متقدم
 

بطلان نكاح المتعة بمقتضى الدلائل من الكتاب والسنة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ثم الصلاة والسلام على محمّد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تمسك بسنّته واتبع هداه، أما بعد:

فإنني رأيت مقالة صادرة عن أحد علماء الشيعة[325] يقول فيها بإباحة متعة النساء ويحث فيها الشباب والشابات على فتح أبواب التمتع من بعضهم مع بعض بالنكاح المؤقت باليوم واليومين والأسبوع والشهر، ليشبعوا بذلك شهوتهم بدون تكلف النكاح الشرعي الذي يشق عليهم فعله وفعل ما يترتب عليه من الصداق والنفقة.

وهذه دعوة سافرة إلى فتح أبواب الزنا والتوسع فيه، مما يجعل الشباب ينصرفون عن النكاح الشرعي، وكانت هذه القضية هي مما عفا عليه الأثر ولم يبق عند علماء المسلمين كافة أي اهتمام بها ولا ذكر، لكونها معلومة البطلان بواضح الكتاب والسنة والإجماع.

ثم إنه يستدل لتأييد رأيه بالنقول الباطلة غير الصحيحة وبالأحاديث المنسوخة، فتراه يقول ذكر البخاري في كتابه كذا وذكر مسلم كذا وذكر الرازي كذا بما لا حقيقة له، ولم أجده ذكر في مقالته حديثًا واحدًا بلفظه أو معناه، لكنه عندما يسوق حديثًا كحديث الإمام علي رضي الله عنه أن رسول الله رخص في المتعة في أول الإسلام، ثم نهى عنها عام خيبر وقبل عام الفتح نهيًا عامًّا دائمًا إلى يوم القيامة، فتراه يحتج بالمنسوخ من قوله رخص النبي ﷺ في المتعة ويترك الناسخ تغريرًا وتدليسًا لأسماع الناس، مع العلم أنني لم أره ذكر حديثًا واحدًا صحيحًا بلفظه يؤيد صحة ما ذهب إليه، إلا أن يكون منسوخًا قد بطل العمل به.

إن أول كلمة بدأ بها مقالته هي قوله: (إن المتعة كانت مباحة، وإن أول من قال بتحريمها هو الخليفة الثاني) يعني: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهو يحاول إلصاقها بعمر ليستبيح بذلك حرمة تحريمها وينزه الرسول عنها، وهذا ليس محمولاً على عدم معرفته أحاديث النسخ لها وإجماع الصحابة على تحريمها، وإنّما فعله تلبيسًا على أسماع الناس، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَلۡبِسُونَ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٧١ [آل عمران: 71].

ولَبْس الحق بالباطل هو تغطيته به، بحيث يظهر الباطل في صورة الحق، فيظهر للناس باطله في صورة الحق وهو في الحقيقة باطل.

ومن لوازم هذا التدليس كتمانُ الحق وعدم بيانه، لأنه لو بينه للناس لعرفوا حقيقة بطلان قوله كله.

وإباحته في بدء الإسلام إنما نشأت عن بقاء الناس على حالتهم في الجاهلية، وكان هذا نوعًا من أنكحتهم، ويسمى في القرآن بالمتخذات أخدان. كما في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي ﷺ أخبرته أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: منها نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وَلِيَّته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه. ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدًا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر: يجتمع الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومرّ عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان. تسمي من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع به الرجل، ونكاح رابع: يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهنّ البغايا، كن ينصبن على أبوابهنّ رايات تكون علمًا، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك. فلما بعث محمد ﷺ بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم.

وبه يعلم أن نكاح المتعة هو من قبيل ﴿مُتَّخِذَٰتِ أَخۡدَانٖۚ [النساء: 25] حيث يختص بها واحد بدون مشارك في زمن محدود، كما هو الواقع من فعل كثير من النساء الزواني اللاتي يراعين التستر، وبذلك أنزل الله تعالى قوله: ﴿فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذۡنِ أَهۡلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِ مُحۡصَنَٰتٍ غَيۡرَ مُسَٰفِحَٰتٖ وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخۡدَانٖۚ [النساء: 25] فسمى الله الصداق أجرة وأجرًا كما قال سبحانه: ﴿وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [المائدة: 5] وفي قصة موسى قول شعيب: ﴿إِنِّيٓ أُرِيدُ أَنۡ أُنكِحَكَ إِحۡدَى ٱبۡنَتَيَّ هَٰتَيۡنِ عَلَىٰٓ أَن تَأۡجُرَنِي ثَمَٰنِيَ حِجَجٖۖ فَإِنۡ أَتۡمَمۡتَ عَشۡرٗا فَمِنۡ عِندِكَۖ [القصص: 27]، فتزوجها موسى برعاية غنم شعيب ثماني سنين ثم كمّلها عشرًا. فليس في الشريعة الإسلامية نكاح مباح إلا نكاح الزوجة أو الأمة، فمن ابتغى نكاحًا غيرهما فأولئك هم العادون، أي: الذين يطلبون نكاحًا مؤقتا بيوم أو يومين فهم المتعدون لحدود الله والمستحلون لمحارمه.

