متقدم
 

[ما الفائدة من علم الفلك وغيره إذا لم يكن للناس فيه منفعة؟]

ثم يقال: ما الفائدة في العلم بهذه النجوم والشموس والمجرات الخفية التي لا نراها وليست بزينة للسماء ولا علامات يهتدى بها وأنت تفسر قوله تعالى: ﴿وَعَلَٰمَٰتٖۚ وَبِٱلنَّجۡمِ هُمۡ يَهۡتَدُونَ ١٦ [النحل: 16]. فاكتشاف هذه الخفيات والغيبيات من النجوم والشموس والمجرات التي لا ترى إلا بالمناظير المكبرة، فإن تكلف العلم بها لن يعود على الناس بمنفعة، وقد خلق الله النجوم زينة للسماء ورجومًا للشياطين وعلامات يهتدى بها. فحسبنا منها ما نشاهد بأعيننا، وما عرفناه لمواقيت زماننا من نجوم الشتاء والصيف والربيع والخريف، وما يصلح للزراعة وغرس الأشجار، وما يستدعينا إلى التفكر والاعتبار في صنع الله الخالق الجبار.

يقول الله سبحانه: ﴿إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٩٠ ٱلَّذِينَ يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ١٩١ [آل عمران: 190-191].

وقوله: ﴿تَبَارَكَ ٱلَّذِي جَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجٗا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَٰجٗا وَقَمَرٗا مُّنِيرٗا ٦١ [الفرقان: 61].

وقوله: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُغۡشِي ٱلَّيۡلَ ٱلنَّهَارَ يَطۡلُبُهُۥ حَثِيثٗا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتِۢ بِأَمۡرِهِۦٓۗ أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٥٤ [الأعراف: 54].

ومن شعر أبي العلاء المعري:
عجبي للطبيب يلحد في الخا
لق من بعد درسه التـشريحا
ولقد علم المنجم ما يو
جب للدين أن يكون صحيحًا
من نجوم نارية ونجوم
ناسبت تربة وماء وريحا
وإن تفسير هذا الكاتب لهذه الآية بالاكتشافات الخفية من الشموس والنجوم والمجرات الغيبية التي لا تدركها الأبصار هو بعيد جدًّا عن معاني القرآن وتحريف له عن المعنى المراد منه.

فإن ما لا يدركه كل الناس بأبصارهم ليس بعلامات لهم ولا زينة للسماء ولا بالنجوم التي يهتدون بها في ظلمات البر والبحر.. والله سبحانه لا يكلف عباده في البحث عما خفي عليهم من أسرار النجوم والمجرات التي لا يشاهدونها إذ هذا من تكليف ما لا يستطاع والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها.

فالاستقصاء في اكتشافها غير نافع للناس، وعدم اكتشافها غير ضار إذ هي من الأشياء التي العلم بها لا ينفع والجهل بها لا يضر.

فالخير كل الخير في اكتشاف الأرض التي خلقها الله لعباده وأودع فيها جميع ما يحتاجون إليه من الكنوز والنفائس، ومن كل زوج بهيج ومن كل شيء موزون. يقول الله سبحانه: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ مِن فَوۡقِهَا وَبَٰرَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقۡوَٰتَهَا [فصلت: 10].

فهذه البركة التي أودعها سبحانه في أرضه ولا يزال الناس يتطلبونها بالكشف والتفتيش من لدن خلق الله آدم إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة. فتحصلوا على ما توصلوا إليه من خزائن الأرض وبركاتها التي خلقها الله يوم خلق السموات والأرض وأودعها في مظانها إلى وقت حاجة الناس إليها، والمكتشفون يعترفون بأن ما خفي عليهم من أسرار الكون وخزائن الأرض أكثر وأكبر مما اكتشفوه، وأنهم كلما أوغلوا في كشف شيء تبين لهم مما خفي عليهم أكثر مما يحتسبون.

وما أحسن ما قال الشافعي في هذا المعنى:
كلما أدبني الدهـ
ـر أراني نقص عقلي
وكلما ازددت علمًا
زادني علمًا بجهلي
فهذا هو الكشف الذي تعم منفعته وتحسن عاقبته ويتمتعون بما خلق لهم ربهم من أزواج ومن كل شيء موزون.

يقول الله سبحانه: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا [البقرة: 29].

وقال: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَيۡهِ ٱلنُّشُورُ ١٥ [الملك: 15].

فكل ما يتمتع به الناس من الذهب والفضة والحديد والنحاس والخشب والرصاص والمعادن الجامدة والسائلة والبترول والأدوية والحبوب والثمار والفواكه والحيوانات وسائر أنواع الخيرات، كل هذه أوجدها الله في أرضه ليتنعم بها عباده ويتمتعوا بها إلى ما هو خير منها في آخرتهم.

﴿فَٱبۡتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزۡقَ وَٱعۡبُدُوهُ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥٓۖ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ ١٧ [العنكبوت: 17].

﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبِيۖ وَمَن يَحۡلِلۡ عَلَيۡهِ غَضَبِي فَقَدۡ هَوَىٰ ٨١ [طه: 81].

هذا... ولعل ما بقي من خزائن الأرض أكثر مما اكتشفوا بأضعاف مضاعفة.

أما اكتشاف النجوم والشموس والمجرات الخفية وسائر الأفلاك الغيبية التي لا يشاهدها الناس بأبصارهم ولا يصل إليهم شيء من نفعها فإنها من الأشياء التي العلم بها لا ينفع والجهل بها لا يضر.. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الشیخ

عبدالله بن زید آل محمود

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية