رسالة الخليج في منع الاختلاط
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إلى الأمراء وإلى الوزراء وإلى العقلاء المفكرين من المسلمين:
سلام الله ورحمته عليهم أجمعين، وأسأل الله لي ولهم التوفيق للتمسك بالدين وطاعة رب العالمين، وأن يعيذنا وإياهم من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن همزات الشياطين.
أما بعد:
فإن الدين النصيحة لله ولدينه وعباده المؤمنين، وقد أوجب الله علينا بنص القرآن أن نتعاون على البر والتقوى، وأن نتناهى عن الإثم والعدوان، وإن دين الإسلام هو دين كامل وشرع شريف شامل، مبني على جلب المصالح ودرء المفاسد، فلا يحرم شيئًا من المحرمات، إلا لأنه ضار بفاعله وبالناس مباشرة، أو تسببًا، ومدار سياسة الإسلام على ستة أمور، أحدها: حفظ الدين، والثاني: حفظ الأنفس، والثالث: حفظ الأموال، والرابع: حفظ الأنساب، والخامس: حفظ العقول، والسادس: حفظ الأعراض: أي حفظ الفروج.
ومن أجل حفظ الأعراض، حرم الله الزنا وحرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وحرم إبداء زينة المرأة المسلمة لغير زوجها ومحارمها، ونهى عن الخلوة بها وعن سفرها بغير محرم، وعن النظر إليها بشهوة، كل هذه الأمور حرمها لكونها تفضي إلى الفاحشة الكبرى، والوسائل لها أحكام المقاصد، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فالشرع الحكيم حَمى حِمى الأعراض وسد الطرق التي تفضي إلى السفه والفساد والإخلال بنظام النكاح الحلال وقال: ﴿تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعۡتَدُوهَاۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٢٢٩﴾ [البقرة: 229]. وحدود الله محرماته.
إن الأمراء والعلماء والوزراء يجب أن يكونوا بمثابة المرابطين دون ثغر دينهم ووطنهم، يحمونه عن الإلحاد وتسرب دخول الفساد على العباد، لاعتبار أنهم متكاتفون متكافلون في جلب المصالح ودفع المضار، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله.
فمتى قصر هؤلاء بواجبهم وتكاسلوا عن حماية دينهم ووطنهم وتركوا الخمور تجلب إلى بلدهم والحوانيت تفتح لبيعها، وتركوا بلدهم معطنًا لمراتع الفسوق، فلم يأخذوا على أيدي سفهائهم في منعهم عما يضرهم، فإنه بذلك يتحقق خراب البلاد وفساد العباد، وخاصة النساء والأولاد، فتسود الفوضى وهتك الأعراض ويصابون بفتنة في الأرض وفساد كبير؛ لأن بقاء الأمم ببقاء أخلاقهم، فإذا ذهبت أخلاقهم ذهبوا. يقول الله تعالى: ﴿وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا ١٦﴾ [الإسراء: 16]. والمراد بالهلاك هنا هو هلاك الأخلاق؛ لأنه أضر من هلاك الأبدان، ﴿وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ﴾.
إن العقلاء لا ينبغي لهم أن يغتروا بكثرة الأصوات في طلب ما هو محض الضرر عليهم في أخلاقهم، فإن كثرة الأصوات ليست بحجة في إباحة المحرمات مع قيام الدليل والبرهان على البطلان، ولأن كثرة الأصوات تنشأ غالبًا عن الهوى والحب للشيء. والله تعالى يقول: ﴿وَإِن تُطِعۡ أَكۡثَرَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ هُمۡ إِلَّا يَخۡرُصُونَ ١١٦﴾ [الأنعام: 116]. وأكثر الناس في هذا الزمان يفضلون التحلل عن عقل الدين وأخلاقه وآدابه وحلاله وحرامه، ويحبون أن يعيشوا في الدنيا عيشة البهائم، ليس عليهم أمر ولا نهي ولا صلاة ولا صيام ولا حلال ولا حرام.
واعتبروا بالبلدان التي قوضت منها خيام الإسلام وترك أهلها فرائض الصلاة والصيام، واستباحوا الجهر بمنكرات الأخلاق والعصيان، وصرفوا جل عقولهم وجل أعمالهم وجل اهتمامهم للعمل في دنياهم، واتباع شهوات بطونهم وفروجهم، وتركوا فرائض ربهم، ونسوا أمر آخرتهم، فانظروا كيف حالهم وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال، حتى صاروا بمثابة البهائم، يتهارجون في الطرقات لا يعرفون صيامًا ولا صلاة، ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون من قبيح ولا يهتدون إلى حق؟ قد ضرب الله قلوب بعضهم ببعض فذهبت منهم الديانة وفشت من بينهم الخيانة، واستشرت الفوضى والفساد، فاعتبروا بسوء حالهم وفساد أعمالهم، فإن خير الناس من وعظ بغيره، وقد ضرب النبي ﷺ لكم مثلاً فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون، فقال: «مَثَل القائم في حدود الله - الذين ينكرون المنكرات ويسعون في إزالتها، ويأخذون بأيدي سفهائهم عن مواقعتها- ومَثَل الواقع في المنكرات، كمثل قوم ركبوا في سفينة فصار بعضهم في أعلاها -أي في السطح- وبعضهم في أسفلها -أي في الخن- فأراد الذين في أسفلها أن يخرقوا خرقًا يتناولون منه ماء البحر من عندهم»، قال: «فإن أخذوا على أيديهم ومنعوهم نجوا ونجوا جميعًا، وإن تركوهم وما يصنعون هلكوا وهلكوا جميعًا»[104].
وهذا مَثَلٌ مطابق للواقع، فإن إنكار المنكرات نجاة للمنكرين والفاعلين والناس أجمعين؛ لأن إنكارها هو مما يقلل فشوها وانتشارها، وإذا خفيت المعصية لم تضر إلا صاحبها. أما السكوت عن إنكار المنكرات، فإنه مدعاة إلى الغرق فيها، لكون السكوت عنها هو مما يسبب فشوها وانتشارها، والمحسن شريك للمسيء، إذا لم ينهه؛ ولهذا قال النبي ﷺ: «وَاللهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ السَّفِيهِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا -أَيْ: تَلْزَمُوْنَهُ بِهِ إِلْزَامًا- أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ عِنْدهِ»[105].
وإن هذا الاختلاط بين الشباب والشابات، واحتكاك بعضهم ببعض جنبًا إلى جنب، وجريان الحديث والمزاح من بينهم، ثم المصاحبة والخلوة كما تقتضيه المجالسة والمؤانسة، فإن هذا العمل ضار في ذاته ومؤد إلى الفاحشة الكبرى في غايته وسوء عاقبته؛ لأنه يعد من أقوى الأسباب والوسائل لإفساد البنات المصونات وتمكن الفسّاق من إغوائهن بنصب حبائل المكر والخداع لهن.
والفسّاق هم الذين يحرصون أشد الحرص على مثل هذا الاختلاط لينالوا أغراضهم ويشبعوا شهواتهم من التمتع بالنظر إلى البنات المصونات عنهم طول الحياة، والصيانة نعم العون على العفاف والحصانة، فإن من العصمة ألا تقدر، وما من نظرة إلا وللشيطان فيها مطمع.
إلى متى نغش أنفسنا أو نغش بناتنا وأهل ملتنا، ونتعامى عما يترتب على هذا الاختلاط من فساد الآداب ومساوئ الأخلاق، فالنظرة هي نظرة في مبدئها لكنها تكون خطرة في القلب، ثم تكون خطوة بالقدم، ثم تكون خطيئة، وكم نظرة أورثت صاحبها حسرة، وهي تحسب من مقدمات الزنا لما في البخاري، أن النبي ﷺ قال: «الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ»؛ ولهذا أمر الله المؤمنين، بأن يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم، وكما أمر المؤمنات بأن يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن. وكما أمر الله نساء نبيه ونساء المؤمنين بأن يدنين عليهن من جلابيبهن وأن لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى.
أيها الإخوان المسلمون:
إن تحويل النساء المسلمات عن الآداب الإسلامية والعادات العربية إلى اتباع تقليد النصارى في أخلاقهم وزيهم وعاداتهم إنه مبدأ لقطع الرابطة الإسلامية والأخلاق الدينية، وتقويض لدعائم الشرف والحياء والستر وفتح لباب السفاح والفساد.
فليس ضرره مقصورًا على عصيان النساء لأمر الله في إبداء زينتهن للأجانب في هذا المقام، وجرأتهن في اختلاطهن بالأغيار وما ينجم عنه من فنون الأضرار على الدين والشرف والعرض فحسب، بل إن ضرره يتعدى بطريق العدوى والتقليد الأعمى من طور إلى طور ومن بلد إلى بلد إذا لم يوجد من يعارضه، بمنعه من القائمين على الناس بالإصلاح والعدل؛ لأن الأخلاق تتعادل والطباع تتناقل كما هو المعروف من انتشار البدع والأخلاق السيئة، ولهذا مدح النبي ﷺ المتمسكين بدينهم عند فساد الناس، فقال: «طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا أَفْسَدَ النَّاسُ»، وفي رواية «يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ» وهم قوم صالحون قليل في قوم سوء كثير. والرجل الصالح يصلح الله به أهله وكثيرًا من أهل بلده، وإن أكثر ما يجني على الناس بالشر ويوقعهم في فعل المنكر، هو تقليد بعضهم لبعض، لكون الناس في تقليدهم للغير يسهل في نفوسهم فعل ما يسوء فعله ولا قدوة في الشر، فقد قيل: لا تستوحش طرق الإسلام من قلة السالكين، ولا تغتر بكثرة الهالكين التاركين لأخلاق الدين، فإن الله تعالى يقول: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣﴾ [يوسف: 103].
