اعتراض الشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رشيد على ما جاء في رسالة الدلائل العقلية والنقلية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن همزات الشياطين.
أما بعد:
فإنني رأيت كلامًا نشرته جريدة الرياض في عددها المؤرخ في اليوم السابع من شهر ذي الحجة عام 1390هـ، من فضيلة الشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رشيد، رئيس هيئة التمييز بالرياض حاصله: الإنحاء بالملام وتوجيه المذام على كتابنا: الدلائل العقلية والنقلية في تفضيل الصدقة عن الميت على الضحية، بعبارات كلها تقتضي الجنف والجفا، وتنافي الإنصاف والحفا، قد جعل فيها الجد عبثًا والتبر خبثًا والصحيح ضعيفًا، وأخبر أن الأمر على عكس ما في الكتاب، وأن الأضحية عن الميت هي من الأمر المشروع بنص السنة والكتاب وبدون شك ولا ارتياب، وأن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، وصرح بأن عملي خاطئ لا ينبغي السكوت عليه ولا إقراره إلى آخر ما ذكره.
وكم من مُليم لم يصب بملامة
ومُتَّبع بالذنب ليس له ذنب
وقد كنت أحسب لهذه النفرة الحساب، فطرقت لسدها كل باب وجمعت من النصوص الجلية والبراهين القطعية ما يزيح الشك عن الكتاب، ولن أهمل أو أنسى ما عسى أن يكون حجة عليّ في هذا الباب[56]، بل كتبت كل ما وجدت من حجج المانع والمقتضي والموجب والسالب ورجحت ما يقتضيه الترجيح، بدليل السنة والكتاب، وبينت من الدلائل في مقدمته ما يكون مؤذنًا بصحته، ولم ألقه ساذجًا من دليل الحكم وعلته، لأنني أخذت فيما قلت بالأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها والتعويل عليها، وكونه لا حول ولا قوة لي إلا بها، غير أن صواب القول وصحته غير كافلة لصيانته عن الرد عليه أو الطعن فيه والحط من قدره، حتى ولا كتاب الله الذي ﴿لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦ﴾ [فصلت: 42] فإنه لم يسلم بكماله من الطعن في أحكامه والتكذيب بكلامه ﴿وَكَذَّبَ بِهِۦ قَوۡمُكَ وَهُوَ ٱلۡحَقُّۚ قُل لَّسۡتُ عَلَيۡكُم بِوَكِيلٖ ٦٦﴾ [الأنعام: 66]، فكيف بكلام من هو مثلي وأنا المقرّ على نفسي بالخطأ والتقصير، وأني لدى الحق أسير.
غير أن الناس بطريق الاختبار يتفاوتون في العلوم والأفهام وفي الغوص إلى استنباط المعاني والأحكام أعظم من تفاوتهم في العقول والأجسام، فتأخذ العيون والآذان من الكلام على قدر العقول والأذهان، فيتحدث كل إنسان بما فهمه، حسب ما وصل إليه علمه، وعادم العلم لايعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه، فمن واجب الكاتب أن يبدي غوامض البحث ويكشف مشاكله، ويبين صحيحه وضعيفه مدعمًا بدليله وتعليله، حتى يكون جليًّا للعيان، وليس من شأنه أن يفهم من لا يريد أن يفهم كما قيل:
عليك في البحث أن تبدي غوامضه
وما عليك إذا لم تفهم البقر
إنه متى تصدى عالم أو كاتب أو شاعر لتأليف أي رسالة أو أي مقالة أو أي قصيدة، فبالغ في تنقيحها بالتدقيق وبنى قواعدها على دعائم الحق والتحقيق بالدلائل القطعية والبراهين الجلية من نصوص الكتاب والسنة وعمل الصحابة وسلف الأمة، فحاول جاحد أو جاهل أن يغير محاسنها ويقلب حقائقها وينشر بين الناس بطلانها وعدم الثقة بها، فيلبسها ثوبًا من الزور والبهتان والتدليس والكتمان، ليعمي عنها العيان ويوقع عدم الثقة بها عند العوام وضعفة الأفهام، أفيلام صاحبها إذا كشف عنها ظلم الاتهام وأزال عنها ما غشيها من ظلام الأوهام بطريق الحجة والبيان، إذ لا بد للمصدور من أن ينفث، والحجة تقرع بالحجة، ومن حكم عليه بحق فالحق فلجه، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيَّ عن بينة، مع العلم أن المبني على دعائم الحق والتحقيق لن يزلزله مجرد النفخ بالريق؛ لأن الحق مضمون له البقاء، وأما الزبد فيذهب جفاء، وإنا لنرجو لفضيلة الشيخ الأجر والثواب، سواء أخطأ في النقد أو أصاب؛ لأنه وإن رد عليَّ أو رددت عليه فما هو إلا محض التلقيح للألباب ويبقى الود ما بقي العتاب، إذ ما من أحد من الناس إلا وهو راد ومردود عليه، ولنا الأسوة بالصحابة، حيث يرد بعضهم على بعض في مسائل الفروع ولم يجد أحد منهم في نفسه حرجًا أو افتخارًا بفلج؛ لأن قصد الجميع الحق، فهو غايتهم المقصودة، وضالتهم المنشودة، وإنا لنرجو في إثارة هذه المباحث بألَّا نعدم من نتائج جميلة وحكم جليلة، يثيرها البحث والنقاش؛ لأن العلم ذو شجون يستدعي بعضه بعضًا، والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.
* * *
[56] إلى حالة أن الذين تصدوا بالرد علينا رأيناهم يأخذون جملاً من فصول الرسالة يرسلونها ردًّا علينا، فيحسب من لا يفهم أنه نقض لما قلنا وما شعروا بأنها بضاعتنا ردت إلينا.