متقدم
 

زيادة الإيمان ونقصانه

وقد اتفق أهل السنة على أن الإيمان يزيد وينقص؛ أي يزيد بالطاعة، وبتدبر القرآن، وبالذكر، والموعظة، وينقص بالمعصية، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَإِذَا تُلِيَتۡ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ ٢ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ٣ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ [الأنفال: 2-4].

وقال: ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٞ فَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمۡ زَادَتۡهُ هَٰذِهِۦٓ إِيمَٰنٗاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَهُمۡ يَسۡتَبۡشِرُونَ ١٢٤ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَتۡهُمۡ رِجۡسًا إِلَىٰ رِجۡسِهِمۡ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ ١٢٥ [التوبة: 124-125].

وقد وجد الصحابة هذا الأمر في أنفسهم حتى ظنوه نفاقًا، لكون النفاق مخالفة السر للعلانية، فروى الإمام أحمد، والترمذي، وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قلنا يا رسول الله: ما لنا إذا كنا عندك رقت قلوبنا، وزهدنا في الدنيا، وكنا من أهل الآخرة، فإذا خرجنا من عندك فآنسنا أهلنا، وشممنا أولادنا، أنكرنا أنفسنا؟! فقال رسول اللهﷺ: «لو أنكم إذا خرجتم من عندي كنتم على حالكم، لزارتكم الملائكة في مجالسكم وطرقكم، ولو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، ثم يستغفرون، فيغفر لهم».

وجاء حنظلة إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، نافق حنظلة. قال: «وما ذاك»، فقال: نكون عندك، تذكرنا بالجنة والنار كأنهما رأي عين، فإذا خرجنا من عندك، فآنسنا أهلنا، وشممنا أولادنا، نسينا كثيرًا مما تقول! فقال: «أما إنكم لو تكونون على الحال التي تقومون بها من عندي لزارتكم الملائكة في مجالسكم وطرقكم، ولكن يا حنظلة، ساعة وساعة» رواه مسلم في صحيحه.

ثم إن الناس يتفاوتون في الإيمان، وفي الثبات عليه، وحسن الاستقامة فيه، حتى يكون منهم من إيمانه كالجبل في الثبات والرسوخ، كما قيل:
تزول الجبال الراسيات وقلبه
على العهد لا يلوي ولا يتلعثم
﴿يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ ٢٧ [إبراهيم: 27].

والقول الثابت هو الإيمان الراسخ المستلزم للعمل الصالح.

ومن الناس من إيمانه مثقال ذرة، ينقدح الشك في دينه بأول عارض من شبهة، فهم الذين عناهم القرآن بقوله: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعۡبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرۡفٖۖ فَإِنۡ أَصَابَهُۥ خَيۡرٌ ٱطۡمَأَنَّ بِهِۦۖ وَإِنۡ أَصَابَتۡهُ فِتۡنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ خَسِرَ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةَۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ ١١ [الحج: 11]، نزلت في الأعراب، كان أحدهم إذا دخل في الإسلام، فإن ولد له ولد ونتجت إبله وخيله، ونزل به الغيث، قال: هذا دين طيب، واطمأن به، وإن أصيب بمرض، أو مات أحد من أهله، أو من إبله، أو أصيب الناس بالجدب، قال: هذا دين سيِّئ، وتشاءم به وارتد عنه، لكونه لم تدخل بشاشة الإيمان في قلبه، ولم يذق حلاوته، فسرعان ما ارتد عنه سخطة له.

وفي الحديث: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ وَمَعَهُ دِينُهُ، فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَمَا مَعَهُ مِنْ دِينِهِ شَيْءٌ»[74].

وأخبر النبي ﷺ بأنها ستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح فيها الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا[75]، ولن ننسى النص الثابت في كفر تارك الصلاة، فروى مسلم عن جابر، أن النبي ﷺ قال: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ والْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ».

