متقدم
 

الجهاد في سبيل الله وفضل النفقة فيه[23]

الحمد لله، ونستعين بالله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونصلي ونسلم على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.

أما بعد: فإن من حكمة الحاكمين أن أوجب الله على عباده المؤمنين جهاد الكفار والمنافقين ليمتحن بذلك صحة إيمان المدعين، وليعلم الكل علم اليقين أن الدنيا ابتلاء وامتحان والعاقبة للمتقين، ﴿ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖ [محمد: 4]، ﴿وَلَنَبۡلُوَنَّكُمۡ حَتَّىٰ نَعۡلَمَ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰبِرِينَ [محمد: 31].

والجهاد هو سنام الإسلام؛ لأن الدين رأسه الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، والجهاد يكون بالحجة والبيان ويكون بالقوة والرجال ويكون بالمال. ولكل مقام مقال؛ لأن الجهاد مأخوذ من بذل الجهد والطاقة في إعلاء كلمة الحق ونصر دينه والذود عن حدود المسلمين وحقوقهم وحرماتهم. والمسلم يجاهد بسيفه ولسانه وماله، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ»[24].

وأخبر النبي ﷺ أنه: «ما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا سلط الله عليهم ذلًّا لا ينزعه حتى يراجعوا دينهم»[25].

وفي القرآن والسنة تكرر فضل الجهاد والمجاهدين، وأخبر الله في كتابه الحكيم أن الجهاد هو التجارة الرابحة في الأجر، كما أنه من أسباب العز والنصر، فقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ تِجَٰرَةٖ تُنجِيكُم مِّنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ ١٠ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١١ يَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡ وَيُدۡخِلۡكُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةٗ فِي جَنَّٰتِ عَدۡنٖۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١٢ وَأُخۡرَىٰ تُحِبُّونَهَاۖ نَصۡرٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَتۡحٞ قَرِيبٞۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ١٣ [الصف:10-13].

إن السلف الصالحين من الصحابة والتابعين لما سمعوا آيات الجهاد تتلى عليهم قالوا: ﴿سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا [البقرة: 285]، فساحت أيديهم بالنداء وسمحت نفوسهم بالفداء، فمنهم البائع نفسه، ومنهم الباذل ماله؛ حمية دينية ونخوة عربية، لعلمهم أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله، فمن أخبارهم الشهيرة ومآثرهم المنيرة أن رجلاً من الصحابة جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: أرأيت إن قاتلت فقتلت صابرًا محتسبًا ماذا أكون؟ فقال: «في الجنة». وكان في يده كسرة تمرة فقال: والله لئن بقيت حتى آكل هذه الكسرة إنها لحياة طويلة، ثم رمى بها وهز سيفه وأقبل يرتجز ويقول:
ركضًا إلى الله بغير زادِ
إلا التقى وعمل المعادِ
والصبر في الله على الجهادِ
إن التُّقى من أفضل المزادِ
فقاتل حتى قتل رضي الله عنه.

ثم إن النبي ﷺ حثهم على الجهاد في سبيل الله في غزوة العسرة، وكانت زمن جهد ومجاعة، فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها. ثم حثهم أخرى، فقال عثمان: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها. ثم حثهم أخرى، فقال عثمان: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها. ثم جاء بصرة دنانير كادت كفه تعجز عنها فوضعها بين يدي رسول الله، فجعل رسول الله يقلبها ويقول: «مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا فَعَلَ بَعْدَ الْيَوْمِ، غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا عُثْمَانُ مَا قَدَّمْتَ وَمَا أَخَّرْتَ»[26].

وقدمت عير من الشام لعبد الرحمن بن عوف تقدر بسبعمائة بعير تحمل من كل شيء، فتصدق بها كلها في سبيل الله.

فبالله قل لي: كيف عاقبة أمرهما بعد هذا الإنفاق الطائل؟ أجبك بأنهما توفيا وهما من أحسن الناس حالاً. وتصدق عمر بشطر ماله.

إن الله سبحانه قد ضمن النصر للمؤمنين المجاهدين، فقال: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ ٥١ [المؤمن: 51]، وقال: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٤٧ [الروم: 47]، فهذا النصر المضمون للمؤمنين هو مشروط بنصرهم لدين الله وحمايته والذود عن حدود المسلمين وحقوقهم وحرماتهم، وأن يجاهدوا أنفسهم على القيام بواجبات دينهم قبل أن يجاهدوا عدوهم حتى يكون الله وليهم وناصرهم والمعين لهم على عدوهم ﴿إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ ٧ [محمد: 7]، ونصر الله هو أن يقصد بالحرب حماية الحق وإعلاء كلمته ولا بد مع هذا من الأخذ بأسباب عدته من الوسائل من الحزم والحذر والاستعداد بالقوة، كما أرشد إليه الكتاب العزيز في قوله: ﴿خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ [النساء:71]، ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ [الأنفال: 60]، والقوة تختلف باختلاف الأحوال والأزمان ولكل زمان دولة وقوة ورجال تناسب حالة القتال، وفسر النبي ﷺ القوة بالرمي، وهو حق، ولم يذكر المرمي به لكونه يختلف باختلاف الزمان والمكان.

أما إذا تخلف عملهم عن واجبات دينهم أو لم يستعدوا بالحزم والقوة لجهاد عدوهم، فإنه يتخلف عنهم هذا النصر المضمون لهم من أجل إخلالهم بواجبات عملهم، وعدم امتثالهم لأمر ربهم، ابتلوا بهذه المصائب ليطهرهم من المعايب كما قيل: كم ضارة نافعة؛ لأن ذنوب الجيش جند عليه، والاتكال على الإيمان بدون عمل يعتبرعجزًا ومخالفة لأمر الله ورسوله، فلا يصح التوكل ولا يصح إلا بعد الأخذ بالأسباب المؤهلة من النصر.

لهذا يجب التفكير في سبب تخلف هذا النصر عن المؤمنين طيلة هذه السنين في قوله: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٤٧ [الروم: 47]، ولن يخلف الله وعده، وإن تخلف هذا النصر هو من أجل تخلف إصلاح الأحوال والأعمال، فتسلط الأعداء عليهم في حال تقصيرهم بواجبات دينهم وعدم استعدادهم بالقوة لمجابهة عدوهم، ﴿وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ ٣٠ [الشورى: 30]. إن الشيء بالشيء يذكر، والدنيا كلها عبر.

إنه لما كانت وقعة بدر وكان أصحاب رسول الله ﷺ قلة وفي حالة ضعف وذلة وأقبل المشركون بخيلهم وخيلائهم وهم محدقون بالسلاح التام يريدون أن يستأصلوا شأفة رسول اللهﷺ وأصحابه، وأن يبيدوا خضراءهم، فصف رسول الله ﷺ المقاتلة، ثم قام يدعو ويتضرع إلى ربه حتى سقط رداؤه من طول قيامه للدعاء، فلما التقى الجمعان أنزل الله النصر على نبيه وأصحابه، فقتلوا سبعين من عظماء المشركين، وأسروا سبعين وضربوا عليهم الفداء.

وبعد هذا النصر والظفر دخل في قلوب الصحابة شيء من قوة الإيمان بالله والتوكل عليه وظنوا أنهم لن يغلبوا أبدًا من أجل إيمانهم وكونهم حزب رسول الله ويقاتلون في سبيل الله، مما جعلهم يكسلون عن الاحتفال بالأسباب وأخذ الحذر والاحتفاظ عن غوائل عدوهم.

وفي وقعة أحد صف رسول الله ﷺ المقاتلة في مصافهم وأمّر عبد الله بن جبير على سرية وجعلهم في فم شعب وقال لهم: «احْمُوا ظُهُورَنَا، وَلَا تَبْرَحُوا عَنْ مَكَانِكُمْ، حَتَّى لَوْ رَأَيْتُمُ الطَّيْرَ تَخْطَفُنَا فَلَا تَنْصُرُونَا، أَوْ رَأَيْتُمُونَا نَغْنَمُ فَلَا تُشْرِكُونَا»[27]، وكانت الغلبة للنبي وأصحابه أول النهار حتى كسروا تسعة ألوية للمشركين، وانهزم المشركون وجعل السلاح والمتاع يتساقط منهم والناس يحوزونه، فقال أصحاب عبد الله بن جبير بعضهم لبعض: الغنيمة، الغنيمة. فذكرهم أميرهم بقول رسول الله ﷺ فعصوه وأخلوا مركزهم، فدخلت خيل المشركين من جهته فقتلوا سبعين من الصحابة وشجوا رأس رسول الله ﷺ وكسروا رباعيته ودلوه في حفرة ظنوه ميتًا، وصرخ الشيطان: قتل محمد.

وبعد هذه الهزيمة أخذ الصحابة يتفكرون في سببها وقد عرفوا أنها إنما حصلت عليهم بسبب ذنب اقترفوه في إخلاء مركزهم الذي أمروا بحفظه، وأنزل الله كالتأنيب والتأديب: ﴿أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡ [آل‌عمران: 165]؛ أي بسبب تقصيركم بواجبكم.

فهذه الكبوة وما حصل على أثرها من النكبة قد أورثت الصحابة شيئًا من الحزم وفعل أولي العزم من أخذ الحذر والاستعداد بالقوة، واستعمال وسائل الكيد لعدوهم مما جعلهم يتوصلون إلى ما تحصلوا عليه من فتح مشارق الأرض ومغاربها، حتى استطاعوا أن يثلوا عرش كسرى وقيصر في أقصر مدة من الزمن، وهم من أرقى الأمم حضارة ونظامًا وقوة وعتادًا وعددًا، وذلك بأنه لما انتشرت فتوحهم الإسلامية وامتد سلطان المسلمين على الأقطار الأجنبية لم يقصروا نفوسهم على استلذاذ الترف ورخاء العيش وتزويق الأبنية فحسب، بل عكفوا جادين على تمهيد قواعد الدين، وهدم قواعد المبطلين ونشر الأحكام الشرعية، وتعميم اللغة العربية، فاختطوا المدن وأنشؤوا المساجد وأشادوا المكارم والمفاخر وأزالوا المنكرات والخبائث، فأوجدوا حضارة نضرة جمعت بين الدين والدنيا، أسسوا قواعدها على الطاعة فدامت لهم بقوة الاستطاعة، وغرسوا فيها الأعمال البارة فأينعت لهم بالأرزاق الدارة، فكانوا من قال الله فيهم: ﴿... وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ٤٠ ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ٤١ [الحج: 40-41]، فمن قام بالله عز، ومن كان مع الله كان الله معه.

إن المصارعة بين الحق والباطل وبين المسلمين والكفار لا تزال قائمة وموجودة من لدن خلق الله الدنيا إلى أن تقوم الساعة، وحتى يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ وَهُوَ كُرۡهٞ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡ‍ٔٗا وَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيۡ‍ٔٗا وَهُوَ شَرّٞ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٢١٦ [البقرة: 216]. ويترتب على هذه الحروب حكم ومصالح لا يعلم غايتها إلا الله الذي قدر سببها ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ [البقرة: 251]. فمن ظن أن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستمرة، أو ظن أن الله يديل اليهود على المسلمين إدالة مستمرة، فقد ظن بالله ظن السوء، لكن الله سبحانه يؤدب عباده، فإذا عصاه من يعرفه سلط عليه من لا يعرفه، والباطل لا تقوى شوكته ولا تعظم صولته إلا في حال رقدة الحق وغفلته عنه، فإذا انتبه له هزمه بإذن الله تعالى، ﴿بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞۚ وَلَكُمُ ٱلۡوَيۡلُ مِمَّا تَصِفُونَ ١٨ [الأنبياء: 18]، غير أن للباطل صولة نعوذ بالله من شرها، لكن عاقبتها الذهاب والاضمحلال، وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ يُخَوِّفُ أَوۡلِيَآءَهُۥ فَلَا تَخَافُوهُمۡ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ١٧٥ [آل‌عمران: 175]؛ أي يخوفكم بأوليائه ويعظمهم في نفوسكم، ومن هذا التخويف ما وقع في قلوب أكثر الناس من شدة خوفهم من اليهود وتعظيمهم في نفوسهم وألسنتهم حتى ظنوا أنهم لن يغلبوا أبدًا من شدة كيدهم ومكرهم وتوفر وسائل القوة لديهم، وقد غزوا قلوب الناس بالرعب والرهب منهم، ونسوا أن الله سبحانه قد وعد عباده المؤمنين بالنصر عليهم، فقال تعالى: ﴿لَن يَضُرُّوكُمۡ إِلَّآ أَذٗىۖ وَإِن يُقَٰتِلُوكُمۡ يُوَلُّوكُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ ١١١ ضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيۡنَ مَا ثُقِفُوٓاْ إِلَّا بِحَبۡلٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبۡلٖ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُو بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَسۡكَنَةُ [آل عمران: 111-112]، ونسوا قول الله تعالى: ﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبۡعَثَنَّ عَلَيۡهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَن يَسُومُهُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ [الأعراف: 167]، وصدق الله العظيم، فإن هذا العذاب الذي وعدهم الله بأن يساموا به هو ضربة لازب في حقهم، لا يفارقهم ولا يزال ملازمًا لهم كما هو الواقع بهم الآن بأيدي المسلمين، وما سيقع بهم إلى يوم القيامة أكثر وأعظم، ﴿سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ [فصلت: 53].

إن هذا الطفور والطغيان ومجاوزة الحد في الفتك والسفك والعدوان الواقع من اليهود على العرب المسلمين طيلة هذه السنين حتى أخرجوهم من ديارهم ومساكنهم إلى الصحراء، واستولوا عليها قسرًا وقهرًا، وأخذوا يسومونهم سوء العذاب من القتل والتضييق والإرهاق، حتى بلغ الأمر بهم إلى أشد الاختناق وإلى حد ما لا يطاق، حتى لقد أنكر أمرهم وبغيهم وطغيانهم جميع دول العالم ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ ٣٩ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ [الحج: 39-40].

وقد عرف العقلاء أن هذا التغلب والاستيلاء من اليهود إنما حصل بسبب ذنب من المسلمين اقترفوه، وذلك حينما ضعف عملهم بالإسلام وساء اعتقادهم فيه، وصار فيهم منافقون يدعون إلى نبذه وإلى عدم التقيد بفرضه ونفله، وعلى أثره حصل الاختلاف بين الحكام والزعماء نتيجة الاختلاف في النزاعات والأهواء، فتقطعت وحدة جماعة المسلمين إربًا وأوصالاً وصاروا شيعًا وأحزابًا، ففشى من بينهم الفوضى والشقاق وقامت الفتن على قدم وساق، يقتل بعضهم بعضًا، ويسبي بعضهم أموال بعض بحجة الاشتراكية المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان، وبسبب هذا الاختلاف حصل الاعتلال والاختلال.

وهي فرصة سنح للعدو فيها المواثبة فقويت شوكته وعظمت صولته، وتسلط على العرب المسلمين بجبروته وقوته، حتى أخذ الناس يقولون: ﴿مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ ٢١٤ [البقرة: 214].

وبسبب هذه الحوادث والنقمات وما نجم عنها من الكبوات والنكبات، حصل رجوع الكثير من الناس إلى ربهم والقيام بواجبات دينهم من صلاتهم وصيامهم، فعملوا أعمالهم في إصلاح أعمالهم رجاء أن يصلح الله أحوالهم، لعلمهم أنه ما نزل بهم بلاء إلا بذنب، ورب ضارة نافعة، والمكارم منوطة بالمكاره.