إن تحويل النساء المسلمات عن أخلاقهن الدينية إنه يقع بتأثير روح أخلاق أجنبية غايتها تحويل المسلمات عن دينهن وجميل أخلاقهن إلى اتباع الأوروبيات وتقليدهن في عاداتهن، ﴿وَلَن تَرۡضَىٰ عَنكَ ٱلۡيَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمۡۗ قُلۡ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلۡهُدَىٰ﴾ [البقرة:120]. فتقليد المسلمين لغير المسلمين في مثل هذا الاختلاط هو مدعاة إلى فتنة في الأرض وفساد كبير، ولن يخفى ضرره على من له مسكة من عقل أو دين، ولكن الهوى يعمي ويعم.
وحتى النصارى على كفرهم أصبحوا وهم يعانون الشقاء ويشْكُون منه الويلات على إثر الويلات، من جراء إفساده لأخلاق البنين والبنات وسائر البيوت والعائلات، فهم يتمنون الخروج منه وأن تكون حالتهم في صيانة عائلتهم كحالة المسلمين.
وإن العرب المسلمين في تقليدهم لغيرهم فيه شبه الطفل الصغير مع الرجل الأحمق الفاجر، يحسب الطفل أن كل ما يفعله هذا الأحمق أنه مفيد له، فإذا رآه يشرب الدخان شربه، أو رآه يشرب الخمر شربه، وهكذا الأمة الجاهلة بمصالحها والضعيفة في دينها ومداركها، تحسب أن كل ما يفعله النصارى أنه مفيد لها فتقلدها على غير بصيرة من أمرها، لاعتقادها أنه محض التمدن والتجدد، وجهلت أن رؤساء الأمم أصبحوا وهم قلقون من هذا الاختلاط وما ينجم عنه من فنون المضار وفساد الأخلاق إلى حالة أن بعض رؤسائهم امتنع عن الزواج، لما يشاهده من سوء الطباع وفساد الأوضاع، ويقول: كيف أتزوج امرأة يأخذ بيدها خدنها من الشباب إلى الصحراء والمغارات فتبقى عنده اليومين والثلاثة ولا أقدر على إنقاذها منه ولا صدّه عنها؟! وقال آخر: إني أغبط المسلمين على أشياء أهمها عندي صونهم لنسائهم.
إن كل ما قلنا فإنه يعد من البراهين التي لا مجال للجدل في صحتها لو كان للمسلمين رؤساء عقلاء يأخذون بأيدي سفهائهم عن إقرار مثل هذا فيأطرونهم على الحق أطرًا، أي يلزمونهم به إلزامًا، فيدبرون أمر بلدهم بحسن رأيهم ورعايتهم، ويتعاونون على جلب ما ينفعهم ودفع ما يضرهم ولكنهم وللأسف أصبحوا فوضى لا سراة لهم.
تُهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحوا
فإن تولوا فبالأشرار تنقادُ
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جُهّالهم سادوا
وقد قال الحكماء: صنفان من الناس إذا صلحا صلح سائر الناس، وإذا فسدا فسد سائر الناس: العلماء والأمراء.
يا معشر المسلمين العرب، إني نذير لكم من شر قد اقترب، إنكم على ملة إسلامية ليست يهودية ولا نصرانية، دينها المحافظة على الفرائض والفضائل واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل، وقد بعث نبيكم ليتمم لكم مكارم الأخلاق.
وإن هذا الاختلاط يعد من مساوئ الأخلاق، وليس من خلق أهل الإسلام في شيء، بل ولا من خلق العرب في جاهليتهم، فإن العرب على شركهم يتهالكون في حفظ أحسابهم وأنسابهم وصيانة نسائهم، فهم أباة العار وحماة الحرم، حتى إن الزنا يعد قليلاً عندهم كما قالت هند: أَوَتزني الحرة يا رسول الله؟ [106]، استبعادًا لوقوع الزنا من الحرائر، وإنما يعرف من أخلاق الإماء، ﴿ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ﴾ [النساء: 34]. فمتى زالت قوامة الرجل ورقابته على موليته وأمنت غيرته ساءت طباعها وفسدت أوضاعها ووقعت فيما يكره فعله.
إن مبدأ بدعة الاختلاط إنما نشأت من النصارى الأوروبيين، وكان في شريعتهم تحريم الزنا ودواعيه، لكنهم من أجل غلوهم في نسائهم اخترعوا بدعة الاختلاط بين الشباب والشابات، تمشيًا مع شهوة نسائهم ليزيلوا بها الحياء والحشمة والنفرة بين الجنسين، ثم استرسلوا معهن في توسيع النطاق في الانطلاق في مساوئ الأخلاق، فأعطوا المرأة كمال حريتها تتصرف في نفسها كيف شاءت ليس لزوجها ولا لأبيها عليها من سلطان، فلها أن تعاشر من شاءت من الأخدان وعلى إثر هذا جرى القانون في عرفهم بإباحة الزنا واللواط، وصار كالشيء العادي الذي لا تعاب به المرأة إلى حالة أنهم صاروا يمدحون المرأة المجربة، أي التي تأتي بولد أو ولدين من غير زوج، فهذه هي كمال الحرية التي ينوه بمدحها النصارى، وهي تفرق شمل أهل البيت وتلطخهم بالتهمة لمخالفتها لشرف الصيانة الإسلامية الجامعة بين الكمال والجمال.
وبحسب العاقل أن يعرف مبدأ الاختلاط وغايته وسوء عاقبته، وأن الدعاة إليه يريدون أن تكون نساؤهم وبناتهم وأهل بلدهم كحالة المرأة الغربية، فإن لم يريدوا ذلك، فإن التقليد والاتباع يصيرهن إليه اضطرارًا لا اختيارًا، والدفع للمنكرات قبل وقوعها أيسر من رفعها بعد وقوعها، وحسبك من شر سماعه فما بالك برؤيته.
أما دخول هذا الاختلاط على بعض بلدان العرب المسلمين، فإن سببه معروف وأصله ضعف الدين، فإنه لما كثر اختلاط العرب المسلمين بالنصارى الأوروبيين وكثر احتكاكهم بهم وتعلموا في مدارسهم وشاهدوا ما شاهدوه من اختلاط نسائهم برجالهم، تأثروا بكثرة المشاهدة حتى زال بها الإحساس عنهم؛ لأن رؤية المنكرات تقوم مقام ارتكابها في سلب القلوب نور التمييز والإنكار؛ لأن المنكرات متى كثر على القلوب ورودها، وتكرر في العين شهودها ذهبت وحشتها من القلوب شيئًا فشيئًا، إلى أن يراها الناس فلا يرون أنها منكرات، ولا يمر بفكر أحدهم أنها معاصٍ، وذلك سبب سلب القلوب نور التمييز والإنكار على حد ما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس.
ولهذا السبب أخذوا يقتبسون من أخلاق النصارى تدريجيًّا لضعف الوازع الديني في نفوسهم؛ لهذه الأسباب أخذت بعض البلدان العربية تنادي بعملية الاختلاط في الجامعات إتباعًا لكثرة الأصوات، وترتب على أثره من التوسع في المفاسد والمنكرات وهتك الأعراض وحدوث الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق ما لا يخفى على أحد، وكان النبي ﷺ يستعيذ بالله من منكرات الأخلاق والأقوال والأعمال، ونقل عن صاحب المنار قوله: إن القائمين على عملية المطالبة بالاختلاط في مصر هم المنحلون عن دين الإسلام وآدابه وأخلاقه، والذين يودون لو مرق جميع المسلمين منه، ويحبون أن يعيشوا في الدنيا عيشة البهائم، ليس عليهم أمر ولا نهي ولا صلاة ولا صيام ولا حلال ولا حرام.
وساعد على هذا كثرة ما يشاهدونه من عرض الأفلام الخليعة والصور الشنيعة والفواحش الفظيعة التي تعبث بالعقول وتوقع في الفضول والتي هي بمثابة الدروس تطبع في نفوس النساء والشباب محبة العشق والميل إلى الفجور، بحيث تجعل القلب الخليّ شجيًّا تساوره الهموم والغموم، ويبتلى بطول التفكير الذي من لوازمه السهر وحرمان لذة النوم الذي جعله الله راحة ورحمة للناس ومن أسباب الصحة لأجسامهم.
فهي بمثابة شَرَك الكيد وحبائل الصيد للقلوب الضعيفة من الشباب والنساء اللاتي وصفهن رسول الله ﷺ في تكسرهن وسرعة ميولهن بالقوارير؛ لأن رؤية ما فيها من الصور المتحركة المضطربة، وسماع ما فيها من أصوات الغناء والألحان المطربة هو مما يعلم بالحس والمشاهدة أنه يغري النفوس ويهيجها على الاندفاع إلى ما يشاهدونه فيها من تعاشق وتعانق ومجاراة ومباراة، حتى يضعف الإيمان وحتى يصير محبًّا للفسوق والعصيان، فيغرق في حضيض الذل والهوان، فهي من الأعمال الضارة التي تفسد عليهم عقائدهم وعفافهم وآدابهم وتقطع روابط الزوجية فيما بينهم وتدنيهم من الإباحة المطلقة.