ثم إن صاحب المقالة رد على من قال بجواز الاستمناء باليد يعني بذلك الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه الحلال والحرام حيث طرق موضوع هذه القضية، ثم قال بجواز الاستمناء باليد عند الضرورة، وليس رأيه هذا ببدع من القول والزور لجواز ارتكاب أدنى الضررين لدفع أعلاهما، وهو عمل جائز في مذهب الحنابلة، قال في الإقناع ولا يعزر من استمنى بيده، أي لقوة الخلاف فيه وضعف القول بحرمته[326].

وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن أبناء المهاجرين والأنصار في غزواتهم الطويلة كانوا يستريحون بالاستمناء باليد، وهذا الاستمناء هو كاسمه حقيقة ومعنى ولا يسمى نكاحًا، فإخراج هذا المني إلى التراب أو إلى الفراش أيسر من وضعه في فرج حرام. وقال شيخ الإسلام في فتاويه: إن اضطر الشخص إلى الاستمناء بيده مثل أن يخاف الزنا إن لم يستمن أو يخاف المرض فهذا فيه قولان مشهوران، وقد رخص في هذه الحال طوائف من السلف والخلف[327].

هذا وإن أساطين الشيعة ورؤساءهم يتعففون عن هذا العمل، فلا نسمع بغني ولا فقير أنه سلم ابنته لرجل باستئجاره لها يومًا أو يومين أو أسبوعًا أو شهرًا باسم نكاح المتعة، فهم يترفعون عن العمل بهذا أو عدم السقوط فيه لدناءته، فهو نكاح مفسدة وتنقل في اللذات، وحتى إن جريمة الزنا قليلة فيما بينهم، وليس فيه شيء من المصالح سوى قضاء وطر الشهوة، بخلاف النكاح الدائم الشرعي، فإنه يترتب عليه مصالح كثيرة منها الإحصان ويعني أنه يحصّن الزوج عن غير زوجته ويحصّنها هي أيضًا، ومتى أشرك مع زوجته غيرها من الأخدان فإنه يفسد به نظام الزوجية الشرعية، فيبغض زوجته وتبغضه.

ومنها أن الله سمى الزوجة سكنًا، فيسكن إليها الزوج وتسكن إليه ويأنس بها، فقال سبحانه: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةًۚ [الروم: 21] فالزوج سكن للمرأة يسكن إليها ويطمئن بها، فتجلب إليه الأنس والسرور والغبطة والحبور، وتقاسمه الهموم والغموم، ويكون بوجودها بمثابة الملك المخدوم والسيد المحشوم. فمسكين مسكين رجل بلا زوجة، والعزاب هم أراذل الأحياء وشرار الأموات. كما أن الزوج كرامة ونعمة للزوجة، يرفع مستوى ضعفها وينشر جناح وحدتها، ويسعى عليها بكل ما تشتهي من الحاجات والنفقات، ويجعلها سيدة بيت وسعيدة عشيرة وأُمّ بنين وبنات.

ومنها أن الله سمى الزوجة حرثًا، والذي هو محلٌّ لإنشاء النسل المحبوب تكثيره عند الشرع، ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الْوَدُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[328]، ولا توجد هذه الميزات في نكاح المتعة الذي غايته قضاء وطر الشهوة لا غير، ولهذا أمر النبي ﷺ بإعلان النكاح واشتهاره لشرفه، فقال ﷺ: «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ»[329] وقال: «فَرْقُ مَا بَيْنَ الْحَلالِ وَالْحَرَامِ الضَّرْبُ بِالدُّفِّ»[330] لكون النكاح الحرام يبالغ أهله في إخفائه وعدم بيانه، فنكاح المتعة غايته تفنُّن الذوق والتنقل في اللذات بدون رغبة منه ولا منها في إنجاب البنين والبنات، بل إنه من الأسباب التي ينقطع بها النسل، لأنه متى تعاقب الرجال على المرأة بحيث تكون عند أحدهم شهرًا وعند الآخر الشهر الثاني فإنه بذلك يفسد نظام الحمل من أجل اختلاط المياه في الرحم، إذ هي بهذه الصفة من قبيل المتخذات أخدان.

