متقدم
 

(بداية نشأة بنى إسرائيل)

إن بداية نشأة بني إسرائيل صحبة موسى هي في الضعف والقلة والاضطهاد بمثابة بداية بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه. والمؤمنون من بني إسرائيل هم بمثابة المؤمنين من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس أنه قال: (عرضت عليّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه ثم نظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي هذه أمتك)، وفيه دليل على كثرة أتباع موسى على دينه.

والقرآن الحكيم يثبت بأن الله أمر بني إسرائيل بما أمر به المؤمنين من أمّة محمد، يقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ٨٣ (من سورة البقرة).

فهذه الآية تشبه قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ.. الآية.

ومثله قوله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ۖ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ۖ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ١٢ (من سورة المائدة).

والنقباء من بني إسرائيل هم بمثابة النقباء ليلة العقبة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم بمعنى الرقباء على قومهم فالقرآن وكتب العهد من التوراة والإنجيل والزبور يبين الله لهم فيها ما يتقون وما يجب أن يفعلوه من عبادة الله وحده والنهي عن عبادة ما سواه، وأنهم متى فعلوا ذلك فازوا بسعادة الدنيا والآخرة، فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة، يقول الله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ۖ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ٢٦.

وإن من قواعد الشرع الإلهي العام أن الإيمان والطاعة يضاعف لصاحبها الأجر في الآخرة مع ما يساعده في الدنيا، وقد حذر الله بني إسرائيل على لسان موسى وعيسى بن مريم، إذا هم نقضوا عهده بالكفر والمعاصي بأن يعاقبهم أشد العقوبات بالذل والضر واستيلاء الأعداء، فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون كما قال – سبحانه -: ﴿فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ۖ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ١٤.

لقد وصف القرآن العظيم المهيمن على جميع الكتب قبله حالة بني إسرائيل في بداية أمرهم ونهايتهم من كفرهم وبغيهم وقتلهم الأنبياء بغير حق وما عاقبهم به من سلب الملك وضرب الذلة عليهم بفقد الملك وتسلط الأعداء عليهم إلى يوم القيامة يسومونهم سوء العذاب وأنهم لم يعتزوا في بداية أمرهم بأنفسهم أو بنسبهم، وإنما اعتزوا بالدين الذي فضلهم به على العالمين في زمانهم. وهذا هو حقيقة ما أجمله القرآن ودعا إليه في بيان سنن الاجتماع، وأن الله سلبهم الملك لما كفروا بنعمه وأشركوا في عبادته كما بينه - سبحانه - في سورة الإسراء المسماة بسورة بني إسرائيل، حيث قال: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا٤.

وقد انقضى كل ما كان لبني إسرائيل من التفضيل على غيرهم وانتقل إلى ذرية إسماعيل بن إبراهيم وهم العرب، فقد فضلهم الله على الناس ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي هو خاتم النبيين، وفي الحديث أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: (أنتُمْ تُوفُونَ سَبعِينَ أُمَّةً أنتُم خَيرُها وأكْرَمُها على اللهِ). يقول الله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۚ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ١١٠. فالمهتدون من أصحاب محمد والطائعون له في سرائهم وضرائهم والمجاهدون معه في سبيل الله هم أكثر من المؤمنين من بني إسرائيل فكانوا هم أكرم الأمم عند الله.

- ثم ذكر – سبحانه – عن نقض عهدهم وميثاقهم الذي عاهدوا به ربهم من عبادته وحده وترك عبادة ما سواه، وأنه السبب في ذلهم وضرهم وسلب ملكهم وتقطعهم في الأرض، فقال سبحانه -: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ۙ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۖ (من سورة المائدة). وقال: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا١٥٥ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا١٥٦ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ۚ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا١٥٧ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا١٥٨ (من سورة النساء).

وهذا هو حقيقة عقيدة اليهود، كفروا بعيسى بن مريم وكذبوه ورموا أمه بالمفتريات العظيمة وزعموا أنهم صلبوه ووضعوا الشوك على رأسه، ثم كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وكذبوه وكذبوا القرآن النازل عليه وهو الحق مصدقاً لما معهم.. يقول الله: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ٨٩ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَىٰ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ٩٠ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ ۗ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ٩١. وهذه الآيات كلها نزلت في اليهود يبين - سبحانه - فيها أن كفرهم هو كفر عناد وجحود فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين.