متقدم

فهرس الكتاب

 

فصل [فصل في الرد على صاحب الكتاب]

قال الكاتب: (إن الذين يحاولون تغيير واقع الحال وتبديل الحق بعد مشاهدته بالعيان يخطئون ولا يعلمون أنهم يخطئون. بيد أنه هنا يصعب جدًّا إنكار هذا الظاهر، فما معنى هجر الأوطان والأولاد وطلب المشركين والكفار في ديارهم النائية إن لم يكن معنى الجهاد بأوسع معانيه؟).

إن الذهاب لنشر هذا الدين والخروج من أجل ذلك لا يحصر الجهاد بالدفاع فقط. وإن طبيعة الجهاد في الإسلام هي المبادأة بالقتال، إذ ما معنى الدفاع هنا واللغة العربية قد حددت له مفهومًا لا يتعداه من حيث العموم؟ انتهى.

وأقول: إن الكاتب لما فسد تصوره للجهاد بالدفاع حيث وصفه بنطاح البهائم قائلاً: إننا إذا قلنا بالدفاع في الجهاد فما الفارق بين الإنسان وبين سائر الحيوان الذي همه أن يدافع عن نفسه لا غير. انتهى كلامه.

فمتى كان هذا اعتقاد الكاتب في صفة الجهاد بالدفاع فلا غرابة في القول منه بإنكاره، ثم التحامل بالملام وتوجيه المذام على من قال بصحته؛ لأنه متى ساء الفهم فسد التعبير وساءت النتيجة، فتراه يقول (ص116): إن جهاد الصحابة ومن بعدهم في القرون المفضلة يدل دلالة واضحة على أن قتالهم كان لإعلاء كلمة الله في الأرض والسماء، ولا يمكن ذلك ولا يعقل أبدًا إلا إذا كان جهادهم لطلب العدو ومن أجل إسلامه ودخوله دين الإسلام. انتهى كلامه.

ونقول: إنه لم يثبت عن النبي ﷺ أنه أكره أحدًا على الإسلام لا ممتنعًا ولا مقدورًا عليه، ولا فائدة في إسلام مثل هذا المكره، وقد فتح مكة ولم يكره أحدًا منهم على الإسلام بعد قدرته عليهم، بل قال: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»[69]. حتى دخلوا في الإسلام من تلقاء أنفسهم طائعين مختارين.

وقد غزا بعض قريش معه هوازن وهم على شركهم، منهم صفوان بن أمية وشيبة بن عثمان الحجبي وغيرهما.

وقد جعل الصحابة هذا الفتح بمثابة الدستور الذي يسيرون عليه في أدب فتوحهم للبلدان. ومن المعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم خرجوا من بلادهم وفارقوا أهلهم وأولادهم لنشر هذا الدين وإعلاء كلمة الله في الأرض والسماء وليس جهادهم مقصورًا على القتال بالطلب حسبما يدعيه الكاتب؛ إذ الجهاد مأخوذ من بذل الجهد والطاقة في إعلاء كلمة الله ونصر دينه، والتبشير به والدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، وجدال المخالفين بالتي هي أحسن، وقد شرط العلماء في الجهاد بالقتال تقدم الدعوة عليه، إذ الجهاد بالقتال هو من الضرورات التي شرعت لجلب المصالح ودفع المضار، فهو آخر ما يستعمل من وسائل الجهاد على حد ما قيل: آخر الطب الكي.

وقد قلنا فيما سبق: إن الله سبحانه أمر بإبلاغ هذا الدين ونشره والتبشير به جميع خلقه، قال سبحانه: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَ [الأنعام: 19]، فمتى أقبل دعاة الإسلام والمسلمين إلى بلد ليدعوا أهله إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلوهم بالتي هي أحسن، فإن فتح لهم الباب وسهل لهم الجناب وأذن لهم بالدخول ونشر الدعوة والاتصال بمن يرغبون هدايته، فهذا غاية ما يبتغون، وبذلك فليفرح المؤمنون، فلا قتل ولا قتال، وكل الناس آمنون على أنفسهم وأهلهم وأموالهم. وقد فتح الصحابة كثيرًا من البلدان بهذه الصفة أكثر مما فتحوا بالسيف والسنان.

