(بداية تسمية اليهود باسرائيل)
إن اليهود هم اليهود إسماً ورسماً في كتاب الله وسنة رسول الله وإجماع علماء التاريخ من المسلمين والكافرين، وقد ذكروا سبب تسميتهم باليهود فقيل: هي من قولهم هدنا إليك، أي تبنا إليك من عبادة العجل. ذكره ابن كثير عن جابر بن زيد عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وقيل: إنه من أجل تمايلهم بقراءة التوراة وقيل: نسبة إلى يهوذا وهو الابن الخامس من أولاد يعقوب فحذفت المعجمة استخفافاً باللفظ وسموا يهوداً والأول أرجح.
والحق إن هذه التسمية نازلة من عند الله لا يجوز تبديلها ولا تغييرها لأنها اسم كالرسم يدل على حقيقة ما وضع له لكون الاسم مأخود من السمة وهي العلامة.
وقد اندرجت سائر القرون من لدن حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقبله وبعده إلى هذا القرن الحالي والناس من العلماء والمؤرخين والعامة إنما يسمون اليهود باسم يهود.
لكنهم بكيدهم ومكرهم حاولوا التدليس بالتلبيس على الناس بإبدال هذه التسمية باسم إسرائيل لكونها ألبق وأقبل وأعلى وأشرف لأذهان الناس، فأخذوا يرددونها في إذاعاتهم ومجلاتهم وصحفهم فَتَلَقّفَهَا عنهم جميع الأمم المجاورة لهم، ثم عمت جميع الناس على سبيل المسارقة الخفية للأقوال حتى المسلمون فكانوا لا يتكلمون في كتبهم ولا في مجلاتهم ولا في إذاعاتهم ومنشوراتهم إلا باسم إسرائيل وصار اسمهم الحقيقي أي اليهود بمثابة اللقب المهجور، وقد يستثقلون التخاطب به لكون ألسنتهم قد تذللت باسم إسرائيل وحتى استقرت حقيقة هذه التسمية في نفوسهم حتى ظنوها حقاً وهي تسمية باطلة ومختلسة ليسوا بإسرائيل وليس إسرائيل منهم، بل هم أعداء إسرائيل وليسوا من حزبه، فتسميتهم بإسرائيل تصفهم بالشرف والتكريم وعلو المنزلة، ولن تجد أبغض إليهم من سماع اسم اليهود وقد سعوا جهدهم وعملوا عملهم بالقضاء على هذه التسمية ومحوها عن صدور الناس وألسنتهم، وإن تعجب فاعجب إلى متابعة الناس واندفاعهم لما يريدون ويشتهون.
فتسميتهم بإسرائيل إنما حدث من عهد قريب حين قويت شوكتهم، وعظمت صولتهم، فحاولوا التهرب عن اسم اليهود الحقيقي لكونه ثقيلا في نفوسهم ونفوس جميع الناس معهم حتى طوائف النصارى وغيرهم على اختلاف مذاهبهم ونحن إنما نحمل متابعة الناس لهم وخاصة المسلمين على تسميتهم بإسرائيل على الغفلة وعدم وجود من ينبه الناس على بطلانها وابتداعها وسوء ما تأول إليه من قلب الحقائق ومخالفة كلام الخالق فلا يجوز للناس إحداث مثل هذه التسمية وحمل كلام الله على هذه التسمية المبتدعة وقد انخدع الناس بهذه التسمية المقلوبة المكذوبة على سبيل العدوى والتقليد الأعمى ولو كان شيخ الإسلام ابن تيمية حياً أو العلامة ابن القيم أو ابن حزم لما تحملوا الصبر على هذه التسمية المقلوبة التي تذللت ألسنة الناس بها حتى حسبوها حقاً وهي باطلة في حقيقتها ﴿ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ٤﴾.
إن تسمية اليهود بإسرائيل لا نجد لها أصلا في القرآن ولا في الحديث على كثرة مخاطبة الرسول لليهود وكثرة مخالطة الصحابة لهم ومخاطبتهم لهم فلم يثبت عن أحد منهم تسمية اليهود بإسرائيل وإنما ثبت عن رسول الله قوله فيهم: «يا إخوانَ القِرَدةِ والخَنازيرِ».
إن تسمية اليهود بإسرائيل هو خطأ كبير، ويترتب عليه خطر عظيم من اختلاط اسم اليهود باسم إسرائيل أو بني إسرائيل الذين نزل فيهم كثير من آيات القرآن الكريم، فإن أصل بني إسرائيل أنهم مسلمون وإن كان خرج منهم على طول الزمان كفار مرتدون، أما اليهود فهم كفار وليس فيهم مسلمون أبداً.
لقد رأينا بعض العلماء في هذا الزمان قد ساءت أفهامهم فتسلطوا على القرآن بقلب حقائقه. حيث تصرفوا في صرف معانيه النازلة في بني إسرائيل الذين كانوا في زمن موسى وعيسى ابن مريم - عليهما السلام – فكانوا يتكلفون تطبيقها بصرف معانيها إلى اليهود حتى رأيت بعض من فسر سورة يوسف قائلا: إن اليهود الكفرة هم الذين ألقوا أخاهم في الجب وباعوه بثمن بخس وجاءوا آباءهم يبكون، ثم أخذ مهرف بما لا يعرف في هذا المعنى الذي عفا الله عنه، إذ هي سيئة تجاوز الله عنها وليس من شرط الأسباط العصمة وقد أثبت القرآن توبتهم واستغفار أخيهم لهم ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ١٤١﴾. فالطعن فيهم أو نسبة اليهود إليهم هو من قلب الحقائق والتحريف لكلام الخالق. ومثله من قد رأيناه يتكلم على سورة الإسراء المسماة بسورة بني إسرائيل، فحين أتى على قوله – سبحانه -: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا٤﴾.
ثم رأيته يخلط ويخبط في تفسير هذه الآيات ويحاول بطريق التكلف أن يطبقها على القتال الواقع بين اليهود والمسلمين بركوب التعاسيف في التأويل والخروج إلى غير السبيل.
وخفي عليه أن اليهود غير بني إسرائيل وأن بني إسرائيل غير اليهود، وإنما قص علينا أخبار بني إسرائيل كخبر موسى وعيسى وداود وسليمان، ليكونوا للناس بمثابة العظة والعبرة، وفي أخبار بني إسرائيل ما يدل على أنهم في نشأتهم وبداية أمرهم أنهم ضعفاء مستذلون لدى الفراعنة يسومونهم سوء العذاب، يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، ثم إن الله أنجاهم وأغرق عدوهم، فقال - سبحانه -: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ١٣٧﴾.
ثم أخبر - سبحانه - أنه إنما مكنهم وملكهم في الأرض لحسن استقامتهم في عبادة ربهم فكان الله وليهم وناصرهم على عدوهم، فقال – سبحانه -: ﴿نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ٣ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ٤ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ٥ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ٦﴾ (من سورة القصص).
فأخبر – سبحانه أنه امتن على بني إسرائيل الذين استضعفوا في الأرض ألوفاً من السنين وكانوا مستذلين تحت سلطة فرعون والقبط يقتلون أولادهم ويستحيون نساءهم للخدمة حتى أنجاهم الله وأهلك عدوهم فجعلهم أئمة يقتدى بهم في الخير والصلاح والتوحيد والعدل وجعل فيهم النبوات والكتاب ومكنهم من الحكم في مشارق الأرض ومغاربها.
