[خطبة الكتاب]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن همزات الشياطين.
أما بعد: فإن من واجب العالم العامل بما أنزل إليه من ربه أن يبين للناس وخاصة أمته وأهل ملته ما نزل إليهم من ربهم وأن ينذرهم عن شر ما يقترفونه مما يعد مخالفاً لما أنزل إليهم من ربهم ومخالفاً لسنة نبيهم، فقد أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ثلاثٌ لا يُغَلَّ عليهنَّ قلبُ امرىءٍ مسلمٍ: إخلاصُ العملِ للهِ والنصيحةُ لأئِمةِ المسلمين ولزومِ جماعتِهم فإنَّ دعوتَهم تحُوطُ من ورائِهم).
وأن الله - سبحانه - بعث نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - على حين فترة من الرسل وأنزل عليه الكتاب فيه تفصيل كل شيء وهدى ورحمة فقال: - سبحانه -: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ٥٥﴾ (من سورة الأنعام).
فذكر – سبحانه – سبيل المؤمنين مفصلة وذكر سبيل الكافرين مفصلة وذكر سبيل المنافقين مفصلة وذكر سبيل اليهود مفصلة وسبيل النصارى وذكر سبيل المشركين عبدة الأوثان مفصلة، وذلك لأمن اللبس من اختلاط الأسماء الدالة على مسمياتها. فقال - سبحانه - على سبيل الإجمال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ١٧﴾ (من سورة الحج).
فذكر - سبحانه – كل جنس باسمه الذي هو بمثابة العلم الدال عليه، لا يتعدى إلى غيره أشبه الصفة اللازمة لموصوفها المميزة له عن غيره.
وذلك لأمن اللبس من قلب الأسماء إلى غير مسمياتها أو تحليها باسم لا يختص بها.
لكون الاسم مشتقاً من السمة وهي العلامة، يقول الله – سبحانه-: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾، أي أسماء الأرض والسماء والبحار والأنهار واسم الناس واسم المسلمين والكافرين.
فكل ما أثبته القرآن من اسم الأجناس والأمم كالمؤمنين والمسلمين وكاليهود والنصارى والمجوس والمشركين، فلا يجوز تبديلها ولا تغييرها عما وضعت له إلا أن تتغير صفة من وسم بها فيزول هذا الاسم بزوال سببه وصفته.
مثال ذلك اليهودي يصير مسلماً فيزول عنه هذا الاسم السيء، أي اسم اليهودية، لأنه صار حنيفياً مسلماً وكذا عكسه.
ولما اعتل بعير لصفية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم – وكان عند بعض نسائه فضل بعير، فقال رسول الله: اعط صفية هذا البعير. فقالت: أنا أعطي تلك اليهودية، فهجرها النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذه الكلمة شهراً، وقال: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر المزجته.
وهذه الأسماء هي بمثابة العقائد التي تتبدل على حسب رغبة صاحبها في انتقاله عنها إلى خير منها أو إلى شر منها.
ولما كان وقت البعثة وكان عند اليهود أولاد للأنصار يرضعونهم، لكون الأنصار زمن الجاهلية عبدة أوثان فهم شر من اليهود، فكبر الأولاد فاعتنقوا دين اليهودية ورضوه لهم عقيدة وطريقة، وهذا حكمه غير حكم المرتد، فإن المرتد هو الذي يكفر بعد إسلامه وهؤلاء لم يدخلوا في الإسلام وإنما اعتنقوا اليهودية واعتقدوها في بداية نشأتهم فصاروا يهوداً.
وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من مولودٍ يولدُ إلا على الفطرةِ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه كما تُنتَجُ البهيمةُ بهيمةً جمعاءَ هلْ تُحِسُّونَ فيها مِنْ جَدْعاءَ حتَّى تَجْدَعُونَها)، ثم قرأ ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾، فأناط علة التهود بالسبب حيث سلم الآباء أبناءهم إلى اليهود ليرضعوهم فصاروا بذلك يهوداً مثلهم. ومثله متنصرة العرب كنصارى تغلب، فقد صاروا نصارى لكون عقيدة الإنسان متعلقة بنفسه لا بآبائه ونسبه، حتى أنه لا يرث الكافر من أبيه المسلم ولا المسلم من ابنه الكافر، لكون الكفر يقطع الموالاة والنسب كما حكى – سبحانه - عن نبيه نوح حين قال: ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي – أي وعدتني أن تنجيني بأهلي- قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ٤٦﴾.
وذلك أنه كان مؤمناً وابنه كافراً فانفصل بكفره عن نسبه، فصار ليس من أهله. ومثله طائفة البهائية في هذا الزمان وكان مؤسس دعوتهم رجلا شيعيا من أهل الأحساء يدعى «السيد أحمد الأحسائي» سنة ١١٦٦، وبعد موته تولى القيام بدعوتهم كاظم الرشتي، وبعد وفاته قام علي محمد وأظهر للناس أنه الإمام المنتظر المهدي، وأخذ يظهر للناس فنوناً من الكفر وأن شريعته تنسخ شريعة القرآن، وأنه قد انتهي دور الشريعة المحمدية فلا صلاة ولا صيام، ثم ادعى أنه باب الله وأنه سيد من عترة الرسول فسموا البابية وهم باطنية كفار بإجماع علماء المسلمين. ومثله طائفة القاديانية وكان مؤسس دعوتهم رجلا يدعى «ميرزا غلام أحمد» من سكنة قاديان بالهند، يزعم بأنه نزل عليه وحي من الله وأخذ يصرح بآرائه، ثم أظهر للناس بأنه المسيح المنتظر فخلّف للناس هذا الشر وتبعه جماعة كثيرون في كل بلد وقد أجمع علماء المسلمين على أن البهائية والقاديانية ليسوا من المسلمين قد انفصلوا عن المسلمين كانفصال اليهود عن إسرائيل، لكون الكفر يقطع الموالاة والنسب، وقد سمى القاديانية نحلتهم بالأحمدية تدليساً وتلبيساً على الأذهان وضعفة العقول والأفهام.
إن هؤلاء البهائية والقاديانية يعتبرون مرتدين عن الإسلام، أشبه أتباع مسيلمة الكذاب الذين قاتلهم الصحابة على ردتهم، وقد أجمع العلماء في هذا العصر على كفرهم، لأن لهم ديناً غير دين المسلمين وأنبياء غير أنبياء المسلمين ولهذا صدر الأمر بمنعهم من دخول مكة المكرمة في حج أو عمرة أو غيرهما لاعتبار أنهم كفار والله يقول: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا ۚ﴾.
إنه من المعلوم أن الإسلام في مبدأ بعثة محمد - عليه الصلاة والسلام - كان له قوة ونشاط واشتهار حتى دخل فيه أكثر الأمم طوعاً واختياراً وصاروا مسلمين وزال عنهم اسم دينهم السابق من اليهودية والنصرانية والمجوسية، حيث صاروا حنفاء مسلمين لكون الإسلام هو دين الحق الذي شرعه الله لجميع الخلق، فقال – سبحانه -: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ﴾، وقال: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ﴾، وقال: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ٨٥﴾.
وكما أن اليهود قد التحق بدينهم من حقت عليه الضلالة فصاروا يهوداً ولم يبق لهم علاقة في الإسلام ولا اسمه كالسموأل من غسان وغيره، لكون الإسلام هداية اختيارية يخص به من يشاء من عباده فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً.
وقال - سبحانه -: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ١٠٤﴾. وقال: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ﴾.
فهذه الآيات وأمثالها خرجت مخرج التهديد والوعيد الشديد، يقول الله - سبحانه -: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا٣﴾.
إن كل من تأمل القرآن الحكيم فإنه يجد فيه اليهود باسم اليهـود والنصارى باسم النصارى، كقوله: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ۖ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ۚ﴾، وقوله: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ﴾، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ﴾ في كثير من الآيات يشق إحصاؤها.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لَعْنةُ اللهِ على اليهودِ والنَّصارى اتَّخذوا قُبورَ أنبيائِهِم مَساجدَ)، وقال: (لتَتَّبِعُنَّ سَننَ من كانَ قبلَكم حذو القُذَّةِ بالقُذَّةِ حتَّى لَو دَخَلوا جُحرَ ضَبٍّ لدَخَلتُموه. قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قالَ: فَمَنْ؟) وقال في صوم عاشوراء: (صُومُوا يومًا قبلَه ويومًا بعدَه خالِفوا اليهودَ). وقال: (افترَقتِ اليهودُ على إحدى وسبعينَ فِرقةً وافترَقتِ النَّصارى على اثنتينِ وسبعينَ فِرقةً وَستَفْترِقُ هذه الأُمَّةُ على ثَلاثٍ وسَبْعينَ فِرقةً كلُّها في النَّارِ إلَّا واحدةً. قالوا: مَن هي يا رسولَ اللهِ؟ قال: مَن كان على ما أنا عليه اليومَ وأصحابي). في كثير من الأحاديث بمعنى ذلك كحديثه مثل عن يهود خيبر ويهود بني النضير: ولم يثبت عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه تسمية اليهود بإسرائيل لا في حديث صحيح ولا ضعيف، بل قال: (لا تَرتَكِبوا ما ارتَكَبَتِ اليهودُ فتستَحلُّوا مَحارِمَ اللهِ بأدنَى الحِيَلِ) وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (قاتَلَ اللهُ اليَهودَ لَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عليهمُ الشُّحُومَ جَمَلوها ثُمَّ باعوها وأكَلوا ثَمَنَها).
وأحياناً يذكر القرآن اليهود والنصارى باسم أهل الكتاب في حالة المدح والذم في كثير من الآيات كقوله: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ٦٤﴾.
وقال - سبحانه -: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ ۖ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ١٩﴾ (من سورة المائدة).
وقال: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ١٥ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ١٦﴾. (من سورة المائدة). ومثله قوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ﴾. وقال: ﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾. يعني بذلك اليهود خاصة.
والتعبير بالكفار يجمع اليهود والنصارى والمشركين، لكون أمم الكفر على اختلاف مذاهبهم أمة واحدة كما في قوله – سبحانه -: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ١﴾، فهذه الأسماء هي بمثابة السيماء والعلامات الدالة على من وضعت له فلا يجوز إبدالها بما لا أصل له في الشرع كإبدال اليهود بإسرائيل أو إبدال النصارى بالمسيحيين نسبة إلى اتباع المسيح، فإن هذا يعد من باب قلب الحقائق والتحريف لكلام الخالق، فإن من معنى التحريف المذموم هو صرف اللفظ إلى غير المعنى المراد منه، فإن النصارى بدلوا دين المسيح وخالفوه ولم يكونوا من أتباعه فتسميتهم بالمسيحيين خطأ في التعبير وتحريف للتنزيل، كما أن اليهود بدلوا دين موسى ودين إسرائيل وكفروا به ولم يكونوا من أتباعه ولا من أتباع إسرائيل، كما أنهم كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبالقرآن النازل عليه فازدادوا كفراً على كفرهم، فتسميتهم بإسرائيل هو خداع وتغرير، وتلبيس على أذهان الناس وإلا فإنهم قد كفروا بما أنزل على إسرائيل وقتلوا الأنبياء بغير حق فبراء منهم إسرائيل كبراءة إبراهيم من أبيه ﴿لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ١١٤﴾.