وفي مذهب الزيدية: أن النكاح مؤبد، فلا يجوز عندهم نكاح المتعة أو النكاح المؤقت إلى أمد مجهول أو معلوم وغايته إلى خمسة وأربعين يومًا أو أكثر من ذلك. فقد حدث زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي رضي الله عنهم: أن رسول الله ﷺ نهى عن المتعة عام خيبر.

وأخرج البخاري ومسلم والمؤيد بالله في شرح التجريد وغيرهم من طريق مالك عن ابن شهاب عن عبد الله والحسن ابني محمّد بن علي عن أبيهما عن علي ابن أبي طالب: أن رسول اللهﷺ نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسيّة[331].

وأخرج البيهقي عن طريق عبد الله بن لهيعة عن موسى بن أيوب عن إياس بن عامر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: نهى رسول الله ﷺ عن المتعة. قال: وإنما كانت لمن لم يجد، فلما أنزل النكاح والطلاق والعدة والميراث بين الزوج والمرأة نسخت.

وأخرج البيهقي أيضًا أن رجلاً سأل عبد الله بن عمر عن المتعة فقال: حرام. قال: فإن فلانًا يقول فيها. فقال: والله لقد علم أن رسول الله ﷺ حرمها يوم خيبر وما كنا مسافحين. وهذا يدل على تحريم المتعة.

ثم إن الشيعة تمسكوا في استدلالهم على نكاح المتعة بقوله سبحانه: ﴿فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ فَ‍َٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ [النساء: 24] وهذا الاستدلال لا صحة له، فإن هذه الآية سيقت في بيان ما يحل ويحرم من نكاح النساء كما يُعلم من نظمها فيما قبلها وما بعدها، وأن يكون الغرض المقصود من النكاح هو الإحصان وطلب النسل دون التمتع بسفح الماء والتنقل في اللذات والتي يكون حظ الحيوان فيها أكثر من حظ الإنسان، ثم إن السنة تفسر القرآن وتبين ما أشكل منه، وقد فسرت السنة هذا الاستمتاع وأن المراد به النكاح الشرعي.

فقد روى البخاري ومسلم أن النبي ﷺ قال: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ مَا فِي الضِّلْعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ اسْتَمْتَعْت بِهَا اسْتَمْتَعْت، وَبِهَا عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْت تُقِيمُهَا كَسَرْتهَا، وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا». فدل هذا الحديث على نفس ما دلت عليه الآية، وأن المراد بقوله: ﴿فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ أي بالنكاح الشرعي الذي يتخلله الطلاق عند عدم الوفاق، كما قال: «وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا» ونكاح المتعة ليس فيه طلاق ولا نفقة ولا ميراث، فيجوز عندهم أن يستأجرها بنكاح المتعة[332] فهو يتمشى على طريقة السفاح، بحيث إن الرجل يتفق مع المسافحة أسبوعًا أو شهرًا بأجر مسمى على سبيل الاختصاص بدون مشارك، ثم يتفق الثاني معها كذلك، إلا أنهم لا يذكرون فيه نكاح المتعة. ولهذا قال علي رضي الله عنه: لا أوتى بمستمتعين إلاّ رجمتهما.

فقوله: ﴿فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ أي تمتعتم، والزوجة تسمى متاعًا كما روى الإمام أحمد والدارمي أن النبي ﷺ قال: «الدنيا متاع وخير متاعها الزوجة الصالحة، التي إذا نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله». ثم إن النكاح الشرعي المؤبد يخالف نكاح المتعة المقدر بيوم أو أسبوع أو شهر، فإن نكاح المتعة ليس فيه سوى قضاء وطر الشهوة فقط، بحيث يسفح ماءه في فرجها، فهو يزيد في الولوع والشغف في التنقل في اللذات، فكلما سفح ماءه في امرأة انصرف عنها إلى غيرها، لكون الحب إذا نكح فسد، ولكون المتمتع بنكاح المتعة لا يقصد الإحصان وإنما يقصد مجرد السفاح والتنقل في اللذات بين المشتهيات، فتزداد به المرأة جنونًا لا إحصانًا، بحيث تنصرف برغبتها عن النكاح الشرعي، ومن شروط النكاح الشرعي هو أن يكون عن رغبة في استدامة بقائها لإحصانه بها وطلب النسل منها، أما إذا تزوجها على عزم أن يطلقها بعد يوم أو يومين أو أسبوع، أو على نية أن يبيحها لزوجها الأول فإن هذا نكاح باطل ولا ينعقد ولا تحل به المرأة لزوجها الأول، ويسمى التيس المستعار.

