متقدم
 

الأمراء المسلطون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله معز من أطاعه واتقاه ومذل من أضاع أمره وعصاه.

أما بعد:

فإن الله سبحانه بحكمه وعدله قد نصب على أعمال الناس علامات يعرف بها صلاحهم من فسادهم، وحسن قصدهم من سوء اعتقادهم فمن أسر سريرة ألبسه الله رداءها علانية، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر. قال تعالى: ﴿أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخۡرِجَ ٱللَّهُ أَضۡغَٰنَهُمۡ ٢٩ وَلَوۡ نَشَآءُ لَأَرَيۡنَٰكَهُمۡ فَلَعَرَفۡتَهُم بِسِيمَٰهُمۡۚ وَلَتَعۡرِفَنَّهُمۡ فِي لَحۡنِ ٱلۡقَوۡلِ [محمد: 29-30]. وقد قيل: ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم وفي البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير أن النبي ﷺ قال: إِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ. أَلَا وَهِىَ الْقَلْبُ». وهذه المضغة التي عناها الرسول ﷺ لا يعني بها تلك اللحمة المركبة في الإنسان بما يسمونها القلب، وإنما يعني بها ما يشتمل عليه القلب من الإيمان واعتقاد التوحيد أو ضد ذلك من اعتقاد الكفر والإلحاد.

ومتى صلح الاعتقاد صلح العمل، أو فسد الاعتقاد فسد العمل؛ لأن كل إناء ينضح بما فيه، وعادم الخير لا يعطيه، وكان حَلْفُ النبي ﷺ: «لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ»[182]، ويقول: «إِنَّ الْقَلْبَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّبِّ يُقَلِّبُهُ كَيْفَ يَشَاءُ»، ولهذا قيل:
وما سمّي الإنسان إلا لنسيه
وما القلب إلا أنه يتقلب
والقلب هنا هو المسمى بالعقل.

فقد يكون العقل صحيحًا وهو الذي يعقل عن الله مراده؛ أمره ونهيه، أو لكونه يعقل صاحبه على المحافظة على الفرائض والفضائل ويردعه عن منكرات الأخلاق والرذائل، كما قيل:
والعقل في معنى العقال ولفظه
فالخير يعقل والسفاه يحُله
وقد يكون العقل سقيمًا أو معدومًا أشبه عقل البهائم، وهذا العقل كثيرًا ما ينفيه القرآن عن المشركين وعن التاركين للأوامر الدينية والمرتكبين للمحرمات الشرعية، كما قال سبحانه: ﴿وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوبٞ لَّا يَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡيُنٞ لَّا يُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانٞ لَّا يَسۡمَعُونَ بِهَآۚ أُوْلَٰٓئِكَ كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ [الأعراف: 179]، فلم يقتصر سبحانه على جعلهم مثل الأنعام بل جعلهم أضل؛ لكونهم لم يستعملوا مواهب عقولهم فيما خلقت له من عبادة ربهم فكانوا أضل من الأنعام، لكون الأنعام خلقت بطبيعتها جاهلة. وعليه يحمل قول بعضهم عن حمار توما.
قال حمار الحكيم توما
لو أنصفوني لكنت أركب
لأنني جاهل بسيط
وصاحبي جاهل مركب
وحكى الله سبحانه عن أهل النار: ﴿وَقَالُواْ لَوۡ كُنَّا نَسۡمَعُ أَوۡ نَعۡقِلُ مَا كُنَّا فِيٓ أَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ ١٠ فَٱعۡتَرَفُواْ بِذَنۢبِهِمۡ فَسُحۡقٗا لِّأَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ ١١ [الملك: 10-11]، وقال: ﴿أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَسۡمَعُونَ أَوۡ يَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِيلًا ٤٤ [الفرقان: 44].

وقد قيل:
عمي القلوب عروا عن كل فائدة
لأنهم كفروا بالله تقليدا
وقال تعالى: ﴿وَإِذَا نَادَيۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُوٗا وَلَعِبٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡقِلُونَ٥٨ [المائدة: 58]، فنفى الله عنهم العقل الصحيح بسخريتهم بالدين وهزؤهم بالمصلين، ثم عدم إجابتهم لنداء الصلاة الذي هو نداء بالفوز والنجاح بسعادة الدنيا وسعادة الآخرة، والنبي ﷺ قال: «من دُعيَ إلى الفلاح فلم يجب لم يُرِد خيرًا ولم يُرَد به خير»[183].

