(التفضيل بين بني إسحاق وبنى إسماعيل)
إنه من المعلوم بطريق اليقين أن نبي الله إسماعيل كان أفضل من نبي الله إسحاق لامتيازه عليه بأمرين جليلين أحدهما بذله نفسه فداء لطاعة أبيه وفي سبيل رضى ربه لولا أن الله فداه بذبح من عنده ولأجله يُسمى الذبيح، والأمر الثاني مشاركته لأبيه في بناء بيت ربه، يقول الله: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ١٢٧﴾، فهاتان المزيتان لا يجاريه فيهما أخوه إسحاق، غير أن بني إسحاق هم أفضل من بني إسماعيل قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - لأن في بني إسحاق النبوة والكتاب وقد دخلوا مصر زمن يوسف مع يعقوب فلم يكن لبني إسماعيل فوقهم يد، ثم خرجوا من مصر لما بعث الله موسى وكانوا مع موسى أعزاء ولم يكن لأحد عليهم يد، ثم مع يوشع بعده إلى زمن داود وملك سليمان الذي لم يؤت أحد مثله وسلط عليهم بعد ذلك بختنصر، فلم يكن لأولاد إسماعيل عليهم أمر، ثم بعث المسيح وخرب المسلطون بيت المقدس الخراب الثاني، حيث أفسدوا في الأرض مرتين، من حينئذ زال ملكهم وقطعهم الله في الأرض أمماً وكانوا تحت حكم الروم والفرس والقبط ولم يكن للعرب عليهم حكم أكثر من غيرهم فلم يكن لولد إسماعيل سلطان فوق الجميع حتى بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - الذي دعا به إبراهيم وإسماعيل، حيث قالا: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ١٢٩﴾.
فلما بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - صارت يد إسماعيل فوق الجميع فلم يكن في الأرض سلطان أعز من سلطانهم وقهروا فارس والروم وغيرهم من الأمم وقهروا اليهود والنصارى والمجوس والمشركين والصابئين وكان لهم حسن العاقبة في التمكين والسيادة والعاقبة للمتقين.
وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أنا سيِّدُ النَّاسِ يومَ القيامةِ)، فببركة بعثته انتقل الملك والسيادة في الأرض إلى أمته وخاصة أصحابه وأتباعه، فقال - سبحانه -: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ﴾ وصدق الله وعده فصاروا هم ملوك الأمصار بعد أن كانوا عالة في القرى والقفار، وهذا العز والسيادة في الأرض هو مقيد بقوله تعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ٤٠ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ٤١﴾.
قال قتادة: «إن العرب قبل الإسلام وقبل بعثة محمد - عليه الصلاة والسلام - كانوا أذل الناس ذلا وأشقاهم عيشاً وأجوعهم بطوناً وأعراهم ظهوراً وأبينهم ضلالا، يُؤكلون ولا يَأكلون والله ما نعلم من عَالَمِ أهل الأرض شرَّ منزلة منهم حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد ووسع به في الرزق وجعلهم به ملوكاً على رقاب الناس، فبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا الله على نعمه فإن ربكم منعم يحب الشكر».