[الاكتشافات العلمية الحديثة من نعم الله على عباده]
هذه كلها من النعم التي أكرم الله بها عباده والتي توجب عليهم الشكر والطاعة لله رب العالمين لدخولها في عموم قوله سبحانه: ﴿۞وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا ٧٠﴾ [الإسراء: 70].
غير أنه بمقتضى الاختبار وعلم اليقين نجد الناس وخاصة هؤلاء المكتشفين يرجعون القهقرى في الأخلاق والفضائل والدين على نسبة عكسية مطردة في ارتقائهم في الاختراعات والصنائع والكشوف وسائر العلوم المادية، فهم يزدادون إسرافًا في الرذائل، وجرأة على ارتكاب فنون الجرائم، فضلاً عن ترك الفرائض والفضائل، حتى كاد الكثير منهم يفضل الإباحية المطلقة على كل ما يقيد الشهوة من عقل وخلق وآداب ودين، ويحبون أن يعيشوا عيش البهائم، ليس عليهم أمر ولا نهي ولا حلال ولا حرام ولا صلاة ولا صيام ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوٗى لَّهُمۡ ١٢﴾ [محمد: 12].
وقد دعا الله عباده إلى النظر والاعتبار في مخلوقاته ليزدادوا بذلك إيمانًا ويقينًا وعبادة، يقول الله سبحانه: ﴿إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٩٠ ٱلَّذِينَ يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ١٩١﴾ [آل عمران: 190-191].
وقال سبحانه: ﴿قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَا تُغۡنِي ٱلۡأٓيَٰتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوۡمٖ لَّا يُؤۡمِنُونَ ١٠١﴾ [يونس: 101] وصدق الله ورسوله فإن الآيات والعبر والتفكر المعتبر إنما تستفيد به النفوس الخيرة النيرة المستعدة لقبول الحق والتوجه إلى طلبه واتباعه.
أما النفوس الشريرة فإنها تزداد به طغيانًا وكفرًا وعتوًّا ونفورًا، فهي تحيل كل شيء إلى الطبيعة وينسبون آيات الله ومخلوقاته في أرضه وسماواته إلى الطبيعة، بمعنى أنها الموجدة لها دون الله عز وجل، ويسميهم العلماء بالطبعيين فهؤلاء لا تزيدهم الآيات والعبر إلا نفورًا واستكبارًا وجحودًا وعنادًا ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسۡتَيۡقَنَتۡهَآ أَنفُسُهُمۡ ظُلۡمٗا وَعُلُوّٗاۚ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ١٤﴾ [النمل: 14] ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتۡ عَلَيۡهِمۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ ٩٦ وَلَوۡ جَآءَتۡهُمۡ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِيمَ ٩٧﴾ [يونس: 96-97].
أقلقتم السابح في لجة
أطرتم في الجو ذات الجناح
هذا وأنتم عرضة للفنا
فكيف لو عمرتم يا وقاح
مع العلم أن القرآن يشتمل على بيان كثير من آيات الله سبحانه في الآفاق وفي الأنفس كما قال سبحانه: ﴿سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ﴾ [فصلت: 53].
فيذكر سبحانه جميع أنواع المخلوقات من الجبال والجماد والنباتات والحيوانات والناس، ويصف سبحانه خلق السماوات وشمسها وقمرها ونجومها والأرض والهواء والسحاب وخلق الماء فيه والبحار والأنهار، وقد عجزت هذه القرون التي ارتقت فيها جميع العلوم والفنون عن أن يغيروا بناء آية من آيات الله أو ينقضوا حكمًا من أحكامه.
والحاصل أنه لا يجوز تحريف القرآن الكريم وصرفه عن معانيه المتبادرة إلى الأذهان لأجل تطبيقه على العلوم والفنون والكشوف والصنائع وسائر ما يتجدد بتجدد الزمان، فقد اتفق المسلمون على الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ وهدي سلف الإسلام الصالحين، وعدم الاعتداد بإسلام من لا يهتدي بالكتاب والسنة ولا بمن يحرف القرآن بتفسير يخالف قواعد اللغة وضروريات الدين.
وقد عمل بعض المفسرين من المسلمين المتأخرين عمله في تطبيق الآيات القرآنية على الكشوفات والمخترعات العصرية وسائر ما يتجدد من أمور الحياة لمناسبة بعيدة. كتفسير الجواهر للشيخ طنطاوي جوهري ويقع في ثلاثة عشر مجلدًا. وهو كتاب حاوٍ لسائر العلوم والفنون العصرية، وقد أدرك العلماء عليه تكلفه في صرف الآيات القرآنية عن المعنى المراد منها ويغفر الله له، وقد سئل عنه صاحب المنار.. فأجاب قائلاً: تفسير الجواهر للشيخ طنطاوي فيه كل شيء إلا التفسير.