ثم إن العلماء أخذوا من قوله ﷺ: «إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ»[184] بأن القلب بما أنه ملك الأعضاء ومسلط على الجسم في صلاحه وفساده كذلك الإمام، أي الحاكم، فإنه متى كان تقيًّا عدلاً سرت العدالة في أُمته ورعيته، ومتى كان ملحدًا سرى خُلق الإلحاد في رعيته على حد ما قيل: متى صلح الراعي صلحت الرعية، وإذا فسد الراعي فسدت الرعية. لكون الرعية مع السلطان بمثابة الأعضاء مع اللسان تقول: اتق الله فينا، فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا. ولهذا صار من السبعة الذين يظلهم الله في ظله الإمام العادل.

والعدل قوام الدنيا والدين وصلاح المخلوقين وله وضعت الموازين، وهو الآلف المألوف، المؤمن من كل مخوف به تآلفت القلوب والتأمت الشعوب وشمل الناس الصلاح، فاتصلت بهم أسباب النجاح والفلاح، وشمل الناس التناصف والتعاطف. والعدل مأخوذ من العدل والاستواء المجانب للجنف والالتواء. وحقيقته وضع الأمور في مواضعها وأخذ الأموال من حلها وصرفها في حقها. والمقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلّوا.

فجدير بمن ملّكه الله بلاده وحكّمه على عباده أن يكون لنفسه مالكًا، وللهوى تاركًا. وللحق في حالة الرضا والغضب مؤثرًا ومظهرًا. فإذا فعل ذلك ألزم النفوس طاعته والقلوب محبته، وأشرق بنور عدله زمانه، وكثر على عدوه أنصاره وأعوانه. وما أحسن ما قيل:
لكل ولاية لا بد عزل
وصرف الدهر عقد ثم حَلُّ
وأحسن سيرة تبقى لوالٍ
مدى الأيام إحسان وعدل
وفي كتاب النبي ﷺ لهرقل: «مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّى أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ»[185] أي الأتباع. ولهذا يقول العلماء: إن أكثر ما يفسد دين الإسلام هو العلماء الضالون والأمراء المسلّطون. وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: إن أكثر ما يفسد الإسلام هو زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن وحكم الأئمة المضلين[186]. ومن شعر عبد الله المبارك:
وهل أفسد الدّين إلا الملوك
وأحبار سوءٍ ورُهبانُها
والنبي ﷺ قال: «وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِى الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ»[187] ولهذا قال بعض السلف: لو أن لي دعوة مستجابة لصرفتها إلى السلطان؛ لأنه متى صلح أصلح الله به الناس، وإذا فسد فسد به الناس، وقد نجم في هذا الزمان أميران متكافئان في الطغيان وفي الجهر بالإلحاد ومحاولة إفساد عقائد العباد، أحدهما يقول: ما هذا القرآن إلا أساطير الأولين. ويقول: إنه يجب على الحكام تطوير الأحكام فيجعلون الواجب ليس بواجب والحرام ليس بحرام، كما حكم بجواز فطر العمال في رمضان، ويقول فيما أثبته القرآن من تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث أنه ليس من المنطق، وأنه يجب مساواة الأنثى بالذكر، وعلى كل حال فقد عملت رسالة في الرد على هذا سميتها: حكمة التفاضل في الميراث بين الذكور والإناث وفيها من بيان حكم التشريع ما عسى أن يشفي العليل ويروي الغليل، ويهدي المستريب إلى سواء السبيل ﴿وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡ‍ًٔا [المائدة: 41].