وعن بريدة، أن النبي ﷺ قال: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وصححه النسائي، وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه وقال: صحيح ولا نعلم له علة.

ويدل له ما رواه الترمذي عن معاذ أن النبي ﷺ قال: «رَأْسُ الْأَمْرِ: الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ: الصَّلَاةُ».

وعمود الشيء هو: قوامه الذي يستقيم به، ويسقط بتركه، ولا ينبغي أن ننخدع بمن قال: كفر دون كفر، فإن هذا من تحريف الكلم عن مواضعه، إذ هذا من الأمر الصريح الذي لا يقبل التأويل، ومتى أجمع العلماء على كفر من استباح ترك الصلاة، أو الزكاة، أو الصيام بلا خلاف، فإن العارف بوجوبها، ثم يصر مستمرًّا على تركها، أشد كفرًا وعنادًا، إذ كفره من جنس كفر إبليس، وكفر اليهود.

مع العلم أنه لا يصر مستكبرًا عن فعلها، مؤمن بوجوبها أبدًا، ولهذا كان السلف الصالح يسمونها: الميزان، فإذا أرادوا أن يبحثوا عن دين إنسان، سألوا عن صلاته، فإن حُدثوا بأنه ذو حظ من المحافظة على الصلاة في الجماعات، علموا بأنه ذو دين، وشهدوا له بموجبه، وإن حدثوا بأنه لا حظ له من الصلاة، علموا بأنه لا دين له ومن لا دين له جدير بكل شر، بعيد عن كل خير، وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِۗ وَنُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ١١ [التوبة: 11].
خسـر الذي ترك الصلاة وخابا
وأبى معادًا صالحًا ومثابا
إن كان يجحدها فحسبك أنه
أضحى بربك كافرًا مرتابا
أو كان يتركها لنوع تكاسل
غطى على وجه الصواب حجابا
فالشافعي ومالك رأيا له
إن لم يتب حد الحسام عقابا
قال محمد بن نصر المروزي: سمعت إسحاق يقول: صح عن النبي ﷺ: «أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ كَافِرٌ».

وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي ﷺ أن تارك الصلاة عمدًا من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر.

وقال الحافظ عبد العظيم المنذري: قد ذهب جماعة من الصحابة ومن بعدهم إلى تكفير من ترك الصلاة متعمدًا تركها حتى يخرج جميع وقتها.

منهم -أي من الصحابة- عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله ابن عباس، ومعاذ بن جبل، وجابر بن عبد الله، وأبو الدرداء.

ومن غير الصحابة: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن المبارك، والنخعي، والحكم بن عيينة، وأيوب السختياني، وأبو داود الطيالسي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، وغيرهم. ذكره المنذري في الترهيب عن ترك الصلاة.

قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: لا يختلف المسلمون، أن ترك الصلاة المفروضة عمدًا من أعظم الذنوب، وأكبر الكبائر، وأن إثمه عند الله أعظم من إثم قتل النفس، وأخذ الأموال، ومن إثم الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وأنه متعرّض لسخط الله وخزيه، وعقوبته في الدنيا والآخرة.

قال: وأفتى سفيان الثوري، وأبو عمرو الأوزاعي، وعبد الله بن المبارك، وحماد بن زيد، ووكيع بن الجراح، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد، وإسحاق ابن راهويه، وأصحابهم: بأنه يقتل متى تركها عمدًا من غير عذر، ودُعي إليها وقال: لا أصلي.... انتهى من كتاب الصلاة.

وقد ترجم على معناه البخاري في صحيحه، وقال: باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر. ثم ذكر النفاق، وكونه لا يخافه إلا مؤمن، وما أمنه إلا منافق.

[74] أخرجه النسائي والطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن مسعود. [75] من حديث رواه مسلم عن أبي هريرة بلفظ: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمناً، ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً، ويصبح كافراً، يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا» . وكذا الإمام أحمد في مسنده.