كما حصل التقارب بين قلوب حكام المسلمين وزعمائهم وإزالة الإحن والشحناء من بينهم فتكاتفوا وتساعدوا وتعاضدوا على قتال عدوهم؛ لأن المؤمنين ﴿بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖ [التوبة:71]، ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖ [المائدة: 54].

وهذا الرجوع إلى الله وما يتبعه من التعاضد والتساعد في القتال في سبيل الله هو مؤذن ومبشر بنصر من الله وفتح قريب إن شاء الله، كما أنه مؤذن ومبشر بانتهاء نصر اليهود واقتراب مصرعهم بحول الله، وكل شيء فمرهون بوقته ومربوط بقضاء الله وقدره: ﴿إِن يَنصُرۡكُمُ ٱللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمۡۖ وَإِن يَخۡذُلۡكُمۡ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنۢ بَعۡدِهِۦ [آل عمران: 160].

إن هذه الأمة الباغية الطاغية التي حلت بساحة العرب المسلمين تقتل الأنام وتحاول أن تجتث أصل الإسلام، ينسلون للتعاون من كل حدب ويتواثبون على أهل الإسلام من كل جانب.

فإن جهاد هذا العدو الصائل واجب على المسلمين بكل الوسائل، فمن تعذر عليه ببدنه تعين عليه بماله؛ لأن ﴿۞إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ [التوبة: 111].

ولأن المال بمثابة الترس للإسلام يستجلب به العدد والعتاد وسائر وسائل الجهاد، ويستدفع به صولة أهل الكفر والعناد، فهو المحور الذي تدور عليه رحى الحرب ويستعان به في الطعن والضرب، والمسلم يجاهد بنفسه وماله، وقد فرض الله في أموال الأغنياء نصيبًا مفروضًا يصرف في الجهاد والمجاهدين في سبيل الله، فيجوز أو يستحب للتاجر أن يصرف زكاته في هذه الحالة إلى المجاهدين في سبيل الله، وفي المال حق سوى الزكاة، فمن لم يكن عنده زكاة وجب أن يساهم بقدر استطاعته، كل على حسب مقدرته والدرهم بسبعمائة درهم وعند الله أضعاف كثيرة.

ولست أقول: إن مساعدة هؤلاء المجاهدين مستحبة فحسب، إنما أقول: إنها واجبة كوجوب الصلاة والصيام؛ لأن الجهاد ذروة سنام الإسلام والنبي ﷺ قال: «جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ»[28].

إنه من بعد حروب الصحابة والتابعين، ثم حروب صلاح الدين مع التتر والصليبين حينما أجلاهم عن بلدان العرب المسلمين لم نسمع بالجهاد في سبيل الله الصحيح الحقيقي إلا في هذا القتال الواقع بين المسلمين مع اليهود، فهذا هو الجهاد في سبيل الله حقًّا والذي يجب أن يضحى في سبيله بالنفس والنفيس.

لأن هؤلاء المجاهدين المباشرين للقتال هم بمثابة المرابطين دون ثغور المسلمين، يحمون حدود المسلمين وحقوقهم، فهم يحاربون دون أديانكم وأبدانكم، يحاربون دون ذراريكم ونسائكم، يحاربون دون مجدكم وشرفكم وحسن سمعتكم. وقد طلبوا النجدة والمساعدة من إخوانهم المسلمين، وقد أوجب الله عليكم نصرتهم، فقال تعالى: ﴿وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ [الأنفال: 72]، والنصر يكون بالقوة والرجال ويكون بالمال، ﴿وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ ءَاتَىٰكُمۡ [النور: 33]، فمن العار أن تنعموا وهم بائسون، أو تشبعوا وهم جائعون، أو يضعفوا وأنتم مقتدرون، والمسلم كثير بإخوانه قوي بأعوانه.