ولم يزل حكماء الإسلام ورؤساء الأنام يشْكُون منها الويلات على إثر الويلات، من جراء ما أفسدت عليهم من أخلاق البنين والبنات وسائر بيوت العائلات، تفسد منهم الأديان وتدعو إلى الافتتان، وإنها والله لم توجد في بيتي ولم أشاهدها بعيني وإنما بلغني من ضررها ما يبلغ العذراء في خدرها، فمتى كان القائم ببث أفلامها ممن لا حظ لهم في الأخلاق والدين، ويحبون أن تشيع الفواحش بين المسلمين فإنها حينئذ يترتب عليها فتنة في الأرض وفساد كبير، والحاصل أنها من منكرات الأخلاق ومن مضلات الفتن التي كان النبي ﷺ يستعيذ منها، ومع الابتلاء بها، فإنني أنصح المراقبين عليها في عرض ما يجمل وينفع من الأخلاق الفاضلة والأعمال العالية، وأن يتجنبوا عرض منكرات الأخلاق الساقطة والأعمال السافلة، كما يوجبه الدين والشرف والأمانة، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، وإذا لم تستحي فاصنع ما شئت.
والحاصل أنه يجب على الحكومة نصب رقابة عدلية لها حظ من الأخلاق الدينية، تمنع نشر الفواحش الموحشة، وتمنع نشر ما يقبح منظره ويسوء خيره صيانة لكرامة الناس واتقاء فتنتهم واستبقاء حسن سمعتهم.
ومثله إطلاق السراح لكتاب الجرائد والمجلات الماجنة الخليعة، الذين يقودون الأمة إلى مهاوي الجهالة، ويبثون بينهم عوامل الفساد والسفاهة، فهم كما قال تعالى: ﴿لَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالٗا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمۡ قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُ﴾ [آل عمران: 118]. فهم في لحن قولهم يحبون انتشار الفوضى اللادينية والأخلاق البهيمية، لكون أحدهم يفضل الإباحة المطلقة على كل ما يقيد الشهوة من عقل وأدب ودين. فجناية التحرير الذي يتطلع إليها الصغير والكبير يترتب عليها فتنة في الأرض وفساد كبير، لكون العامة بما طبعوا عليه من السذاجة وعدم الرسوخ في العلم والمعرفة قد يغترون بما يقول هؤلاء ويحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم؛ لأن من أوتي قدرة على صف الكلام قدر أن يغش به العوام وضعفة القول والأفهام، والمنافقون في هذا الزمان هم شر من المنافقين الذين نزل فيهم القرآن، ﴿يَبۡغُونَكُمُ ٱلۡفِتۡنَةَ وَفِيكُمۡ سَمَّٰعُونَ لَهُمۡ﴾ [التوبة: 47]. فهم يحبون أن تشيع الفواحش في بلدهم، وقد وصفهم النبي ﷺ بأنهم الدعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها.
ثم إنه في هذا الزمان انتشرت العقيدة الشيوعية اللادينية، حيث تسمم بها قلوب كثير من الشباب في هذا الزمان، وجعلوها طريقة لهم وعقيدة، ومن عقائدها: وجوب الاشتراك بين الناس في الأبضاع والأموال، ويجعلون النساء بمثابة السوائب اللاتي لا يحق لشخص أن يختص بواحدة منهن دون الثاني لا زوج ولا غيره، ويتمنون تنفيذ هذا الاعتقاد ليتوصلوا به إلى نيل أغراضهم وإشباع شهواتهم، لولا معارضة المصلحين القائمين في الناس بالإصلاح والعدل لمنع هذه الفكرة التي لا تبقي شيئًا من الدين ولا من الأخلاق ولا من الأموال، ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ﴾ [البقرة: 251].
والحاصل أن هذا الاختلاط الذي ننصح بمنعه وعدم إقراره أنه يفضي بأهله إلى شر غاية وأسوأ حالة، فلا ينبغي أن نغتر بمن ساء فهمه وزل قدمه في الغرق في إثمه، فإنه لا قدوة في الشر، فإن غشيان النساء لهذه الجامعات من أقوى الوسائل لتعرّف الفساق بهن وإغوائهن، والفساق هم الذين يحرصون على هذا الاجتماع بالنساء، فلا ينبغي أن نغش أنفسنا ونتعامى عما يترتب عليه من فساد الأخلاق والآداب.
تدخل البنت العذراء المصونة المحصنة هذا المجتمع المختلط وهي في غاية من النزاهة والعفّة، فتقعد مقعد المرأة البرزة، بحيث تكون في متناول كل ساقط وفاسق، فيوجه السفهاء والفسقة إليها أنظارهم وأفكارهم، ويسترسلون معها في حديث الهزل والغزل، ويعملون لها وسائل الإغراء والإغواء، لا سيما إذا كانت ذا حسب وجمال، فلا تلبث قليلا حتى تلقي عن نفسها جلباب الحياء والحشمة وتزول عنها العفّة وتنحل منها رابطة العصمة، ثم تميل إلى الفاحشة المحرمة؛ لأنها ناقصة عقل ودين، ومشبهة عقولهن بالقوارير، والشباب قطعة من الجنون، ومن العصمة أن لا تقدر والمعصوم من عصمه الله، ومتى كثر الإمساس قل الإحساس.