ورأيت رسالة مختصرة للشيخ محمود شكري عنوانها ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتاب في الرد على المنطقيين ضمنه كثيرًا من البحوث والكشوف والعلوم الكونية ويقع في مجلد. وله رسالة سماها عرش الرحمن تكلم فيها عن الأفلاك وقولهم: إنها تسعة. وقال: إنه ليس لهم دليل لا عقلي ولا نقلي في حصر هذا العدد، بل يجوز أن تكون أكثر من ذلك، وقد يتفرع عن الفلك الواحد عدة أفلاك.
وقوله تعالى: ﴿وَكُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ ٤٠﴾ [يس: 40] يقتضى أنها في فلك مستدير كما قال ابن عباس: في فلكة كفلكة المغزل.
قال: والفلكيون يستدلون بما يشاهدونه من الحسيات ولا يعلمون ما وراء ذلك مثل علمهم أن البخار المتصاعد من البحار ينعقد سحابًا وأن السحاب إذا اصطك بعضه ببعض حدث عن اصطكاكه صوت الرعد وسنا البرق. وهو قول باطل لم يجدوا ما يعللون به صوت الرعد.
ثم تناول كلامه وجه الأرض التي وضعها الله للأنام وأرساها بالجبال وهو الذي عليه الناس والبهائم والشجر والنبات والجبال والأنهار الجارية، قال: فأما الناحية الأخرى من الأرض فالبحر محيط بها وليس هناك شيء من الآدميين فكما أن جوانب الأرض التي عليها الناس فليس بعضها فوق بعض ولا تحته. فكذلك من يكون على الأرض من الناس والنبات لا يقال: إنهم تحت أولئك ولا أن أولئك تحتهم. وإنما هذا خيال يتخيله الإنسان وهو تحت إضافي كما لو كانت نملة تمشي تحت سقف فنحن نرى السقف فوقها وهي تراه تحتها وكذلك يتوهم الإنسان إذا كان في إحدى جانبي الأرض أن الجانب الآخر تحته، انتهى.
وكل ما قاله شيخ الإسلام في الأرض فهو مبني على كونها كرة كما جزم به علماء الهيئة وبعض المفسرين أخذًا من قوله سبحانه: ﴿يُكَوِّرُ ٱلَّيۡلَ عَلَى ٱلنَّهَارِ﴾ [الزمر: 5] وقوله: ﴿يُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِ﴾ [فاطر: 13].
وأقول: إن علماء الكون في هذا الزمان قد خالفوا الفلكيين الأوليين، فأثبتوا كون الرعد والبرق يحدث من اشتعال الكهربائية باحتكاك الإيجابي منها بالسلبي فيحدث صوت الرعد عند ذلك كصوت المدفع عند انطلاقه. والله أعلم.
وقد ينتحل المرء في نفسه ما يقلده عن غيره فيظنه حقًّا وكشفًا صحيحًا وهو باطل في نفس الأمر والواقع.
وللعلامة ابن القيم رحمه الله كلام طويل في مفتاح دار السعادة يتعلق بالبحوث والكشوف وعلم الكون من خلق السماء والشمس والقمر والنجوم والجبال والبحار والسحاب وخلق الماء فيه وسائر ما يتعلق بعلم الآفاق والأنفس لا يوجد له نظير.
وبما أن الكاتب قد أنحى بالملام وتوجيه المذام على ابن كثير ونسبه في تفسيره إلى التقصير وأنه كغيره من المفسرين يفسر الآيات بالإسرائيليات وهذا كذب مفترى. فإن جميع العلماء يعرفون طريقة ابن كثير في التفسير وأنه يفسر الآيات بالآيات ويفسرها بالأحاديث وبأقوال الصحابة والتابعين، ولا نعلم له آية تتعلق بالعقائد والعبادات والأحكام وأمور الحلال والحرام قد بنى قواعد تفسيرها على الإسرائيليات، وإنما يذكر حديث بني إسرائيل إذا ذكره في سبيل الاعتضاد لا الاعتماد عندما يراه موافقًا للقرآن. أما إذا خالف القرآن فإنه لا يذكره قطعًا وعنده رخصة في ذلك وهو قول النبي ﷺ: «حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ولاَ حَرَجَ»[207].
[207] أخرجه أبو داود وأحمد من حديث أبي هريرة.