الحكمة فى تكرار ذكر بنى إسرائيل في القرآن الحكيم وقصص الأنبياء وأهدافها عليهم أفضل الصلاة والتسليم
إن هذا القرآن بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا إنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب فيه نبأ ما قبلنا وخبر ما بعدنا وحكم ما بيننا. يقول الله: ﴿كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ ۚ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا٩٩ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا١٠٠﴾.
وقال - سبحانه -: ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ٧٦﴾، وقال: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ٣﴾.
والغاية من قصص الأنبياء وأممهم كبني إسرائيل وغيرهم هي العظة والعبرة والأخذ بسنن الحق واللجوء إلى العدل والجدال مع المخالفين بالتي هي أحسن والتبشير برضوان الله لمن عبده واتقاه ولم يشرك به أحداً، وتحذير من خالف أمره وارتكب نهيه من عقاب الدنيا وعذاب الآخرة. وفيه أدب مبادئ الدعوة الإسلامية وأهدافها وفيه تثبيت قلب النبي وأصحابه ومن اتبعهم بأن ما جاء به هو الحق مصدقاً لما قبله من الكتب المقدسة يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، ويدل دلالة واضحة على صدق ما جاء به وأنه مبلغ عن ربه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، قال سبحانه -: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ ...﴾ إلى قوله: ﴿وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ٤٩﴾.
وإن الله - سبحانه - إذا ذكر بني إسرائيل وغيرهم بشيء من مخالفة الأمر وارتكاب النهي والعقاب عليه، فإن بني إسرائيل قد مضوا وانقضوا، وإنما يعني به جميع الناس فهو يتمشى على حد إياك أعني واسمعي يا جارة، وخير الناس من وعظ بغيره.
فحين جاء محمد - عليه الصلاة والسلام - بهذه القصص الرائعة عن الأنبياء قبله بهذا البيان والتفصيل المحكم وهو النبي الأمي لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، فمتى عرض ما جاء به على أحبار اليهود ورهبان النصارى وسواهم من الأمم، كان بذلك أعظم دليل على أن ما يأتي به هو وحي من ربه ليس من قول البشر. وقد أشارت بعض الآيات إلى هذا الغرض في مقدمات بعض القصص أو في ذيولها، قال تعالى مخاطباً رسوله محمداً: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ۖ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَٰذَا ۖ﴾ (من سورة هود).
كما أن الغاية من قصص الأنبياء هي بيان أن الدين كله من عند الله من عهد نوح إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم - وأن المؤمنين كلهم أمة واحدة على أصل دين الإسلام والله الواحد الأحد الفرد الصمد هو رب الجميع فليس بين الأديان السماوية فرق في أصل الدين، بل إنها جميعاً تستقي من نبع واحد، غير أن شرائع الأنبياء متفرقة، يقول الله: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ﴾، فدين الجميع واحد وهو دين الإسلام، يقول الله: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ﴾، وقال: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ﴾، وقال: ﴿ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين﴾. والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (نحن معاشر الأنبياء بنو علات الدين واحد والشرائع متفرقة).
وكل نبي إنما يأتي برسالة متممة ومكملة لرسالة النبي الذي قبله، قال تعالى مخاطباً أمة محمد: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ١٣﴾ (من سورة الشورى).
ولهذا كان شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم ترد شريعتنا بنسخه.
وقد جاء محمد رسول الله برسالته المهيمنة على جميع ما قبلها، بحيث لا يسوغ لأحد العمل بغيرها، لكونه رسولا إلى جميع الناس: عربهم وعجمهم وحتى اليهود والنصارى ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ وقال: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ١٥٦ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ١٥٧﴾ (من سورة الأعراف). فبما أنه خاتم النبيين لا نبي بعده، فإن شريعته هي خاتمة الشرائع والمهيمنة عليها. ولما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عمر قطعة من التوراه قال له (لَقَد جِئتُكم بها بَيضَاءَ نَقيَّةً ليلها كنَهارِها لا يزيغُ عنها بعدي إلا هالِكٌ ولو كان أخي موسى حيًّا ما وَسِعَهُ الَّا اتِّباعي).
والقرآن حين يعرض قصص الأنبياء وبني إسرائيل وغيرهم، نراه يأخذ مواد القصص من أحداث التاريخ فيعرضها عرضاً أدبياً ويسوقها سوقاً عاطيًا يبين المعاني ويؤيد الأغراض والأحكام وأمور الحلال والحرام، ويخرج بها من الدائرة التاريخية إلى الدائرة الدينية. ومن هذا الاتجاه الذي يقصده القرآن في أسلوب قصصه التي تؤثر في القلوب بتأثير بلاغته التي ترجع إلى جمال لفظه وحسن نظمه وسمو معانيه وبلاغته فإن السامع وكذا التالي لن يجد شيئاً من الكتب أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولن ترى نظماً أحسن تأليفاً ولا أشد تلازماً من نظمه، وأما المعاني والأحكام فلا خفاء على ذي عقل أنها تشهد لها العقول السليمة بالتقبل والتقدم في أبوابها والترقي بها إلى أعلى درجات الفضل والكمال ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ١٥ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ١٦ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ۗ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ١٧ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ۖ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ١٨ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ ۖ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ١٩﴾ (من سورة المائدة).