وأما الحاكم الثاني فقد ثبت عنه قوله: إنني لا أعتد ولا أعتبر إلا بالسنة العملية أما السنة القولية فلا أعتبرها، وزعموا بأنه صلى العصر بجماعة ركعتين، فقال له بعض الحاضرين: إن العصر أربع. فقال: إن الله أمر بإقامة الصلاة وقد أقمناها ولم يذكر العدد. وزعموا بأنه يقول: إن ﴿قُلۡ في قوله: ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ ١ [الاخلاص: 1]، و﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ ١ [الناس: 1]، و ﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ ١ [الفلق: 1]. إنها زائدة، فينبغي أن تحذف، ويقرأ: هو الله أحد، وأعوذ برب الفلق، وأعوذ برب الناس، فياليت شعري، ماذا يقول في قوله سبحانه: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا [الأعراف: 158]، عندما يذكر الوعظ بعموم بعثته إلى كافة الناس فإنه عندما يخاطب الناس ويقول لهم: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا فإن الناس سيقولون له: كذبت. لست برسول الله، إنما ذاك محمد بن عبد الله وزعموا بأن له مؤلفًا سيخرجه للناس، مما عسى أن يتعلق بهذه الكفريات مما يدل على أنه مرجوج أهوج، يتقلب مع الأهواء ويخبط خبط العشواء، كما قيل:
يسوسون الأمور بغير رأي
فينفذ أمرهم ويقال ساسة
فأفَّ من الحياة وأفَّ منِّي
ومن زمن رئاسته خساسة
وقد أفردت للرد على هذا برسالة سميتها: سنة الرسول - عليه الصلاة والسلام- وهي شقيقة القرآن. والأصل في هذا هو قلة نصيب هؤلاء من الدين؛ لأنه ما كان في شخص إلا زانه وما نزع من شخص إلا شانه، وكل إناء ينضح بما فيه وعادم الدين لا يعطيه.
وكل كسر فإن الدين يجبره
وما لكسر قناة الدين جبران
وإن مما ندرك على بعض أمراء العرب المسلمين في هذا الزمان وفي بعض البلدان، إظهار كراهيتهم للدين وعدم احتفالهم به ونفرتهم عن حمله، وقد عملوا عملهم وسعوا سعيهم في تقليل حصته من المدارس والجامعات إلى حالة أنهم لا يعتبرون الامتحان فيه ولا يحتفلون بحصة العلوم الشرعية ولا النجاح فيها كأنهم يحاولون إسقاطها من جملة العلوم المعتبرة، تمشيًا مع آراء الأساتذة القليلة حظهم من الدين، وإلا فمن المعلوم أن علم الدين يهذب الأخلاق، ويزيل الكفر والشقاق والنفاق. إن التهذيب على الدين هو أكبر ما يستعين به الحاكم على سياسة مملكته وسيادة رعيته، فالبلدان المتدينة بدين صحيح نراها آخذة بحظ وافر من الأمن والإيمان والسعادة والاطمئنان، سالمة من الزعازع والافتتان، يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان. وهذا داءٌ دوي وخلق رديّ، قد سرى وتسرب إلى أكثر البلدان العربية بطريق العدوى والتقليد الأعمى، وهو يؤثر في عدم رغبة الطلاب على الحرص على حصوله والتوسع في فنونه لسقوطه عن رتبة الاعتبار فلا تضاف درجاته إلى مجموع درجات النجاح، ويترتب على ذلك كسل الطلاب في تحصيله وعدم التوسع فيه، وهو عمل يؤذن بانقراض العلم واستبداله بالجهل إلى حالة أنهم أيضًا تصدوا إلى فصل القائمين بتعليمه من المدارس والجامعات وألحقوهم بالأعمال الطفيفة التي ليس لها قيمة والتي لا يستفاد من علمهم فيها، وحرموهم ما يستحقونه من الرتب العالية ومن البعثات النافعة لكونهم يخصون بها من هو على عقيدتهم وطريقتهم. أُمور يذوب لها قلب المسلم، فكان هؤلاء الأمراء في محاربتهم لعلم الدين بمثابة المريض الأحمق، الذي يعاف الدواء وينفر من استعماله من أجل أنه علاج دائه.
أمور يضحك السفهاء منها
ويبكي من مغبتها الحليم
إنه متى فُقد علم الدين والعمل به، فإنه يسود الجهل وتسود الفوضى، وإذا ساد الجهل ساءت النتيجة. لهذا رأينا بعض هؤلاء الأمراء المسلطين، قد فرضوا على الناس فرضًا إلزاميًّا الحكم بالاشتراكية الماركسية التي استباحوا بها أكل أموال المؤمنين والمؤمنات بغير حق، وخاصة التجار، فقد سحبوا أموالهم منهم وألحقوهم بالفقراء العجزة، وأخذوا يتمتعون بأموالهم هم وأعوانهم.