عن ابن مسعود قال: لعن رسول الله ﷺ المحلِّل والمحلَّل له. رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه.

ومن صفة المؤمنين ما أخبر الله عنهم بقوله: ﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ ٢٩ إِلَّا عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَيۡرُ مَلُومِينَ ٣٠ فَمَنِ ٱبۡتَغَىٰ وَرَآءَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡعَادُونَ ٣١ [المعارج: 29-31] أي: المتجاوزون ما أحل الله لهم إلى ما حرم عليهم.

إن متعة النساء في استئجار المرأة لوطئها يومًا أو أسبوعًا أو شهرًا كانت من عمل الجاهلية، ثم بقيت على حالة الإباحة في أول الإسلام حيث كان الناس في شدة وحاجة، فلما وسع الله عليهم بالمال يوم فتح خيبر أي عام ستة من الهجرة حرمها رسول الله ﷺ عن الله تحريمًا مؤبدًا إلى يوم القيامة، وقال: «إِنِّي كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النِّسَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ، فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا، وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا»[333].

فلقد أُبيحت متعة النساء لهم في أول الإسلام كحالتهم في الجاهلية حيث كانوا مصابين بالفقر الشديد والفاقة وبالجوع والعراء، حيث كانوا يتقاسمون في بعض أسفارهم بالتمرة الواحدة، وحيث كان يوجد من بينهم سبعون رجلاً ما منهم رجل عليه إزار ورداء، بل إما إزار وإما رداء قد ربطوها في أعناقهم. وفي الصحيحين أن امرأة جاءت إلى النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله جئت أهب لك نفسي. فنظر إليها ثم صوب نظره، ثم طأطأ رسول الله ﷺ رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئًا جلست. فقام رجل فقال: يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها. فقال: «هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ؟» فقال: لا والله. قال: «انْظُرْ، وَلَوْ خَاتِمًا مِنْ حَدِيدٍ» قال: والله ما عندي ولا خاتم من حديد، ولكن هذا إزاري فلها نصفه. وليس عليه سوى إزار، فقال رسول الله ﷺ: «مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ؟ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَكِنْ هَلْ مَعَكَ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ؟» فقال: نعم، معي سورة كذا وكذا. قال: «اذْهَبْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ». مما يدل على أن متعة النساء قد أبيحت في زمان أُبيح فيه أكل الميتة، وهذا معنى الفتوى التي قيل: إن ابن عباس أفتى بها. على أنه ليس بمعصوم، وقد زجره الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: ما أراك تاركًا هنيّاتك، أما علمت أن رسول الله ﷺ قد حرمها؟!

وجاء سعيد بن جبير إليه فقال: ما هذه الفتوى التي سمعت الناس يتحدثون بها؟ فقال: ما يقولون؟ قال: يقولون: إنك أبحت متعة النساء، وقد سمعت ركاب الإبل يتغنون بها. فقال: ما يقولون؟ قلت: يقولون:
أقول للشيخ لما طال مجلسه
يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس
هل لك في خصـرة الأطراف آنسة
تكون مثواك حتى مصدر الناس
فقال: والله ما قلت إلا أنها محرمة كحرمة الميتة والدم ولحم الخنزير.

وليس تأخير تحريم متعة النساء إلى زمن خيبر ببدع من القول للحكمة والمصلحة، فإن الله يحدث من أمره ما يشاء، وكانت الأحكام من الأمر والنهي والحلال والحرام تنزل على النبي ﷺ شيئًا بعد شيء، كما كان بعضهم يكلم بعضًا في نفس الصلاة فقال لهم النبي ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أَلَّا تَتَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ»[334] ويقول الله سبحانه: ﴿۞مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ [البقرة: 106] فقد أُبيح للنّاس شرب الخمر في أول الإسلام، فكان أول آية نزلت في التمهيد لتحريمه هي قوله سبحانه: ﴿لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ [النساء: 43]، ثم أنزل الله بعدها ﴿۞يَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ [البقرة: 219].

