متقدم
 

(بداية نشأة دولة بنى إسرائيل وحقيقة عقيدتهم)

إن أصل نواة بني إسرائيل التي انبثقت عنها شجرتهم حتى انتشرت واشتهرت هي وجود نبي الله يوسف الصديق في مصر وقدوم أبيه وإخوته عليه. إن نبي الله يوسف أتاها في حالة كره واضطرار، حيث أخبر الله عنه أنهم شروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين، فالبائع زاهد فيه ورخيص في نفسه والمشتري زاهد في تملكه ولسان القدر ينادي:

وربما صار مكروه النفوس إلى

محبوبها سبباً ما مثله سبب

إن الله - سبحانه - قص علينا خبر يوسف وإخوته وما جرى عليه من البلاء في بداية نشأته كسائر ابتلاء الأنبياء، فقال - سبحانه -: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ٣ ثم ذكر تاريخ حياته كلها في السورة المسماة باسمه حتى ختمها بقوله: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ - يعني التوراة - وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ١١١.

إن خير الحديث كتاب الله وقد أخبر الله عن مبدأ أمر يوسف أن إخوته على جهالة منهم بأنهم ألقوه في الجب، قيل حسداً منهم له على شدة محبة أبيهم له كما أشار القرآن الحكيم إلى ذلك بقوله: ﴿إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ٨ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ٩.

وهذه تعتبر خطيئة اقترفوها على جهالة منهم في حالة شبابهم وليس من شرط الأسباط العصمة كالصحابة، فقد يذنب أحدهم ثم يتوب ويتوب الله عليه، وقد أثبت القرآن توبتهم واستغفار أبيهم لهم، فلما ألقوه في الجب زاهدين فيه ومبغضين له فإذا هم بعد زمان يأتون إليه قائلين لقد جئنا ببضاعة مزجاه فاوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين والعاقبة للمتقين، فلما عمل عمله معهم في محاولة إتيانهم بأخيهم بنيامين ووعدهم أن سيوفي لهم الكيل ويتصدق عليهم متى أتوه به، فطلبوا من أبيهم السماح بسفره معهم والتزموا حفظه ورعايته حتى يردوه إليه فحصل عليه ما حصل وجلا يوسف له أمره وقال: إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يفعلون، إن يوسف الصديق قبل النبوة عند ملك مصر، ولما عرف منه الذكاء والفطنة وحسن السياسة والسيرة عرض عليه أعمال مملكته ليختار الولاية على حسب رغبته، فقال: ﴿اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ٥٥. وخزائن الأرض هي الزروع والثمار، فتولى ماتولى من ذلك، ﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ٥٨ لتقادم عهدهم به، فقال لهم: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ٨٩ قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ۖ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي ۖ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ۖ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ٩٠ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ٩١ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ٩٢، وبعد ذلك أمر يوسف إخوته بأن يرجعوا إلى أبيهم ويطلبوه أن يستغفر لهم، وقال: آتوني بأهلكم أجمعين فرجعوا إلى أبيهم وحملوه وكافة أهلهم وهذا أول مبدأ دخول إسرائيل في مصر، إنه في كل هذه الحالات لم يوح إليه بشيء قبل أن يبتلي بفتنة امرأة العزيز التي ألقي في السجن من أجلها فمكث في السجن سبع سنين، وبدأ نزول الوحي عليه في السجن بعد أن بلغ أشده – أي أربعين سنة – وبعد موت ملك مصر آتاه الله الملك والنبوة، فلما أتم له ما يريد من النبوة والملك والتمكين في الأرض اشتاق إلى لقاء ربه فقال: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ١٠١.