أما إذا نصبت لهم المدافع ووجهت نحوهم أفواه البنادق، وسلت في وجوههم السيوف، ومنع الدعاة منعًا باتًّا من حرية نشر الدعوة، ومن الاتصال بالناس في إبلاغها، ودعوة الناس إلى دين الله الذي فيه سعادة البشر كلهم في دنياهم وآخرتهم، فمتى منعوا ذلك، فإنهم يعتبرون معتدين على الدين وعلى الخلق أجمعين بمنعهم الخلق عن سماع الحق واتباعه، وبذلك يعتبر المسلمون مكلفين من الله باقتحام كل شدة ومشقة، وخوض كل خطر وضرر في سبيل الله وفي سبيل إبلاغ دين الله حتى يزول المنع والاضطهاد والفتنة عن الدين، يقول الله سبحانه: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِۖ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَلَا عُدۡوَٰنَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ ١٩٣ [البقرة: 193]، نظيره قوله: ﴿... فَإِن قَٰتَلُوكُمۡ فَٱقۡتُلُوهُمۡۗ كَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ ١٩١ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١٩٢ [البقرة: 191-192]، فتضمنت هاتان الآيتان من سورة البقرة الغاية من انتهاء القتال وهو أننا نقاتلهم حتى يكفوا عن فتنتنا في ديننا، كما كانت قريش تفتن كل من آمن، وحتى يكفوا عن قتالنا فنكف عن قتالهم و «حتى» لانتهاء الغاية بحيث يكون ما بعدها نقيضًا لما قبلها، ولم يقل سبحانه: وقاتلوهم حتى يسلموا. لكون الإسلام هداية اختيارية لا إكراه فيها بنص القرآن في قوله سبحانه: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِ [البقرة: 256]، وقوله: ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ ٩٩ [يونس: 99].

فكل ما يسمعه الناس ويثبته التاريخ من وقوع القتال بين الصحابة زمن الخلفاء الراشدين وبين الكفار في فتوح البلدان كمصر والشام والعراق وبلدان فارس وغيرها، فهذا القتال إنما يقع خارج البلدان حين يخرج أهلها إلى الصحابة بقواتهم وسلاحهم لصدهم عن دخول البلد ومنع نشر الإسلام بها، وبذلك تنعقد أسباب القتال ويعتبر هذا القتال جهادًا بالدفاع؛ لدفع شرهم وعدوانهم، ومتى نصر الله المسلمين عليهم ودخلوا البلاد فإنهم يضعون السلاح ويمنعون القتل ويأخذون في نشر الدين بالحكمة والموعظة الحسنة، وبذلك يعتبر المسلمون دين الله هو الظاهر فلا يعاقبون أحدًا على عقيدته بل يعظونه بالحكمة والموعظة الحسنة، يقول الله تعالى: ﴿فَإِنۡ أَعۡرَضُواْ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظًاۖ إِنۡ عَلَيۡكَ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ [الشورى: 48]، وقد أمر الله نبيه بأن يقول: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُمُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيۡهَا [يونس: 108].

والمقصود أن العرب المسلمين من الصحابة والتابعين خرجوا من جزيرتهم وفارقوا أهلهم وأولادهم في سبيل نشر دين ربهم وإعلاء كلمته، فالقرآن بأيديهم يتلونه ويدعون إلى العمل به. ففتحوا الكثير من البلدان بالقرآن أكثر مما فتحوا بالسيف والسنان، فهو السبب الأعظم الذي به نهضوا وفتحوا وسادوا وبلغوا المبالغ كلها من المجد والرقي، وتحولوا بهدايته من الفرقة والاختلاف إلى الوحدة والائتلاف، ومن الجفاء والقسوة إلى اللين والرحمة، ومن البداوة والهمجية إلى العلم والحضارة والمدنية، واستبدلوا بأرواحهم الجافية الجاهلية أرواحًا جديدة دينية صيّرتهم إلى ما صاروا إليه من عزة ومنعة وعرفان.

وقد أنجزهم الله ما وعدهم به في القرآن بقوله: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔٗا [النور: 55]، وصدق الله وعده فكانوا هم ملوك الأمصار.

فهدى الله بهم وبدينهم ودعوتهم أعظم شعوب الأمم من النصارى والعجم فأسلموا وحسن إسلامهم، ونظموا في بلدانهم دولة عربية مسلمة كانت سعادة البشر كلها، وكانت زينة الحياة في العلوم والفنون والحضارة والعمران. وإنما كانوا يفضلون غيرهم بصلاح أرواحهم التي يتبعها صلاح أعمالهم؛ وذلك أن المسلم العربي يتولى حكم ولاية أو بلد وهو لا علم عنده بشيء من قوانين الحكومة ولم يمارس أساليب السياسة ولا طرق الإدارة، فيصلح الله به تلك الولاية، فيزيل فسادها ويحفظ أنفسها وأموالها وأعراضها، ولا يستأثر بشيء من أموالها ومظالمها، وإنما يخرج من عمله بثوبه الذي دخل به، فيسعد الله به رعيته، لكون النفس متى صلحت أصلحت كل شيء، وإذا فسدت أفسدت كل شيء.

وإن أكبر عامل ساعد الصحابة والتابعين على فتح البلدان وتوسع الناس في الدخول في الإسلام في كل مكان، هو تأثر الأمم بسماع القرآن خصوصًا بعدما تعلموا اللغة العربية التي بها بلاغة القرآن، إذ كانوا يتلونه ويسمعونه في صلاتهم المفروضة، وتجدهم ينقلونه من بلد إلى بلد، فسرعان ما دخلت محبة دين الإسلام في قلوب الخاص والعام، فأيقظ الأنفس من غفلتها وجهالتها، وطهرها من خرافات الوثنية المستعبدة لها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، إن الله لذو فضل على العالمين.

* * *

[69] سيرة ابن هشام 2/412.