والمسؤولون عن هذا أمام الله والناس هم الأمراء والزعماء، الذين يجب عليهم منع طريقة اختلاط الجنسين اتقاء الفتنة. وقد قرر العلماء بأن المجموع الذي يتضمن المحظور يكون محظورًا، وأن الوسائل لها أحكام المقاصد وأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام فلأجله يجب النهي والانتهاء عن مثل هذا؛ لأنه يجر إلى فنون من المضار المتنوعة متى اعتادها النساء أصبحن لا يرين بها بأسًا.
إن أكبر أمر تخسره المسلمة الخفرة في هذا الاختلاط هو خسرانها للحياء الذي هو بمثابة السياج لصيانتها وعصمتها، فالحياء يحسبه بعض الناس هينًا وهو عند الله عظيم، وفي البخاري، أن النبي ﷺ قال: «الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ». وقال: «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ». لأن الحياء ينحصر في فعل ما يجملها ويزينها، واجتناب ما يدنسها ويشينها، والحياء مقرون به البهاء والجلال والجمال، كما أن عدم الحياء من لوازمه ذهاب البهاء والجمال والجلال، ترى المرأة الملقية لجلباب الحياء في صورة قبيحة وقحة مترجلة لا تدري أهي رجل أو امرأة.
وإذا أردت أن تعرف خسارة فقد الحياء فانظر إلى بعض البلدان التي هجر نساؤها الحياء وتجافين عن التخلق به واعتقدن أن الإنسان حيوان، ترى فيهم العجب من فساد الأخلاق والآداب ونكوص الطباع وفساد الأوضاع، والإخلاد إلى سفاسف الشرور والفجور، فلا تبالي بما فعلت أو فعل بها، شبه الحيوان، فلا تستحيي من الله ولا من خلقه، ولا ترغب في أن يبقى لها شرف أو ذكر جميل تذكر به، وهذا معنى قول النبي ﷺ: «إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ»[107].
وإن قلنا: إن النساء في حاجة إلى العلم والأدب والإصلاح وتعلم سائر العلوم والفنون كالرجال، فهدا صحيح والعلم النافع مطلوب ومرغوب فيه في حق الرجال والنساء، لكن من العلم ما يكون جهلاً، وقد استعاذ النبي ﷺ من علم لا ينفع، ولا يستعيذ الرسول ﷺ إلا من الشر، وهذا العلم النافع يمكن تحصيلها له وحدها وفي بلدها، بمراجعة الكتب والفنون وسائر المؤلفات وبسؤال العلماء عن المشكلات، لأن هذا هو طريق حصول العلم للرجال والنساء، فالراسخون في العلم والمتوسعون فيه إنما يتوصلون إلى ما تحصلوا عليه بهذه الطريقة، فلماذا تترك المرأة هذا؟ ثم تحرص ويحرص أهلها على السفر الذي حرمه الشارع، بقوله: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ يَوْمًا وَلَيْلَةً إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» رواه البخاري ومسلم، خصوصًا السفر البعيد الذي تتعرّض فيه إلى الأخطار والأضرار، ثم إلى الافتتان بها، الناشئ عن الخلوة بها واختلاطهن بالرجال في الملاهي والمجتمعات وسائر الأحوال والأوقات، تقليدًا بما يسمونه تحرير المرأة عن رق أهلها وزوجها.
فبالله قل لي: ماذا ينفع العائلة المسلمة من سفر ابنتهم إلى مدرسة نصرانية، تتربى بأخلاقهم ومساوئ آدابهم؟! وإن أكبر ما تستفيده هي اللغة الأجنبية التي لا يمكن أن تخاطب بها أمها ولا أباها ولا أخواتها، أو تتعلم ألحان الغناء والرقص، وإذا رجعت إلى أهلها رجعت إليهم بغير الأخلاق والآداب التي يعرفونها منها فترى أهلها كأنهم عالم غير العالم الذي نشأت فيه، وتحمل في نفسها الكبر والازدراء والاحتقار لأهلها، فتعيب عليهم في كل ما يزاولونه من معيشتهم وأخلاقهم وآدابهم وعوائدهم، فتثور العداوة والبغضاء والتنافر بينها وبينهم في كل شيء، وغايتها أنها تبغض أهلها وأقاربها وتبغض كل ما أحبوا وألفوا، ويبغضونها، أفلا يكون سفرها للتعلم على هذه الحالة شقاء وضلالة وقطعًا لأواصر العائلة وبذر شقاق ونفاق بين أفراد عائلتها؟! وما تستفيده من الدريهمات في مرتباتها، فإنها ستكون أبعد وأبعد عن أهلها، أولم يكن الأوفق والأليق لهذه البنت ولأهلها أن تتعلم مبادئ العلوم الشريفة عند أهلها وفي مدارس بلدها وأهل ملتها لتستعين بالبيئة والمجتمع على تحسين تربيتها لتكون في بيت زوجها وأهلها صالحة مصلحة، تعاملهم بالحفاء والوفاء، بدون نفرة ولا جفاء، فتكون مثالاً صالحًا لأخواتها وأقاربها، قادرة على إدارة شؤون بيتها وكاليد الكريمة لزوجها والصدر الرحيب لجيرانها وأقاربها، فتعيش سيدة بيت وسيدة عشيرة ولا يوفق لهذا إلا خيار النساء عقلاً وأدبًا ودينًا، لأن الإصلاح الصحيح هو إصلاح النشء بتربية الأخلاق والآداب الدينية.