لقد عرف اليهود تمام المعرفة أن تسميتهم باليهود الذي هو اسمهم الحقيقي من قديم الزمان وحديثه والذي نزل القرآن باسمه ورسمه أنها تسمية سيئة تسمهم بسمة السوء والنقص والذل فحاولوا التهرب عن هذه التسمية السيئة بقلبها إلى اسم إسرائيل وهو اختلاس منهم لهذا الاسم الذي لا أصل له وليسوا بأحق به ولا من أهله، وإنما أرادوا أن يوهموا الناس بأنهم حزب إسرائيل وهو كذب مبين، فإنهم بالحقيقة أعداء إسرائيل وقد انفصلوا بكفرهم عن إسرائيل إذ أن الكفر يقطع الموالاة بين الرجل وبين نسبه وكان الأصل في تسمية إسرائيل أنها تسمية إسلامية في بدايتها، إذ أن إسرائيل لقب لنبي الله يعقوب بن نبي الله إسحق ابن نبي الله إبراهيم - عليهم وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والتسليم –.
والمراد ببني إسرائيل ذريته وأسباطه الاثنا عشرة، وأطلقت هذه التسمية على جميع أتباعهم ممن يعيش بدولتهم كما تسمي العرب القبيلة باسم جدها الأعلى وكما تنسب الرعايا إلى اسم ملوكها، كما يقال في هذا الزمان السعوديون نسبة إلى ملوك آل سعود ملوك المملكة العربية السعودية، وتطلق هذه التسمية على جميع رعاياهم، فكل فرد منهم يقول: أنا سعودي نسبة إلى ملوك آل سعود وإن لم يكن من أصل نسبهم، وكذلك بنو إسرائيل، فإن هذه التسمية تعم كل من كان في زمن بني إسرائيل فيطلقون هذه التسمية على جميع الأفراد الذين كانوا في زمنهم كما في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له: إن الله يقول في مريم: ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾ وإن بين هارون ومريم ألو فاً من السنين. فقال: (أما عَلِمتُ أنَّهم يتَسَمَّونَ باسمِ أَنبِيائِهم) وقد مرّ النبي – صلى الله عليه وسلم - على بعض الصحابة وهم ينتضلون، فقال لهم: (ارمُوا فإنَّ أباكُمْ إسْماعيلَ كان رامِيًا).
إننا لا ننكر كون بعض اليهود القدامى قد انشعبوا من بني إسرائيل فهم الطائفة الكافرة من بني إسرائيل فصاروا يهوداً فإن بني إسرائيل منهم المسلمون ومنهم الكافرون كما قال - سبحانه -: ﴿فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ۖ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ١٤﴾، كان بعض العلماء يقول: إذا سمعت الله يقول: يا بني إسرائيل فإن بني إسرائيل قد مضوا وإنما يعني أنتم لكون الاعتبار في القرآن هو بعموم لفظه لا بخصوص سببه.
فقول النبي – صلى الله عليه وسلم - : (بلِّغوا عنِّي ولَوْ آيةً وحدِّثوا عنْ بني إسرائيلَ وَلَا حَرَجَ ومَنْ كذَبَ عليَّ مُتعمِّدًا فلْيتَبوَّأْ مَقعَدَه مِن النارِ) رواه البخاري. فإنه لا يعني ببني إسرائيل اليهود الموجودين – حاشا وكلا – وإنما يعني بهم بني إسرائيل الذين كانوا في زمن موسى وعيسى والذي قال: (إذا حدَّثكُم بَنُو إسرَائِيلَ فلا تُصدِّقوهم ولا تُكذِّبوهم)، وقال: (إن فيهِمُ الأعاجيبُ).
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
أن اليهود أول ما سموا يهودا في زمن بني إسرائيل حين كفروا بعيسى بن مريم حين كذبوه وعذبوه وصلبوه بزعمهم ورموا أمه بالمفتريات الشنيعة، وزعموا أن المسيح عيسى بن مريم ليس هو المسيح المبشر به في التوراة، لأن المسيح الذي ينتظرونه هو المسيح الدجال، والله يقول: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ۚ﴾، قيل: إنه اشتبه عليهم، وقيل: إن بعضهم قد عرف بأنه ليس عيسى بن مريم وإنما شبّه على اليهود بأنه عيسى ليتخلص من أذاهم وعقابهم.