إن القرآن الكريم لم يثبت وجود أنبياء من بني إسرائيل بين يوسف وبين موسى وهارون، كما أنه لم يثبت وجود أنبياء من بني إسرائيل غير هارون وموسى، ما عدا الأسباط الذين هم أولاد يعقوب، ففيهم خلاف بين العلماء هل هم أنبياء أو ليسوا بأنبياء ويظهر أن الأنبياء الكثرة هم ما بين موسى وعيسى وبعد عيسى انقطعت نبوات بني إسرائيل فلم يكن بين عيسى وبين محمد - عليه السلام - أحد من الأنبياء، كما أنه زال ملكهم وذهب سلطانهم وبين يوسف وموسى سنين طويلة الله أعلم بعددها.

وحاصل الأمر اليقين الذي أثبته القرآن الكريم أن بني إسرائيل مكثوا في مصر مستضعفين كحالة سائر الناس.

ثم إنه تسلط عليهم فرعون وهامان وقارون وجنودهم على بني اسرائيل فكانوا يقتلون الأبناء ويستحيون النساء للخدمة، كما قال - سبحانه -: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ٤٩، إذ لا أشد بلاء من قتل الأولاد واستعباد النساء للخدمة وكان فرعون قد رأى أنه سيبعث في بني إسرائيل رجل يقتله ويسلبه ملكه، ففزع من هذه الرؤيا وعمل عمله في قتل كل مولود إسرائيلي، فكتب الله أن يربى هذا الغلام في بيته لما وقع في قلب زوجته من محبته، فكان هلاکه بسببه.

فلما بلغ الأمر ببني إسرائيل إلى غاية الشدة ونهاية المشقة ولم يجدوا لهم ملجأ ولا فرجاً، فعند ذلك أوحى الله إلى موسى وكان بمدين مدينة شعيب فناداه ر به ﴿أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي١٤.

ثم قال: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ١٧؟ وكان بيمينه عصاً من الشجر قال: ﴿هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي، وهي عصا عادية من الشجر يتوكأ عليها ويضرب بها الشجر حتى يتساقط الورق للغنم. فقال: ﴿أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ١٩ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ٢٠ - أي ثعبان عظيم – قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ ۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ٢١ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ – أي من غير برص، وذلك أنها تكون بيضاء كضياء الشمس الشارقة - فذلك برهانان من ربك وهاتان الخصلتان هما مبدأ معجزات نبي الله موسى، وإنما سميت معجزة لكون الخلق يعجزون عن الإتيان بمثلها وهي تحقق وتصدق نبوة من أتى بها.

ثم قال: ﴿لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى٢٣ اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ٢٤ ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ٤٤ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَىٰ٤٥ قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ٤٦ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ۖ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ٤٧، وبعد ذلك وبعد اعتراف نبوته في يوم الجمع، اشتد فرعون في عداوته وعزم على قتله واستئصال فرعه وأصله، فخرج موسى بمن معه من مصر خائفاً من عدوه حتى أتى البحر فأمره ربه أن يضرب بعصاه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم - أي كالجبل العظيم - حيث انفلق عن اثني عشر طريقاً بعدد الأسباط.

فلحقهم فرعون بجنوده حتى قال أصحاب موسى: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ٦١، قال: ﴿كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ٦٢، فلما تكامل خروج موسى وقومه من البحر وتكامل فرعون وجنوده فيه انطبق عليهم البحر فكانت أجسامهم للغرق وأرواحهم للنار والحرق.

يقول الله - سبحانه -: ﴿نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ٣ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ٤ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ٥ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ٦ (من سورة القصص).

ومن الآن بدأ نبي الله موسى وقد زال ما به وبقومه ما أصيبوا به من الذل والاضطهاد والتضييق وبدأ يعمل عمله في تأسيس دولة بني إسرائيل وقد أيده الله بالمعجزات الباهرات من أجل شراسة أخلاق قومه وعصيانهم أمره وتمردهم عليه.

فمن معجزاته: اليد والعصا وانفلاق البحر وتضليل الغمام والحجر الذي يحمله ثم يضربه بعصاه فينفجر اثنتي عشرة عيناً والجراد والقمل والضفادع والدم آيات بينات لكنهم لم يزددْ أكثرهم بها إلا كفوراً.