والله تعالى يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡ [النساء: 29]، وقال: ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١٨٨ [البقرة: 188]. والنبي ﷺ كان يقول في المجامع العظام: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»[188] قرن المال بالأنفس، لكون المال عديل الروح، وقال ﷺ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ»[189] وكأنه يشاهد سوء ما وقع في هذا الزمان من استباحة بعضهم أكل أموال بعض بغير حق وهو عمل مقرون بسوء العاقبة على جميع الناس.

وأكبر من هذا وأنكر، اعتقادهم إباحة هذا العمل، وقد أجمع علماء المسلمين على كفر من استباح أمرًا محرّمًا، كمن استباح ترك الصلوات المفروضة أو استباح الفطر في نهار رمضان بغير عذر، أو استباح فعل الزنا أو الربا أو شرب الخمر، ومثله من استباح أخذ أموال الناس بغير حق وحسبك ما يترتب على أخذ أموال الناس من المضار والمفاسد الكبار، وكونه مؤذنًا بالخراب والدمار وغلاء الأسعار ونقص الأرزاق والثمرات، ثم تعميم الفاقة والفقر لسائر الطبقات.
مُلَّ المقام فكم أعاشر أُمةً
حكمت بغير كتابها أمراؤها
ظلموا الرعية فاستجازوا سبيها
ورعوْا مصالحها وهم أجراؤها
وإن نحلة الاشتراكية السيئة إنما دخلت بلدان المسلمين عن طريق الأمراء المسلطين الذين متى صلحوا صلح سائر الناس، ومتى فسدوا فسد سائر الناس، فهم يحرمون الأموال على أهلها التي هي نتيجة سعيهم وعرق جبينهم ويبيحونها لأنفسهم، وإن دين الإسلام بريء من هذه الاشتراكية الشيوعية التي تقضي بتعميم جميع أموال الناس بغير حق حتى أجلسوا الأغنياء على حصير الفاقة والفقر، كما أنه بريء من الرأسمالية المادية وأتباعها الذين جعلوا التحليق بتجارتهم وصناعتهم وزراعتهم هو ربهم وإلههم، وتركوا لأجلها فرائض ربهم؛ من صلاتهم وزكاتهم ونسوا أمر آخرتهم. وقد نهى الله المؤمنين أن يكونوا أمثالهم، فقال سبحانه: ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمۡ أَنفُسَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ١٩ [الحشر: 19].

وقد روى الحاكم والطبراني وابن حبان في صحيحه، أن النبي ﷺ قال: «سِتَّةٌ لَعَنْتُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ، وَلَعَنَهُمُ كُلُّ نَبِيٍّ مُجَابٌ الدعوة: الزَّائِدُ فِي كِتَابِ اللهِ، وَالْمُكَذِّبُ بِقَدَرِ اللهِ، وَالْمُتَسَلِّطُ على أُمتي بِالْجَبَرُوتِ لِيُذِلَّ مَنْ أَعَزَّ اللهُ وَيُعِزَّ مَنْ أَذَلَّ اللهُ» ويدل له ما روى البخاري عن أبي هريرة، أن رجلاً قال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: ««إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ». قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»».

أشار في هذا الحديث إلى الساعة الصغرى التي هي هلاك الناس في حياتهم قبل وفاتهم، وذلك حين يسود الناسَ الجهل والجهال، وحين يتولى أمر الناس من ليس بكفء فيسومهم سوء العذاب من أنواع المكاره والكوارث حتى تذوب قلوبهم وتهلك أخلاقهم، إذ من المعلوم أن هلاك الأخلاق أضر من هلاك الأبدان، والفتنة أشد من القتل فيتمنون الموت لكونهم في حالة الأموات كما قال سبحانه: ﴿وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖ [ابراهيم: 17]، فهذه هي الساعة التي أخبر النبي ﷺ عنها حينما يوسّد الأمر إلى غير أهله.