نهى القرآن نهيًا صريحًا عن إبداء النساء زينتهن لغير أزواجهن ومحارمهن، ومن المعلوم أن المرأة في حالة هذا الاختلاط ستظهر محاسنها ومفاتن جسمها، فتبدي يديها إلى قريب العضد وبها أسورة الذهب وساعة الذهب، وتبدي رجليها إلى نصف الساق وتكشف عن رأسها ورقبتها وقلائدها وحلق الأذنين، ولن تذهب إلى هذا المجتمع إلا بعد تكلفها بتجميل نفسها من الأصباغ والأدهان العطرية لعلمها أن الشباب سينظرون إليها، فهل يشتبه على عاقل بعد هذا تحريم إبداء هذه الزينة مع الرجال الأجانب؟ إذ لا محل للتردد في تحريم هذا العمل، وتحريم التعاون عليه، وتحريم المساعدة لأهله، بل وفي تحريم إقرارهم عليه والسكوت عن الإنكار عليهم، ولا حاجة إلى تطويل الكلام في مفاسده الكثيرة وما يئول إليه، فإنها بديهة بطريق العقل والاختبار، والمفتونون بالتقليد يعلمون من مضاره المتولدة عنه أكثر مما ذكرنا، لكنهم يستحبون العمى على الهدى، ﴿... وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلرُّشۡدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلۡغَيِّ يَتَّخِذُوهُ﴾ [الأعراف: 146]. فهم يفضلون ترك هذه الآداب الإسلامية والأخلاق العربية ويهزؤون بمن يفعلها وبمن يخالف رأيهم في تركها من كل ما يسمونه تمدنًا وتجديدًا.
عمي القلوب عروا عن كل فائدة
لأنهم كفروا بالله تقليدا
إن الغيرة على المحارم تعد من شيم ذي الفضائل والمكارم، فالغيور مهاب ومن لا غيرة فيه مهان، والغيرة الواقعة في محلها هي بمثابة السلاح لوقاية حياة الشخص وحماية أهله؛ لأن الغيرة الممدوحة هي كراهة القبائح وبغضها والنفرة منها ومن أهلها، وكلما اشتد حفظ الإنسان لصيانة نفسه وأهله قويت غيرته واشتدت شكيمته، بحيث لا تخلو بواديه الأراجيل.
وكلما كثرت ملابسته للقبائح وخاصة الزنا وتوابعه، فإنها تنطفئ من قلبه حرارة الغيرة، فلا يستنكر معها فعل القبيح لا من نفسه ولا من أهله، بل ربما يلطف فعل الفاحشة ويزينها لغيره، كما يفعل الديوث الذي يقر السوء في أهله ولهذا صارت الجنة عليه حرامًا، كما ثبت بذلك الحديث، أن النبي ﷺ قال: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ دَيُّوثٌ»[108]، والديوث هو الذي يقر أهله على عمل السوء؛ لأن من يهن في نفسه وأخلاقه، فإنه يسهل عليه الهوان.
فالفاسدة أخلاقهم وبيوتهم يحبون أن تفسد أخلاق الناس وبيوتهم لينطفئ بذلك عارهم ويختفي ذلهم وصغارهم، فمثل هؤلاء يحبون أن تشيع الفواحش في بلدهم، والغيرة من الدين ومن لا غيرة له لا دين له؛ لأن من لوازم عدم الغيرة الرضا بانتهاك حدود الله ومحرماته، ولمّا قال رجل للنبي ﷺ: يا رسول الله، أرأيت لو وجد أحدنا على امرأته رجلاً، ماذا يصنع؟ إن قتله قتلتموه، وإن تركه ذهب، فقال سعد بن عبادة: أمّا أنا لو وجدته لضربته بالسيف غير مصفح، فقال رسول الله ﷺ: «أَمَا تَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، وَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي»[109]، فمدح سعدًا على غيرته الواقعة في محلها.
إن الرجل العاقل والمفكر الحازم، يجب عليه أن يراقب العواقب، وأن يقابل بين المصالح والمفاسد، فإن لهذه القضية ما بعدها، إذ المنكرات يقود بعضها إلى بعض وتكون الآخرة شرًّا من الأولى، فعند نجاح القائلين بإباحة الاختلاط في مثل هذه القضية، فإنه يقودهم إلى المطالبة بإباحة الرقص، ثم المطالبة بإعطاء المرأة كمال حريتها تتصرّف كيف شاءت ليس لزوجها ولا لأبيها عليها من سلطان، كفعل المرأة الأوروبية، وكأن هذا هو هدفهم الأكبر وبعمله يعملون.
إن عذر دعاة الاختلاط هو الحرص على حصول العلم والتعلم من كل الرجال والنساء، مع اختصار مصرف النفقة في سبيله، وهذا سهل ميسر وليس بعذر يبيح أكل الميتة للمضطر، ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا ٤﴾ [الطلاق: 4]. فالحكومة القائمة بالمصارف على كافة شؤون المعارف ومنها الجامعات، فإنها لن تعجز عن النفقة في حالة انفصال كل جنس عن الآخر.
وأما القول بدعوى الحرص منهم على حصول العلم كما يزعمون، فإن الاختلاط يعد من أسباب موانع العلم، وتعويق حصوله، إذ هو ضار بالمتعلمين والمتعلمات، لكونه يغري الشباب والشابات بالفتنة ويولعهم باللذة ويصرفهم عن فهم العلم وتعلمه؛ لأن من طبيعة النفوس أنها متى أخذت بمبادئ الأمور المستلذة من النظرة والمحادثة، فإنها تسترسل بأفكارها ويشتد شغفها بها وتتدرج بشتى الوسائل ونصب الحبائل إلى أن تصل إلى غايتها منها وتكون قبل وصول الغاية في هَمٍّ وبلبال وشغل فكر وبال، تهيم به داعية الشهوة بدافع من التأثر العصبي الناشئ عن المشاهدة والمحادثة، حتى يضيع الكثير من وقته ودروسه في شغل قلبه بالتفكير وحتى يضيع السعي في كسبه ومعيشة أهله، وقد يذهب ماله وعقاره في سبيل متابعته لشهوته مع ما يصاب به من توقع الأنكاد والأكدار الناشئ عن عداوة الأغيار.
وقد لا يكتفي بشغفه بواحدة فقط، بل يتنقل في مراتع الفسوق من واحدة إلى أخرى حتى ينصرف كل الانصراف عن زوجته الشرعية التي كان يحبها قبل معاشرته لغيرها، فيكتفي بالمسافحة واتخاذ الأخدان عن زوجته الحلال مع فساده لغيرها، وفي هذا من المضار ما لا يخفى على أحد. وإن فاعله يحرم من السعادة الزوجية التي ملاكها قناعة كل واحد منهما بصاحبه، وكذلك المرأة إذا اعتادت ذلك فإنها تنبو بنظرها عن زوجها، وتلتحق بالشاردات عن أهلهن، وفي هذا من الشقاء والجناية على النفس والنسل والأهل وخراب البيوت وحرمان السعادة ما لا يخفى على عاقل ولكن الهوى يعمي ويصم. وقد روي في الحديث «لعن الذَّوَّاقِيْنَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالذَّوَّاقَاتِ مِنَ النِّسَاءِ»[110].
أيها العقلاء، اعتبروا وفكروا واعلموا أن المسلمين ما نكبوا في مجتمعهم وأخلاقهم إلا بعدما نكبوا في نظام عائلتهم وفساد تربيتهم لنسائهم وأبنائهم التربية الدينية الصحيحة المبنية على التحلي بالفضائل والتخلي عن منكرات الأخلاق والرذائل.
وبسبب إهمالهم لحسن تربيتهم وفساد تعليمهم ساءت طباعهم وفسدت أوضاعهم، وأخذوا يتناسون التعاليم الإسلامية والأخلاق العربية؛ لأنه إذا ساء التعليم ساء العمل، وإذا ساء العمل ساءت النتيجة، ﴿وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيًۡٔاۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ ٤١﴾ [المائدة:41].
فهذه محض نصيحتي لكم، قصدت بها نفعكم ودفع ما يضركم، وإني أرجو أن تقع منكم بموقع القبول والتنفيذ والإصلاح والتعديل وإلا فستذكرون ما أقول لكم والله خليفتي عليكم، وأستودع الله دينكم وأمانتكم، وأستغفر الله لي ولكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* * *
[104] أصل الحديث أخرجه البخاري من حديث النعمان بن بشير. [105] أخرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث حذيفة بن اليمان. [106] أخرجه أبو يعلى من حديث عائشة. [107] أخرجه البخاري من حديث أبي مسعود. [108] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه. [109] أخرجه البخاري من حديث سعد بن عبادة. [110] أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبو موسى الأشعري بلفظ: «إِنَّ اللَّه لَا يُحِبُّ الذَّوَّاقِينَ وَلَا الذَّوَّاقَاتِ».