكبر صارف يصرف علماء النصارى وعامتهم عن اعتناق دين الإسلام واعتقاده وعن التصديق بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وبالقرآن النازل عليه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، هو أنهم تأثروا بتنفير القسيسين والمبشرين عن دين الإسلام بكثرة كذبهم وافترائهم على رسول الله - عليه الصلاة والسلام – فهم يتلقفون هذا التكذيب مما جعلهم يتأثرون به ويتربون في حالة صغرهم على اعتقاده حتى أشْرِبَت به قلوبهم وحتى صار لهم طريقة وعقيدة. مع العلم أنهم قد بقوا حيارى ليس لهم دين يعصمهم ولا شريعة تنظمهم..

والأمر الثاني: هو أن تكذيب أكثر أذكيائهم والمفكرين منهم إنما نشأ عن عدم معرفتهم باللغة العربية التي هي لغة الإسلام والتي يعرف بها بلاغة القرآن، لكون القرآن نزل بلسان عربي مبين، فبلاغته بلغته ومعرفة أحكامه وحكمته وعموم هدايته ومنفعته وذوق حلاوته، كل هذا إنما يدرك عن طريق لغته، فعدم معرفة الأمم للغة العربية التي نزل بها القرآن هو أكثف حجاب يحول بينهم وبين اعتناق الإسلام واعتقاده والتصديق بمحمد رسول الله وبالقرآن النازل عليه. أما ترجمة القرآن الموجودة بأيدي الناس، وقد ترجم عدد تراجم وكلها ليست بقرآن وتبعد جداً عن بلاغة القرآن فلا تسمى قرآناً، لكنه يستعان بها على فهم القرآن ومعرفة أحكام شريعة الإسلام. لهذا يجب على كل عاقل أن يتعلم اللغة العربية التي يعرف بها أحكام دينه ويستعين بها على أمور دنياه. يقول الله: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، أي هل من طالب علم فيعان عليه والله أعلم.

حرر في ۸ رجب ۱۳۹۸ هـ.

مطابع قطر الوطنية
الدوحه - قطر ص.ب ٣٥٥