يقول الله - سبحانه -: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ٢٠﴾ فكل من كان عنده زوجة وبيت يسكنه وخادم يخدمه فإنه يسمى ملكاً كما ثبت بذلك الحديث، فيقال لليهود إن بني إسرائيل في أصلهم مسلمون متبعون لشريعة موسى وعيسى وسائر النبيين يسيرون على الهدى ودين الحق، فكانوا بسبب ذلك منصورين ومفضلين على سائر العالمين في زمانهم، فلما أحدثوا الأحداث وعبدوا الأصنام وصاروا يهوداً كفاراً، فبسبب ذلك ذلوا وساءت حالهم وسلط عليهم الجبابرة يسومونهم سوء العذاب.
إن اليهود قد سموا يهوداً من زمن بني إسرائيل حين كفروا بشريعة موسى وكذبوا عيسى وانفصلوا عن بني إسرائيل بكفرهم فسماهم الله يهوداً، فقيل: إنه من أجل قولهم هدنا إليك، أي عن عبادة العجل وهم الذين قالوا لموسى: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ وهم الذين قيل لهم: ﴿ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ۚ﴾ فكانوا يزحفون على أستاههم ويقولون حنطة (بر وشعير)، قال الله: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾، وهو نظير تبديلهم اسم اليهود باسم إسرائيل، وإسرائيل بريء منهم كبراءة إبراهيم - عليه السلام - من أبيه آزر لما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه.
وهم أصحاب السبت الذين قال الله فيهم: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ﴾، فكانوا يضعون شركهم في البحر يوم السبت الذي نهوا أن يعملوا فيه ولا يأخذونه إلا يوم الأحد تحيلا منهم في انتهاك حرمة السبت ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تَرتكِبوا ما ارتكبَتِ اليهودُ فتستحلُّوا محارِمَ اللهِ بأدنَى الحِيَلِ). وفي الصحيحين من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس فقال: (إنَّ اللَّهَ ورسولَهُ حرَّمَ بيعَ الخمرِ والمَيتةِ والخِنزِيرِ والأصنَامِ، فقال رَجُلٌ: يا رَسولَ اللهِ، أرَأيتَ شُحومَ المَيْتةِ، فإنَّهُ يُطلَى بِها السُّفنُ ويَستصبِحُ بِها النَّاسُ. فقالَ: لا، ثُمَّ قال: قاتَل اللهُ اليَهودَ إنَّ اللهَ لمَّا حرَّم عليهِمُ الشُّحومَها جمَلوه، أي أَذابُوه ثُمَّ باعوه وأكَلوا ثمَنَه) يشير في هذا إلى أن الله – سبحانه – إذا حرّم شيئاً حرّم بيعه وأكل ثمنه.
وهم الذين أنزل الله فيهم ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ١١٢﴾.
وهم الذين أنزل الله فيهم ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۗ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ ۖ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ١٦٧ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا ۖ﴾ وهذا أمر واقع ما له من دافع، لكنه قد يتأخر إلى حين لسبب يقتضيه.
فهذه الآيات وأمثالها نزلت في يهود بني إسرائيل وقد التحق باليهود أخلاط من شتى الأمم والطوائف من أمريكا وروسيا وفرنسا ورومانيا واليونان وبريطانيا وسائر طوائف الكفار، فالتحقوا باليهود فصاروا يهوداً طريقة وعقيدة فلا يصح أن يقال إن هؤلاء اليهود الذين هم من شتى الأمم والطوائف أنهم بنو إسرائيل فضلا عن أن يقال إنهم إسرائيل كما يزعمون – سبحانك – هذا بهتان عظيم، فإن هذا يعد من الكذب المبين.
فإن اسمهم الحقيقي: اليهود وكذا سائر من التحق بعقيدتهم، إذ اليهود اسم لهذه النحلة فكل من اعتقدها التحق بها من عربي وعجمي ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه. فحرام أن يخترع لهم اسم يقتضي تشريفهم وتكريمهم ورفع منزلتهم وقد أهانهم الله وأذلهم ووسمهم بسيمة السوء واسمه لا يفارق رقابهم، فإن هذا صريح التبديل في مخالفة أمر الله وتبديل كلام الله، فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم.