متقدم
 

(فصل) (في تحريم تحريف القرآن بصرفه إلى غير المعنى المراد منه)

من ذلك تفسير بعض العلماء لقوله - سبحانه -: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا٤ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا٥ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا٦ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا٧ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ ۚ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ۘ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا٨ (من سورة بني إسرائيل).

إن من سوء التعبير وركوب التعاسيف في التفسير كون بعض العلماء عندنا يأتي على هذه الآيات حينما يحاول التذكير بمدلولها فيحملها على الحروب الواقعة في هذه السنين بين المسلمين وبين اليهود اعتماداً على تسمية اليهود باسم إسرائيل وهي تسمية مقلوبة مكذوبة وهذا هو حقيقة ما كنا نحاذره ونتقيه من عموم ضرر هذا التبديل وتسمية اليهود بإسرائيل، حيث ينخدع الناس على طول الزمان بهذه التسمية فيحملون الأوصاف الحسنة التي وصف الله بها المؤمنين من بني إسرائيل من تفضيلهم على العالمين، فيظن بعض من ظن أنهم اليهود فيضل في تفسيره ويضل الناس معه فيقعون في قوله – سبحانه –: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ.

أما بنو إسرائيل الذين نزل فيهم هذه الآيات وأمثالها فهم الذين كانوا في زمن داود وسليمان وزكريا ويحيى وموسى وعيسى وغيرهم من سائر أنبيائهم. والله - سبحانه - حينما يخاطب اليهود فإنه يخاطبهم باسمهم المرسوم لهم كقوله سبحانه -: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ٦، وقال: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ، ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ، أو يخاطبهم باسم أهل الكتاب، كقوله – سبحانه -: ﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وقال: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ، يعني بهم يهود بني النضير.

أما بنو إسرائيل المذكورون في القرآن فأكثرهم مسلمون كما قال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ ۖ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ٢٣ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ٢٤.

ومثله قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بلِّغوا عنِّي ولَوْ آيةً وحدِّثوا عنْ بني إسرائيلَ وَلَا حَرَجَ ومَنْ كذَبَ عليَّ مُتعمِّدًا فلْيتَبوَّأْ مَقعَدَه مِن النارِ) رواه البخاري.

فإنه لا يعني ببني إسرائيل اليهود قطعاً وهذا واضح جليّ لا مجال للشك في مثله. ويؤيده ما في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كَانَت بَنو إسرَائيلَ تَسُوسُهُم أنبياَؤُهُمْ كُلَّمَا هلَكَ نَبيٌّ خلَفَهُ نَبِيٌّ وإِنَّه لَا نَبِيَّ بَعدِي).

ولما كان اليهود أكثرهم بالمدينة فقد نزلت سورة البقرة وهي مدنية وفيها التذكير بما منَّ الله به على بني إسرائيل بقوله: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ٤٩، إذ لا أعظم بلاء من قتل الأولاد واستعباد النسوة للخدمة، حيث كانوا في ذلك الزمان مستضعفين تحت سلطة فرعون وهامان وقارون والقبط. ثم دعا اليهود إلى الإيمان بالله والتصديق برسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وبالقرآن النازل عليه وإن لم يؤمنوا به فإنه سيصيبهم ما أصاب المكذبين من بني إسرائيل الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد. وبعد أن علم - سبحانه - بإصرارهم على كفرهم وعنادهم أنزل الله كالتسلية للمؤمنين ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ٧٥ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ٧٦ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ٧٧ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ٧٨ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ٧٩ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ۖ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ٨٠.

فهذه الآيات كلها في اليهود ولها أسباب من الآثار تفسرها في مناظرة الصحابة لهم.

ثم قفى عليها بقوله - سبحانه -: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا – أي يقولون للأنصار إنه سيبعث نبي هذا أوان خروجه وسنقاتلكم معه - فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ٨٩ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَىٰ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ٩٠. ثم قال - سبحانه -: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ – أي من القرآن - قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا - أي من التوراة – وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ ۗ. فكفرهم هو كفر جحود وعناد.

فهذه الآيات نزلت في اليهود وذكر المفسرون سبب نزولها من جدال المؤمنين معهم ودعوتهم لهم إلى دين الإسلام وإلى الإيمان بمحمد – عليه أفضل الصلاة والسلام - وإلى التصديق بالقرآن ولكنهم أصروا على الكفر والعناد فباءوا بغضب على غضب.

ولسنا ننكر كون بعض الحوادث في هذا الزمان يتناولها شمول معنى الآيات فإن من صفة القرآن أنه نبأ ما قبلنا وخبر ما بعدنا وحكم ما بيننا فمنه ما تأويله سيقع فيما بعد ومنه ما تأويله لا يقع إلا يوم القيامة، كقوله – سبحانه – ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ۚ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ٥٣ (من سورة الأعراف) وهذا التأويل هو ظهور أمر المغيبات جلية للعيان طبق ما أخبر الله عنه في القرآن جلية حين تحق الحقائق ويتجلى الرب للخلائق وتظهر الملائكة للناس وتبدو الجنة عياناً والنار عياناً، فعند ذلك ﴿لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ١٥٨.

والمقصود أن تسمية اليهود بإسرائيل لم يثبت لها أصل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه وجميع المؤرخين من المسلمين والكافرين طيلة السنين إنما يكتبون باسم اليهود لا باسم إسرائيل وإن تعجب فعجب من اندفاع الناس إلى متابعتهم على هذه التسمية المبتدعة والكاذبة الخاطئة المقتضية لتشريفهم وتكريمهم ورفع مزيتهم ومنزلتهم والله – سبحانه قد أذلهم وذمهم وسماهم يهوداً تسمية لا تفارق رقابهم أبى الله إلا أن يذل من عصاه وقد ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءُوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة.

وهب أن أصلهم من كفار بني إسرائيل وعندهم التوراة، لكنه لا يجوز أن يحدث لهم تسمية مبتدعة غير تسميتهم التي سماهم الله بها لكون الاسم مشتقاً من السمة وهي العلامة، فلا يجوز إحداث تسمية يسمون بها ثم يتكلف بعض الناس حمل كلام الله على هذه التسمية المبتدعة وقد سماهم الله اليهود من لدن نزول التوراة، فقال - سبحانه -: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ – أي ويحكم بها الربانيون والأحبار - بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فسماهم الله يهوداً من لدن نزول التوراة، كما قال – سبحانه -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ٦٢، فهذه هي تسميتهم الحقيقية لا التسمية المكذوبة المقلوبة فإن تسميتهم بها يعد من التبديل الذي قال الله فيه: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ.

ثم نعود إلى تفسير الآيات في قوله: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ قال ابن كثير: أي تقدمنا إليهم وأخبرناهم في الكتاب الذي أنزلناه عليهم، وأنهم سيفسدون في الأرض مرتين ويعلون علوا كبيراً، أي يتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس فأيد هذا الإفساد باللام الموطئة للقسم ثم بنون التوكيد الثقيلة فإذا جاء وعد أولاهما، أي أولى الإفسادتين بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد، أي سلطانهم عليكم فجاسوا خلال الديار، أي ملكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم لا يخافونكم وكان وعداً مفعولا.

قال: وقد اختلف المفسرون من الخلف والسلف في هؤلاء المسلطين على بني إسرائيل والذين يسومونهم سوء العذاب فقال بعضهم: إنه بختنصر وجنوده سلط على بني إسرائيل أولا وأذلهم وأسرف في قتلهم وهدم بيت المقدس وعمل أعمالا منكرة يطول ذكرها، وعن ابن عباس وقتادة أنهم جالوت الجزري وجنوده سلط عليهم أولا ثم أديلوا عليه بعد ذلك وقتل داود جالوت، وهذا معنى قوله: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وكان ابن عباس في تفسيره للآية يشير إلى قوله - سبحانه -: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ٢٤٦ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ٢٤٧ إلى قوله: ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ٢٥٠ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ٢٥١.

وموضع العبرة من الآيات هو أن القرآن بلاغ للناس وليُنذَروا به، فذكره أخبار بني إسرائيل الماضين هو لأجل العظة والاعتبار بما تضمنته الوقائع والآثار كما هي سنته - سبحانه - في تنويع التذكير بالخير والشر، وأن بني إسرائيل لما بغوا وطغوا سلط الله عليهم عدواً غاشماً فاستباح بيضتهم وأذلَّ عزتهم، لأن للمعاصي عقوبات وللمنكرات ثمرات، ولهذا يقول الله: «عسى ربكم أن يرحمكم برفع هذا البلاء والتسليط وإن عدتم عدنا – أي إن عدتم إلى البغي والطغيان - عدنا إلى أدبكم بتسليط الأعداء عليكم وأنواع العقوبات وأما قوله: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا٧.

فهذا التسليط والله أعلم محمول على تسلط بختنصر وجنوده لكونه وقع بعد المسيح وبعد قتل جالوت بسنين طويلة وخرب بيت المقدس الخراب الثاني ومن حينئذ ساءت وجوههم وزال ملكهم وقطعهم الله في الأرض أمماً فكانوا أذلاء تحت حكم الروم والفرس والقبط.

والله يقول: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ١٢٩ ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ١١٢ وليس هذا الجزاء مخصوصاً ببني إسرائيل دون غيرهم، ولكنه عام لكل من اتصف بصفتهم وسار على طريقة إفساد بغيهم وظلمهم، لأن بني إسرائيل أكثرهم قد كفروا وعصوا وتمردوا عن طاعة أنبيائهم وقتلوا خلقاً كثيراً من الأنبياء والعلماء بغير حق وجرى منهم وعليهم أمور وكوارث يطول ذكرها.