ومتى كان الشيء إثمه أكبر من نفعه وجب اجتنابه، ثم أنزل الله في السنة التاسعة من الهجرة قوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٩٠ [المائدة: 90]، وهذه من سورة المائدة التي هي من آخر القرآن نزولاً، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها. وهذا تحريم مؤبّد يكفر مستحلُّه، حتى إن الصحابة حزنوا على من قتل شهيدًا وهي في بطنه، فأنزل الله تعالى: ﴿لَيۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ [المائدة: 93]، لكون الشرائع لا تلزم إلا بعد بلوغها لقوله سبحانه: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا ١٥ [الإسراء: 15] ومثله صلاة الصحابة إلى جهة المشرق، وهو قبلة اليهود والنصارى، حتى أنزل الله: ﴿قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبۡلَةٗ تَرۡضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥۗ [البقرة: 144] وأتى رجل إلى بني عبد الأشهل وهم يصلون الفجر مستقبلين المشرق، فقال: أشهد بالله لقد أنزل الله على رسوله قرآنًا، وأمر أن نستقبل القبلة. فاستداروا وهم في صلاتهم إلى جهة القبلة.

إن الله سبحانه لا يحرم شيئًا من المحرمات كالخمر والميسر ومتعة النساء إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة، ولهذا أوجب العلماء إقامة الحد على من يستحل متعة النساء لإجماع الصحابة والتابعين وسائر علماء المسلمين على تحريمها إلى يوم القيامة، ولا عبرة بشذوذ الشيعة في هذا. وما نسبوه إلى أحد الصحابة كأبيٍّ وابن مسعود من أنهما فعلا المتعة زمن النبي ﷺ فإنه - على فرض صحته - محمول على فعله قبل تحريمه. وإلا فحاشا وكلاّ أن يستبيحا فعلها بعد تحريم النبي ﷺ لها وانعقاد إجماع الصحابة عل تحريمها بالنصوص الصحيحة الصريحة. ومثله ما نسبوه إلى علي رضي الله عنه من قوله: لولا نهي عمر عن المتعة لما زنى إلا شقي. فإن هذا من الكذب المفترى صريحًا على علي وعلى عمر رضي الله عنهما بشهادة علي على ذلك، فإن له في البخاري حديثين يبين فيهما أن رسول الله ﷺ حرم المتعة والحمر الأهليّة عام خيبر، ولم يحرمها عمر من تلقاء نفسه كما يقوله أعداؤه.

فقد أخرج البيهقي عن طريق عبد الله بن لهيعة عن موسى بن أيوب عن إياس بن عامر عن علي رضي الله عنه قال: نهى رسول الله ﷺ عن المتعة. قال: وإنما كانت لمن لم يجد فلما أنزل النكاح والطلاق والعدة والميراث بين الزوج والمرأة نسخت. وأما احتجاج الشيعة بما روى مسلم عن جابر بن عبد الله: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر حتى نهى عنها عمر. فدعوى إسناد إنشاء التحريم إلى عمر هو باطل قطعًا، فما كان نهي عمر إلا بمثابة التبليغ والتنفيذ لحكم رسول الله ﷺ في تحريمها، إذ هو من واجبه، والنبي ﷺ قال: «فَلْيُبَلِّغُ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ».

ثم قوله: كنا نتمتع على عهد رسول الله وأبي بكر. فإن هذا مخالف للأحاديث الصحيحة التي رواها البخاري ومسلم عن علي وعن سلمة بن الأكوع وعن ابن عمر، ولا يبعد أن يكون حديث جابر مكذوبًا عليه أو أنه دخل فيه شيء من زيادة بعض الرواة. والصحيح هو ما رواه مسلم عن ربيع بن سبرة عن أبيه أن النبي ﷺ قال: «إِنِّي كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النِّسَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْهَا، فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا، وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا». فهذا الحديث فيه ذكر الناسخ والمنسوخ، وكون التحريم صدر عن رسول الله ﷺ عن الله ولم يقع من عمر ابتداءً إلا على سبيل التبليغ والتنفيذ عن الله سبحانه وتعالى.

ومثله الحديث الذي احتج به صاحب المقالة عن ابن مسعود رضي الله عنه وهو في الصحيحين قال: كنا نغزو مع رسول الله ﷺ ليس لنا نساء، فقلنا: يا رسول الله ألا نختصي؟. فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل. ثم قرأ ابن مسعود: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَٰتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ٨٧ [المائدة: 87].

إن من عادة صاحب المقالة أن يحتج بالمنسوخ الذي زال حكمه وبطل العمل به ويترك الناسخ المحكم الذي يجب العمل به والحكم بموجبه.

ونحن لا ننكر إباحة متعة النساء في أول الإسلام على حسب حالتهم في الجاهلية وكونهم يستأجرون المرأة في أسفارهم الطويلة بالثوب وبالقبضة من التمر وبالقبضة من الدقيق، فابن مسعود وجابر - على فرض صحة حديثيهما - يتحدثان عن حالتيهما في الجاهلية قبل تحريمها، كما يتحدث الصحابة عن شربهم الخمر قبل أن تحرم عليهم، وكما يتحدثون عن صلاتهم إلى المشرق قبل أن يحولوا إلى جهة الكعبة، وكما يتحدثون عن كون أحدهم يكلم صاحبه بحاجته وهو في صلاته زمن النبي ﷺ حتى أنزل الله ﴿وَقُومُواْ لِلَّهِ قَٰنِتِينَ ٢٣٨ أي: ساكتين. فقال لهم النبي ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أَلَّا تَتَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ». لكون أحكام الشرائع من الفرائض والمحرمات تنزل شيئًا بعد شيء، وإنما يؤخذ بالأخير فالأخير من أقوال النبي ﷺ وأفعاله وأحكامه، وملاك الأمر خواتمه، وكل الصحابة مجمعون على تحريمها كالزنا سوى ما نسب إلى ابن عباس للمضطر، وقد تحامل عليه الإمام علي رضي الله عنه باللوم والتعنيف وقال له: إنك امرؤ تائه، فرجع ابن عباس عن فتواه، والصحابة كغيرهم يخطىء أحدهم في فتواه ويصيب.

قال في الروضة الندية[335]:

ونكاح المتعة قال في الحجة: رخص فيها ﷺ أيامًا ثم نهى عنها. أما الترخيص أولاً فلمكان حاجة تدعو إليه، كما ذكره ابن عباس فيمن يقدم بلدة ليس بها أهله. أشار ابن عباس إلى أنها لم تكن يومئذ استئجارًا على مجرد البضع، بل كان ذلك مغمورًا في ضمن حاجات من باب تدبير المنزل، كيف والاستئجار على مجرد البضع انسلاخ عن الطبيعة الإنسانية ووقاحة يمجها الطبع السليم؟!

وأما النهي عنها فلارتفاع تلك الحاجة في غالب الأوقات، وأيضًا ففي جريان الرسم به اختلاط الأنساب، لأنها عند انقضاء تلك المدة تخرج من حيزه، ويكون الأمر بيدها فلا يدري ماذا تصنع؟ وضبط العمدة في النكاح الصحيح الذي بناؤه على التأبيد في غاية العسر فما ظنك بالمتعة وإهمال النكاح الصحيح المعتبر في الشرع، فإن أكثر الراغبين في النكاح إنما غالب داعيتهم قضاء شهوة الفرج، وأيضًا فإن من الأمور التي يتميز بها النكاح من السفاح التوطين على المعاونة الدائمة، وإن كان الأصل فيه قطع المنازعة فيها على أعين الناس... انتهى. وفي شرح السنة اتفق العلماء على تحريم المتعة، وهو كالإجماع بين المسلمين...

* * *

[325] المقالة صادرة عن عيسى الخاقاني. [326] ذكره صاحب الإقناع في باب التعزير من كتاب الحدود من المجلد الثالث. [327] المسألة 38 ص62 من المجلد الأول لفتاوى ابن تيمية. [328] أخرجه النسائي من حديث معقل بن يسار. [329] أخرجه أحمد من حديث عبد الله بن الزبير. [330] أخرجه النسائي وابن ماجه وأحمد من حديث محمد بن حاطب. [331] أخرجه الدارمي وابن أبي شيبة من حديث علي. [332] بل إنهم يجيزون نكاح المتعة بالمرة والمرتين ومع بنت لها عشر سنين ولو بدون إذن أبيها، قاله في النهاية من كتب الشيعة: (وبهذا فهو لا يغادر من الزنا صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها). [333] أخرجه مسلم من حديث سبرة الجهني. [334] أخرجه أبو يعلى من حديث عبد الله بن مسعود. [335] لصاحبها الإمام صديق بن حسن بن علي الحسيني القنوجى البخاري. في الجزء الأول: ص 15.