متقدم
 

[القرآن أكثره آيات محكمات جليات]

وقال تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ [النحل: 44]. فالقرآن أكثره آيات محكمات ظاهرات جليات يدل لفظها على معناها، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر يخالفها. وقد اشتمل القرآن على العلوم الإلهية، وأصول العقائد الدينية، وتوحيد الأسماء والصفات، وأحكام العبادات، وحل المشكلات، ودحض الشبهات، وتحقيق البعث بعد الوفاة للجزاء على الأعمال، والإيمان بوجوب الرب والملائكة والجنة والنار، وقوانين الفضائل والآداب، وقواعد التشريع السياسي والمدني والاجتماعي، وكونه هداية عامة للبشر كلهم.

فهو رحمة للعالمين، وهو معجزة الدهور، وآية العصور، وسفر السعادة، ودستور العدالة، وقانون الفضيلة، والواقي من الوقوع في الرذيلة. يوازن بين ما كان عليه المسلمون السابقون من السيادة والعزة والقوة لما كانوا مؤمنين به متبعين لأمره ونهيه ﴿وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ٤٠ ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ٤١ [الحج: 40-41].

وبين ما حل بخلفهم في هذا العصر من الضعف والعجز والشقاق لما ضعف عملهم به وساء اعتقادهم فيه. وبيان موافقته لصالح البشر كلهم في علاج عللهم وإصلاح مجتمعهم بانطباق عقائده وشرائعه على العقل والفطرة، وجلب المصلحة ودرء المفسدة. وهذه هي الحكمة التي أنزل الله بها كتبه وأرسل بها رسله ﴿مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِ [النساء: 165].

فهو صالح لكل زمان ومكان، قد نظم أحوال الناس أحسن نظام بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان... فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه وانقادوا لحكمه وتنظيمه ووقفوا عند حدوده ومراسيمه لصاروا به سعداء.

وليس من شأن القرآن الكريم ولا من شأن علماء المسلمين المفسرين بأن يبينوا للناس ما يصلون إليه بكسبهم وأفكارهم وتجاربهم من كشوفهم واختراعاتهم وصنائعهم وسائر ما يدركونه من الأشياء الغامضة والنجوم الخفية وغيرها.

لأن هذه من شأن الباحثين في علوم الطبيعة والفلك وسائر الأمور الكونية، ولا تعلق لها بأمور الدين ولا القرآن المبين. والناس منذ خلق الله آدم إلى يومنا هذا وهم يستخدمون أفكارهم وتجاربهم في تطوير المخترعات من الصناعات وكشف غوامض الآيات والخفيات.

وقد أخبر الله سبحانه عن مبدأ آدم وحواء وأنهما بداعي الحاجة عملا لهما لباسًا من ورق الشجر يستر سوأتهما -أي ثيابًا من الخوص تستر عوراتهما- وهذه هي مبدأ الصنائع في الدنيا وخاصة الملبوسات التي تستر بها العورات، كما أن الأواني التي يطبخون فيها ويأكلون ويشربون فيها هي من الطين، فهذه من أمور الحياة التي تدعو إليها الحاجات إذ الحاجة هي أم الاختراع. وتدخل في عموم قوله ﷺ: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأُمُوْرِ دُنْيَاكُمْ»[206]. وفي عموم قوله تعالى: ﴿وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ وَمَا تَعۡمَلُونَ ٩٦ [الصافات: 96] وقوله سبحانه: ﴿يَعۡلَمُونَ ظَٰهِرٗا مِّنَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ عَنِ ٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ غَٰفِلُونَ ٧ [الروم: 7].

ونحن لا نكابر في إنكار ما أدركه هؤلاء من علم الكون وما اكتشفوه من الأسرار والآيات، وما عسى أن يكتشفوا فيما هو آت من كل ما يعد من خوارق العادات، ومن كل ما يؤهلهم للوصول إلى الغايات الداخلة في حدود مقدرتهم، فقد رأى الناس عجائب ما صنعوه من الطائرات الهوائية تجارية وحربية حيث تحلق في الأجواء حتى تتجاوز المحيط الهوائي، والغواصات البحرية التي تغوص في أقصى قعر البحار بحيث يعلوها بمن فيها الماء والأمواج، ويتخاطبون من أقصى البقاع بحيث يتحدث أهل المشرق مع أهل المغرب.

وفي بلدان أوربا وأمريكا يتكلم مع من في نجد والخليج والحجاز، بحيث يكلم أحدهما صاحبه بكلام جلي غير خفي وبينهما الوديان الساحقة والجبال الشاهقة والبحار المضطربة والسحب المتقصفة والأهوية المزعجة، كل هذه لم تكن حائلة دون سماع أحدهما لخطاب الآخر. فلو تحدث متحدث بذلك قبل وقوعه وقبل وقوف جميع الناس على حقيقته لأنكروه أشد الإنكار لاستبعادهم إمكانيته وعدم اتساع عقولهم لقبوله.

وحسبك ما في الكهرباء من الأسرار وعموم المنافع الكبار، وكل من هذه من الحقائق التي لا يسمو إلى جوها غبار، فلا مجال للشك فيها، وهي من مكملات الكرامة والراحة والرفاهية للناس، توجب الشكر والعبادة لله رب العالمين الذي خلق موادها يوم خلق السموات والأرض وأودعها في مظانها إلى وقت حاجة الناس لها، والمكتشفون يعترفون بأن ما خفي عليهم من أسرار الكون أكثر مما يعرفون، وأنهم كلما أوغلوا في كشف شيء تبين لهم من جهلهم ما لم يكونوا يحتسبون.. ومن طبيعة النفوس التطلع إلى كل مستور عنها من كل ما تظنه في متناولها.

[206] أخرجه مسلم من حديث أنس وعائشة.