فمتى رأيت دولة هؤلاء الأمراء قد أقبلت وراياتها قد نصبت وجيوشها قد ركبت فبطن الأرض والله خير من ظهرها.

وفي البخاري عن أبي هريرة، أن النبي ﷺ قال: «يأتي على الناس زمان يمر المسلم فيه بالقبر ويقول: يا ليتني كنت صاحب هذا القبر».

من ذلك أن الرجل الجندي المسخر في حدود عمله يحفظ الأمن والأموال وحقن الدماء وحراسة البلاد؛ ثم يسعى سعيه ويعمل عمله في الانقلاب على من قبله ممن هو من أهل الحكم والسياسة، فإن هذا يعتقد في نفسه أن الناس لن يخضعوا له ويسمعوا ويطيعوا بأمره حتى يسومهم سوء العذاب، ويذيقهم مسًّا من القتل والكبت والتنكيل ويكونون كما قيل:
تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت
فإن تولوا فبالأشرار تنقاد
فتقوم على الناس الساعة التي فيها هلاكهم كما يدل له الحديث: ««إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ». قال: كيف إضاعتها؟ فقال: «إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»»[190].

إنه لممّا يسرني ويسر كل شخص يهتم بأمر المسلمين، حينما نسمع بأن حكام المسلمين والزعماء المفكرين في حالة المناسبات والجلسات التي يعقدون لها الاجتماعات للتذاكر في شؤون أُممهم وعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم، فيتفق رأيهم على كلمة واحدة لا يختلف فيها اثنان؛ وهي أن الأمر الذي فل حدّهم وشتّت شملهم وألقى العداوة بينهم هو تقصيرهم في أمر دينهم، وخروجهم عن نظام شريعة ربهم وسنة نبيهم ﷺ، وأن الرأي السديد والأمر المفيد هو اعتصامهم بدين الإسلام وأخلاقه وآدابه والمحافظة على فرائضه والتحاكم إلى شريعته. فإنه الكفيل بإصلاح الدنيا والدين، فهم يتناصحون ويتواصون بموجبه ولم يبق سوى التنفيذ، وسيكون لهذا التداعي تجاوب ولو بعد حين ﴿فَإِن يَكۡفُرۡ بِهَا هَٰٓؤُلَآءِ فَقَدۡ وَكَّلۡنَا بِهَا قَوۡمٗا لَّيۡسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ [الأنعام: 89].

والحاصل أن أُمراء المسلمين يجب أن يكونوا متكاتفين متكافلين ﴿بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ [التوبة: 71]، فلو أنهم حينما يرون أحدهم قد زاغ قلمه أو زلّ قدمه، وشذّ بأخلاقه واعتقاده إلى مخالفة دين الحق، فلو بادروا إلى نصيحته والأخذ بيده بجدّ في القول ولو بقطع حبل الاتصال به، فلو فعلوا ذلك لنفعوه ونفعوا الناس معه، حتى يتعظ به غيره فيرتدع عن الجهر بسوء ما يعتقده، بدلاً عن أن تبقى تعاليمه السيئة وراثة بين الناس يتلقّفها بعضهم عن بعض، ولأن نصيحة الخلق بالحق ليست مخصوصة بالعلماء دون الأمراء، بل هي من الأمراء أبلغ وأعلق في قلوب المنصوحين.

ومن صفة المؤمنين ما أخبر الله عنهم بقوله تعالى: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرۡحَمُهُمُ ٱللَّهُ [التوبة: 71].

* * *

[182] رواه البخاري من حديث ابن عمر. [183] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه من حديث عائشة موقوفا، بلفظ: من سمع النداء فلم يجب فلم يرد خيرا ولم يرد به. [184] متفق عليه من حديث النعمان بن بشير. [185] أخرجه البخاري من حديث ابن عباس. [186] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله عن زياد بن حدير. [187] أخرجه أبو داود والترمذي من حديث ثوبان. [188] أخرجه مسلم بلفظ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ...» من حديث جابر بن عبد الله. [189] رواه الدارقطني وقال في الإرواء: صحيح. [190] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة.