قولهم: العقد شريعة المتعاقدين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ونستعين بالله ونصلي ونسلم على محمد رسول الله.
أما بعد:
لقد سمعت من قذائف القوانين قول بعضهم العقد شريعة المتعاقدين يعنون بذلك العقد الذي ينظمه القانون المدني، ويبنون حكمهم عليه مع قطع نظرهم عما يجيزه الشرع أو يحرمه، فلا قيمة لأحكام الشرع عندهم أو في عرفهم. فهذه الكلمة بهذه الصفة تفتح باب الشر فتجعل الحلال حرامًا، فالزنا في عرفهم وقانونهم متى وقع بطريق الرضا فهو جائز قطعًا، وكذلك اللواط بين الذكور، ومثله أكل الربا أضعافًا مضاعفة فإنهم يرونه في عرفهم جائزًا قطعًا، وكذا القمار وبيع الخمر وشراؤه وبيع الخنزير فكل هذا يرونه جائزًا وحلالاً. لكون القانون المدني مقتبسًا من القانون الفرنسي الرائج الآن في البلدان العربية، والذي يتصدر الحكم بموجبه القضاة المدنيون، وهذا كله باطل ولا يعتد به ولا نفاذ لحكمه بطريق الشرع، لقول النبي ﷺ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ»[188]. وقال: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ»[189].
وسمعت من بعضهم قولهم: الرضا شريعة المتعاقدين وهذه الكلمة بهذه الصفة لا تبقي من الإسلام وأمور الحلال والحرام ولا تذر. والله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتُبه وشرع أحكامه وبيَّن حلاله وحرامه ليقوم الناس بالقسط، أي بالعدل، فقال سبحانه: ﴿لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِ﴾ [الحديد: 25]. فالكتاب هو الهادي إلى الصواب، والميزان هو العادل يبين الهدى من الضلال.
إن قولهم: الرضا شريعة المتعاقدين هي حملة على القرآن والسنة وأحكام الشريعة الإسلامية، ومثله قولهم: العقد شريعة المتعاقدين فليس كل عقد يسوغ أن يكون شريعة للناس، فإن العقد منه الحق ومنه الباطل. والحق أن شريعة المتعاقدين هو حكم الله ورسوله، لقوله سبحانه: ﴿فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ﴾ [النساء: 59].
ومثله قول الرسول ﷺ: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا»[190]. ومثله: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا»[191]. وفي الصحيحين من حديث النعمان بن بشير أن النبي ﷺ قال: «الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُوْرٌ مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ». الحديث. لكن القليل من الناس هم الراسخون في العلم والفهم يعرفون هذه المتشابهات، فيلحقون الحلال بالحلال والحرام بالحرام بمقتضى الدلائل والأحكام، والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً.
ثم إن الأصل في العقود (الإباحة) حتى يقوم دليل التحريم، وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أن الأصل في العقود والشروط (الحَظْرُ) إلى أن يقوم دليل الإباحة، وهذا هو مذهب الظاهرية وعليه تدل نصوص الإمام الشافعي وأصوله.
وذهب الإمام مالك إلى أن الأصل في العقود الإباحة إلا ما دل على تحريمه، وعليه تدل نصوص الإمام أحمد وأصوله وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الأصل في العقود الصحة والجواز ولا يحرم ويبطل منها إلا ما دل الشرع على إبطاله وتحريمه بنص صحيح أو قياس صريح، قال: وأصول الإمام أحمد المنصوصة عنه تجري على هذا القول ومالك قريب منه. انتهى.
وقد نهج هذا المنهج العلامة ابن القيم رحمه الله، قال في الإعلام: الخطأ الرابع: فساد اعتقاد من قال: إن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملتهم على البطلان، حتى يقوم دليل الصحة، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة عقد أو شرط أو معاملة، استصحبوا بطلانه، فأفسدوا بذلك عقودًا كثيرة من معاملات الناس وشروطهم بلا برهان من الله، بناء على هذا الأصل، وجمهور الفقهاء على خلافه، وأن الأصل في العقود والشروط الصحة حتى يقوم الدليل على البطلان، وهذا القول هو الصحيح فإنه لا حرام إلا ما حرم الله ورسوله، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولا دين إلا ما شرعه الله ورسوله. انتهى.
فهذه القوانين الوضعية المخالفة لشرع الله الحكيم يجب أن تُرد إلى شرع الله الحكيم، فقد أعطى الله كل ذي حق حقه وقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]. يعني المباحة في شرع الله، أما القوانين الوضعية فإنه لا قيمة لها في شرع الله الحكيم، كما قيل:
لا وافق الحكم المحل ولا هو اسـ
ـتوفى الشروط فكان ذا بطلان
والنبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَّدَ حُدُودًا، فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلا تَبْحَثُوا عَنْهَا، تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ»[192]. وحدود الله: محرماته، والبشر محكومون وليسوا بحاكمين، وإنما سُمي المسلم مسلمًا لاستسلامه لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة. ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡ﴾ [الأحزاب:36]. ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ أَن يَقُولُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٥١﴾ [النور: 51].
والنبي ﷺ قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ»[193]. وقال: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَوْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ»[194].
إن كلمة العقد شريعة المتعاقدين هي كلمة كفر، واعتقادها كفر والعمل بها كفر، تزيغ المسلمين عن معتقدهم الصحيح ثم تقودهم إلى الإلحاد والتعطيل والزيغ عن سواء السبيل، فهي تنقض عرى الإسلام عروة عروة بحيث يكون الناس بها أشر من الجاهلية الأولى، فيستبيحون نكاح الأمهات والبنات بناء على الرضا الواقع بينهم.
وقد ذكّرتني هذه القاعدة الطاغية الباغية خصومة بين أخوين شقيقين يرث أحدهما الآخر، فاشتد الخصام بينهما فتواثقا وتكاتبا على أنه لا يرث أحدهما الآخر، فأشعرتهما بحكم الله ورسوله وأن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا يحق لشخص أن يقطع صلة الإرث الذي شرعه الله، فهذا الاتفاق باطل، وكتابته باطلة، ومن مات منهما ورثه أخوه رغم أنفه.
وقد لعن رسول الله ﷺ المُحلِّل والمُحَلَّلَ له وسماه (التيس المستعار) مع كون هذا النكاح وقع بالتراضي، ومثله نكاح المحارم وذوات الأزواج.
والحق أن يقال: إن الرضا الذي لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالاً، أشبه (الشرط) فإن المسلمين على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً. ومثله الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً.
ثم إن كتب الفقه الإسلامي من شتى المذاهب لا تغادر صغيرة ولا كبيرة مما عسى أن يقع فيها النزاع بين الناس، وهي مقتبسة من القرآن والسنة ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡ﴾ [النساء: 83]. فبالغوا في استنباط الأحكام وتصنيفها على حسب اجتهادهم، المصيب له أجران والمخطئ له أجر.
أقلُّوا عليهم لا أبا لأبيكمُ
من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
أولئك قومٌ إن بَنَوا أحسنوا البُنا
وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
والنبي ﷺ لعن بائع الخمر ومشتريها وعاصرها ومعتصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه، وكل هؤلاء وقع بطريق التراضي بينهم فشملتهم اللعنة. ومثله حديث: لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه.[195] لوقوع الرضا بينهم في عمله فشملتهم اللعنة أيضًا.
ولما قسم سبحانه المواريث بين الورثة وأعطى كل ذي حق حقه ختمها بقوله: ﴿تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدۡخِلۡهُ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١٣ وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ يُدۡخِلۡهُ نَارًا خَٰلِدٗا فِيهَا وَلَهُۥ عَذَابٞ مُّهِينٞ ١٤﴾ [النساء: 13-14].
والحاصل أن قولهم: الرضا شريعة المتعاقدين. هي كلمة باطلة والحقيقة أنها صيغت لتكون مفتاحًا لكل شر، وهي معنى قولهم: «العقد شريعة المتعاقدين» فإنهم لا يعنون فيها العقد الصحيح الذي لا يخالف فيها أيّ مسلم، وإنما يعنون بها العقد على أي صفة وقع، فهي من شريعة قوانين الخارجين عن الدين الذين لا يرجون عند الله ثوابًا ولا يخافون عقابًا: ﴿أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠﴾ [المائدة: 50]. ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥﴾ [آل عمران: 85]. وقال: ﴿وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ ٤٩﴾ [المائدة: 49].
إن كثرة استمرار هذه الكلمة على أسماع الناس وأبصارهم ورَوجان كتب القوانين من بينهم، قد أثّرت فيهم شيئًا من التهاون في منكرات الجرائم ككبيرة الزنا، فقد كان في صدر الإسلام يُرجم الزاني المُحصَن متى ثبت الزنا عليه باعترافه أو بالبينة ولا تأخذهم فيه لومة لائم، ومن يُهنِ الله فما له من مكرم وقال: ﴿وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٢﴾ [النور: 2]. وخطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله بعث نبيه بالكتاب وكان فيما أنزل عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها فرجم رسول الله الزاني المحصن ورجمنا معه، وإني أخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله. فيضل بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم حق على من زنى إذا أحصن إذا كانت البينة أو الحَبَل أو الاعتراف. رواه البخاري.
وإن أكبر تأثير وقع بالناس من تهاونهم بهذه الجريمة هو كثرة الابتلاء بها وتعاقب القوانين على عدم العقاب عليها، لكون المنكرات متى كثر على القلب ورودها، وتكرر في العين شهودها؛ ذهبت عظمتها عن القلوب شيئًا فشيئًا، إلى أن يراها الناس فلا يرون أنها منكرات، ولا يمر بفكر أحدهم أنها معاصٍ، وذلك بسبب سلب القلوب نور التمييز والإنكار على حد ما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس.
فالحكم بالقوانين ونصب القضاة لتنفيذها وروجان كتبها بين الناس يعود بالضرر وفساد الأخلاق على خاصة الشباب وعامة العباد والبلاد كما قيل:
الدين يشكو بلية
من فرقة فلسفية
لا ترى الشرع إلا
سياسة مدنية
ويؤثرون عليه
مناهج جدلية
إن هؤلاء الشباب من أبناء المسلمين متى تخرج أحدهم من إحدى المدارس الأجنبية رجع إلى أهله وبلده وأخذ يبث جراثيم تلك التعاليم السيئة التي حملها من المدرسة، حتى يصير فتنة على أهله وأقاربه وسائر من يقاربه كما قال تعالى في حق الغلام: ﴿وَأَمَّا ٱلۡغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗا ٨٠ فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ رُحۡمٗا ٨١﴾ [الكهف: 80-81].
إن عقيدة الإلحاد هي جرثومة الفساد وخراب البلاد وفساد أخلاق العباد، ومتى سطا الإلحاد على قلب أحد هؤلاء الأولاد فإنه يطيش به عن مستواه إلى حالة الفجور والطغيان ومجاوزة الحد في الكفر والكبر والفسوق والعصيان، فيمقت الدين ويهزأ بالمصلين الراكعين الساجدين، حتى كأنه إنما تعلم العلم لمحاربة الدين وأهله من أجل أنه لم ينطبع في قلبه محبته ولم يذق حلاوة حكمته، وإنما كان حظه من العلم محض دراسته حبرًا على ورق، ثم زال عن قلبه بزواله عنه حتى لم يبق معه أثر منه.
ومتى جهر هؤلاء بإلحادهم في بلادهم وأمنوا من العقاب فيما يقولون فإنهم حينئذ يفيضون بفنون من الطعن في الدين بإلقاء الشبهات والتشكيكات التي تزيغ العوام وضعفة العقول والأفهام عن معتقدهم الصحيح وعن دينهم المستقيم، ثم تقودهم إلى الإلحاد والتعطيل والزيغ عن سواء السبيل فيصيرون فتنة في الأرض وفسادًا كبيرًا.
وحتى الذين لا يعتقدون اعتقادهم ولا يساهمون في آرائهم فإنهم لن يسلموا من مضار أفكارهم، وأقل شيء كون الضعف والوهن يلم بأركان عقائدهم، ثم يسري هذا الفساد وسوء الاعتقاد إلى أهلهم وأولادهم؛ لأن أكثر الناس مقلدة في دينهم، بحيث يقلد بعضهم بعضًا في الأخلاق والعقائد، وقد قال بعض السلف: إنه ما ترك أحد الحق وعدل عنه إلى الباطل إلا لكبر في نفسه، ثم قرأ: ﴿سَأَصۡرِفُ عَنۡ ءَايَٰتِيَ ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَإِن يَرَوۡاْ كُلَّ ءَايَةٖ لَّا يُؤۡمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلرُّشۡدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلۡغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ عَنۡهَا غَٰفِلِينَ ١٤٦﴾ [الأعراف: 146].
وقد قال بعض الحكماء في أخلاق الكتاب: قد قال أهل الفطن: إن محض العمى هو التقليد في الزندقة؛ لأنها إذا رسخت في قلب امرئ تقليدًا فإنها تطيل جرأته على الدين وأهله ويتغلق على أهل الجدل إفهامه. انتهى. وقد قيل:
عُمي العيون عموا عن كل فائدة
لأنهم كفروا بالله تقليدا
إن الله سبحانه في كتابه وعلى لسان نبيه قد نظم حياة الناس أحسن نظام بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان والإتقان: ﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗا﴾ [الأنعام: 115]. أي صدقًا في الأقوال وعدلاً في الأحكام، فلو أن الناس آمنوا بتعاليم دين الإسلام وانقادوا لحكمه وتنظيمه ووقفوا عند حدوده ومراسيمه لصاروا به سعداء، ولما حصل بينهم بغي ولا طغيان ولا اعتداء؛ لأنه يهدي للتي هي أقوم. وقد جعل الله شريعة الإسلام بمثابة الخاتمة للشرائع قبلها، فهي شريعة كافة البشر عربهم وعجمهم، يقول الله: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ٢٨﴾ [سبأ: 28]. وقال: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 158]. فشريعة الإسلام هي شريعة الرحمة والحنان والإحسان ليست بحرج ولا أغلال، يقول الله: ﴿... وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بَِٔايَٰتِنَا يُؤۡمِنُونَ١٥٦ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ١٥٧ قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 156-158].
وصار أكثر الناس في هذا الزمان بمثابة من يعطي صاحبه تمرة فيسخطها فيعطيه جمرة، وإن الناس باستبدالهم القوانين عن أحكام شريعة الدين هم بمثابة من يفرّ من الرمضاء إلى النار.
إن الله سبحانه لما قسم الميراث بين الناس في سورة النساء ختمها بقوله: ﴿وَإِن كَانُوٓاْ إِخۡوَةٗ رِّجَالٗا وَنِسَآءٗ فَلِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۗ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ أَن تَضِلُّواْۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ ١٧٦﴾ [النساء: 176]. أي: لئلا تضلوا، فالحكم بمساواة الأنثى للذكر فيما فرض الله في التفاضل بين الأولاد والبنات وبين الإخوة والأخوات هو كفر بما أنزل الله من الكتاب وضلال مبين: ﴿وَٱللَّهُ يَدۡعُوٓاْ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلَٰمِ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ٢٥﴾ [يونس: 25].
لقد مكث المسلمون ثلاثة عشر قرنًا وقضاتهم يحكمون بينهم بالشريعة الإسلامية التي جعلها الله لجميع خلقه شرعة ومنهاجًا، وإنما الشريعة من أجل أنها مقتبسة من كتاب الله وسنة رسوله فهي الشريعة التي جعلها الله لجميع خلقه في قوله سبحانه: ﴿۞شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ﴾ [الشورى: 13].
وفي بداية القرن العشرين ضعف العلم وعُدم الراسخون في الفقه وأخذ الناس يعللون القضاة بدعوى أنهم يعللون الأحكام، ولا يهتمون بأمر الناس، فتعلقت قلوبهم بالقوانين وهي لم تكن موجودة في البلدان الإسلامية قبل ذلك الوقت، فكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار من أجل أن القوانين تبيح لهم الربا والزنا وشرب الخمور ولا تعاقب على شيء من ذلك، فأثرت في النادر شيئًا من الذل والضعف في مجتمعهم، وإنما ضعف المسلمون في هذه الأزمان الأخيرة وساءت حالهم وانتقص الأعداء بعض بلدانهم كله من أجل أنه ضعف عملهم بالإسلام وساء اعتقادهم فيه، وصار فيهم منافقون يدعون إلى نبذه ويدعون إلى عدم التقيد بحدوده وحكمه، ويدعون إلى تحكيم القوانين بدله، ولأجله صاروا جديرين بزوال النعم والإلزام بالنقم لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وقد وقع بهم ما حذرهم نبيهم بقوله: «وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهما شديدًا». رواه ابن ماجه والبيهقي. والله أعلم.
* * *
[188] متفق عليه من حديث عائشة. [189] أخرجه ابن ماجه من حديث عائشة. [190] أخرجه الترمذي من حديث عمرو بن عوف. [191] أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة. [192] أخرجه الحاكم في المستدرك، والبيهقي في الكبرى من حديث أبي ثعلبة الخشني. [193] متفق عليه من حديث عائشة. [194] أخرجه ابن ماجه من حديث عائشة. [195] رواه البخاري عن أبي جحيفة.