متقدم
 

(حياة بنى إسرائيل النازل بذكرهم القرآن الكريم)

إن من الخطأ الواضح حمل الآيات النازلة في بني إسرائيل بصرفها في تفسيرها على اليهود لظنهم أنهم بنو إسرائيل وليس بصحيح، فإن بني إسرائيل غير اليهود حتى مع فرض تقدير كونهم أو بعضهم قد انشعبوا من حزب بني إسرائيل، فإنهم قد انفصلوا عنهم بكفرهم، فإن الكفر يقطع الموالاة والنسب وقد سماهم الله يهوداً من زمن بني إسرائيل كما أن أصل بني إسرائيل مسلمون مؤمنون كما حكى الله عن فرعون أنه قال: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ٩٠، واليهود كلهم كفار وليس فيهم مسلم.

وإنه من المعروف من نصوص القرآن الحكيم أن الله فضل بني إسرائيل على العالمين، أي عالمي زمانهم.

يقول الله: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ٤٧.

وهذا الفضل الذي حازوه ونَوَّه القرآن والكتب المقدسة به إنما هو بتمسكهم بالدين وعبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه، قال – سبحانه -: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ٤٠ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ۖ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ٤١ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ٤٢ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ٤٣ فإسرائيل لقب نبي الله يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم – عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم - قيل معناه: الأمير المجاهد مع الله، وأطلق عليهم لقبه في كتبهم وتواريخهم كما تسمي العرب القبيلة باسم جدها الأعلى، سيما إذا كان ذا شرف وفضل فهم يفتخرون بانتسابهم إليه.

وهذه النعمة التي أنعم الله بها عليهم وكرر ذكرها في القرآن هي نعمة جعل النبوة فيهم أزماناً طويلة، ولهذا كانوا يسمون شعب الله كما في التوراة، فكانوا بذلك مفضلين على سائر الأمم والشعوب في أزمانهم، فناداهم الله باسم أبيهم إسرائيل الذي هو أصل عزهم وسؤددهم ومنشأ تفضيلهم وأسند نعمة التفضيل إليهم جميعاً، لأن النعمة عمتهم والتفضيل شملهم، وبذلك استمروا في ملكهم كما قال - سبحانه -: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ١٣٧.

وقال – سبحانه -: ﴿وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ٣٠ مِنْ فِرْعَوْنَ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ٣١ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ٣٢ وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ٣٣.

إن بني إسرائيل في أصلهم وفي بداية نشأتهم كانوا مؤمنين موحدين، وذكر ابن كثير في التفسير عن ابن إسحاق عن وهب بن منبه قال: كان بنو إسرائيل بعد موسى - عليه السلام - على طريق الاستقامة مدة من الزمان، ثم أحدثوا الأحداث وعبد بعضهم الأصنام ولم يزل بين أظهرهم من الأنبياء يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويقيمهم على منهج التوراة إلى أن فعلوا ما فعلوا فسلط الله عليهم أعداءهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا خلقاً كثيراً وأخذوا منهم بلاداً كثيرة، ولم يكن أحد يقاتلهم إلا غلبهم، وذلك أنهم كان عندهم التوراة والتابوت الذي كان في قديم الزمان وكان ذلك موروثاً لخلفهم عن سلفهم إلى موسى الكليم - عليه أفضل الصلاة والتسليم - فلم يزل تماديهم على الضلال حتى استلبه منهم بعض الملوك في بعض الحروب وأخذ التوراة من أيديهم ولم يبق من يحفظها فيهم إلا القليل، وانقطعت النبوة من أسباطهم ولم يبق من سبط لاوي الذي يكون فيه الأنبياء إلا امرأة حامل من بعلها وقد قتل فأخذوها فحبسوها في بيت واحتفظوا بها لعل الله يرزقها غلاماً يكون نبياً لهم، ولم تزل المرأة تدعو الله – عز وجل – أن يرزقها غلاماً، فسمع الله لها ووهبها غلاماً فسمته شمويل، أي سمع الله دعاءها ومنهم من يقول: شمعون وهو بمعناه فشب ذلك الغلام ونشأ فيهم وأنبته الله نباتاً حسناً، فلما بلغ سن الأنبياء أوحى الله إليه وأمره بالدعوة إليه وتوحيده، فدعا بني إسرائيل إلى الله. انتهى.

وكان بنو إسرائيل مضطهدين مستذلين تحت سلطة فرعون وقومه يسومونهم سوء العذاب، يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم للخدمة، فأرسل الله نبيه موسى وأوحى إليه ما أوحى فدلهم موسى على معرفة الله وعبادته ووعدهم أن الله سيخلصهم من عبودية فرعون وقومه وأن يخرجهم من مصر إلى أرض الميعاد التي هي بيت المقدس، فطلب موسى من ربه إنجاز ما وعده.

فأخرجهم من مصر بيد القدرة وشق لهم البحر بعد أن أمر الله نبيه موسى بأن يضربه بعصاه فانفلق، أي انشق فكان كل فرق كالطود العظيم، أي كالجبل الشامخ، فصار الماء كالجدران المبنية عن يمينهم وشمالهم وهو بناء من الله، کالحارس فلما أقبل فرعون بجنوده قال أصحاب موسى: إنا لمدركون. قال: كلا إن معي ربي سيهدين.

فلما دخل فرعون وجميع جنوده في البحر بعد خروج موسى وقومه منه فانطبق عليهم الماء فأغرق فرعون وجنوده وبنو إسرائيل ينظرون إليهم. يقول الله - سبحانه -: ﴿نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ٣ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ٤ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ٥ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ٦ (من سورة القصص).

فهذا التفضيل الذي فضل الله به بني إسرائيل وأثبته في كتابه المبين إنما يراد به التفضيل الديني، إذ أن التفضيل خاص بالمهتدين بكتاب الله تعالى والمقتدين بالأنبياء الذين بعثوا فيهم من ذرية يعقوب وإسحاق وإبراهيم – عليهم أفضل الصلاة والتسليم – وفي الصحيحين أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: (كَانَت بَنو إسرَائيلَ تَسُوسُهُم أنبياَؤُهُمْ كُلَّمَا هلَكَ نَبيٌّ خلَفَهُ نَبِيٌّ وإِنَّه لَا نَبِيَّ بَعدِي).

وقد كان الأنبياء في بني إسرائيل أكثر منهم في غيرهم من سائر الشعوب وكان المهتدون الطائعون لله منهم أكثر من غيرهم من سائر الشعوب المعاصرة لهم، يقول الله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ ۖ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ٢٣ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ٢٤.