وإنه ما بخل أحد بنفقة واجبة في سبيل الحق كالجهاد في سبيل الله إلا أتلف الله عليه ما هو أكثر منها، والناس إنما يستحبون اقتناء المال لحوادث الزمان، وهذا القتال هو أشد حادثة وقعت على الإسلام والمسلمين في هذه السنين، وله ما بعده من العز والذل، نعوذ بالله من الخذلان.

إن في العهد الذي عهده رسول الله لأمته أن ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم وهم يد على من سواهم، ومعنى كونهم يد على من سواهم، أنه متى نبغ عدو على المسلمين كهؤلاء اليهود فإن من الواجب أن يكونوا كاليد الواحدة في دحر نحره ودفع شره؛ لأن المسلم للمسلم كالبنيان، ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ [المائدة: 2].

لقد بلغكم من الأخبار المشهورة والجرائد المنشورة أن مدار قوة اليهود تتركز على مساعدات قومهم لهم، أفلا يكون المسلمون أحق بالسبق إلى هذه الفضيلة التي أوجبها عليهم كتاب ربهم وسنة نبيهم وأنتم تقاتلون على الحق وهم على الباطل!

إن الله سبحانه قد أوجب الجهاد وأمر بالاستعداد له بالقوة، ومن المعلوم أنه لا قوة بعد الله إلا بالمال وبدونه يقع الناس في الذل والضر ولا بد.
وكيف يصولُ في الأيام ليثٌ
إذا وهتِ المخالبُ والنيوبُ
إن هذه القضية قد حركت كل من في قلبه نخوة دينية أو غيرة عربية، فساهموا في الفضل وتنافسوا في البذل، فمنهم من ضحى بالنفس ومنهم من جاد بالنفيس؛ لأنه لا خبيئة بعد بؤس ولا عطر بعد عرس، والمال لا يستغنى عنه في حال من الأحوال، وناهيك بالحاجة إليه في أزمة القتال.
لا تثمروا المال للأعداء إنهمو
إن يظهروا يحتووكم والتلاد معا
هيهات لا مال من زرع ولا إبل
يرجى لغابركم إن أنفكم جُدعا
﴿هَٰٓأَنتُمۡ هَٰٓؤُلَآءِ تُدۡعَوۡنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبۡخَلُۖ وَمَن يَبۡخَلۡ فَإِنَّمَا يَبۡخَلُ عَن نَّفۡسِهِۦۚ وَٱللَّهُ ٱلۡغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُۚ [محمد: 38]،

﴿وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٦ [التغابن: 16].

اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض ياذا الجلال والإكرام، اللهم انصر جيوش المسلين نصرًا عزيزًا، اللهم افتح لهم فتحًا مبينًا، اللهم ألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم وانصرهم على عدوك وعدوهم، واهدهم سبيل الحق والعدل والسداد.

اللهم أعنهم ولا تعن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، وانصرهم على من بغى عليهم، وثبت أقدامهم وأنزل السكينة في قلوبهم، اللهم إنا نستعين بك ونستنصرك على الذين كذبوا رسلك وآذوا عبادك، اللهم أنزل عليهم رجزك وعذابك، اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصر المسلمين عليهم بحولك وقوتك إله الحق.

* * *

[23] خطبة ألقاها المؤلف يوم الجمعة حينما حمي وطيس الحرب بين المسلمين واليهود في العاشر من رمضان عام 1393هـ، وكانت بعنوان (الجهاد في سبيل الله وفضل النفقة فيه). [24] أخرجه النسائي والإمام أحمد من حديث أنس. [25] أخرجه الطبري في تهذيب الآثار من حديث عبد الله بن عمر. [26] أخرجه الترمذي من حديث عبد الرحمن بن سمرة. [27] رواه الإمام أحمد وغيره ولفظ أحمد: «إن رأيتم العدو والطير يخطفنا فلا تبرحوا». [28] أخرجه النسائي والإمام أحمد من حديث أنس.