الإصلاح والتجديد بالعلم والعدل والدين
سألني غير واحد عن حديث: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا» [193].
فيسألون هل هذا حديث؟ وهل هو صحيح أو غير صحيح؟
فأجبتهم بأن هذا الحديث رواه أبو داود وصححه الحافظ العراقي والعلامة السخاوي..
وأقول: إن الإصلاح والتجديد بالعلم والعدل والدين فضل من الله يوفقه له من يختاره الله من صفوة عباده المؤمنين، من حاكم وعالم ومحتسب لفعل الخير والصلاح، والأمر به والدعوة إليه في أي زمان وفي أي مكان، أشبه الغيث النازل من السماء على أي مكان وفي كل زمان. وخير الناس أنفعهم للناس، وخير الناس من يرجى خيره ويؤمن شره، والخير خزائن والناس لها مفاتيح، فمن الناس من يكون مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر.
والله يقول: ﴿وَمِمَّنۡ خَلَقۡنَآ أُمَّةٞ يَهۡدُونَ بِٱلۡحَقِّ وَبِهِۦ يَعۡدِلُونَ ١٨١﴾ [الأعراف: 181] فهذا الحق والحكم به هو من الإصلاح والتجديد لما اندرس من الدين، فقد يكون في رأس القرن أو في وسطه أو في آخره؛ فليس لرأس القرن مزية على غيره من سائر الأعوام والشهور والأيام..
لكنه توجد نصوص صحيحة صريحة مثل قول النبي ﷺ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةٌ، لَا يَضُرُّهُمُ مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»[194].
فالإصلاح والتجديد يكون بسبب من يصلحه الله من عالم، وحاكم، في أي شهر، وفي أي سنة كما يدل له حديث: «لا زال الله يغرس لهذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته، ينفون عن الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين»[195].
ومثله ما رواه الترمذي عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ».
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: هذا حديث حسن، له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة، قال: وصححه ابن حبان من حديث عمار.
فكل هذه الآثار تدل دلالة واضحة على تقلب الأحوال وتغير الأزمان، وأن الدين معها محفوظ عن الزوال، لا يزال باقيًا دائمًا يتقلب بين الضعف والنشاط، حتى تقوم الساعة، فمن ظن أن الله يُديل الباطل على الحق إدالة مستمرة، أو أن الأشرار تتسلط على الأخيار دائمًا، فقد ظن بالله ظن السوء.
ولكن الدنيا دار ابتلاء وامتحان، ودار جدال وجهاد، فالمصارعة فيها لا تزال قائمة بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين العلم والجهل، والعاقبة للتقوى.
والدين منصور وممتحن فلا
تعجب فهذي سنة الرحمن
﴿وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖۗ﴾ [محمد: 4].
﴿وَلَنَبۡلُوَنَّكُمۡ حَتَّىٰ نَعۡلَمَ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَنَبۡلُوَاْ أَخۡبَارَكُمۡ ٣١﴾ [محمد:31].
إن الله سبحانه قادر على أن يخلق في كل قرن عشرات، أو مئات، من العدول المهتدين، ومن المصلحين، الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويهدون إلى الحق والعدل، ويهدون إلى صراط مستقيم، كما فعل ذلك من قبل، وسيفعله من بعد إن شاء الله، كما قال علي رضي الله عنه: لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، لكيلا تبطل حجج الله على عباده، أولئك الأقلون عددًا، الأعظمون عند الله قدرًا، بهم يدفع الله عن حججه حتى يؤدوها إلى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم [196].
فلا حاجة للمسلمين في أن يهربوا من واقعهم، ويتركوا واجبهم، لانتظار مهدي يجدد لهم دينهم، ويبسط العدل بينهم، فيركنوا إلى الخيال والمحالات، ويستسلموا للأوهام والخرافات.
ثم يفرض عليهم علماؤهم التحجر الفكري، والجمود الاجتماعي، على اعتقاد ما تربوا عليه في صغرهم، وما تلقوه عن آبائهم ومشايخهم، أو على رأي عالم، أو فقيه يوجب الوقوف على رأي مذهبه، وعدم الخروج عنه وعلى أثره يوجب عليهم الإيمان بشخص غائب، هو من سائر البشر يأتي في آخر الزمان، فينقذ الناس من الظلم والطغيان.
إن من واجب المسلمين في كل زمان ومكان؛ أن يتكاتفوا على البر والتقوى، ويتناهوا عن الإثم والعدوان، وأن ينصحوا من ولاه الله أمرهم بالحكمة والموعظة الحسنة، دون خروج عليه، ودون محاولة قلب نظام الحكم فإن هذا أساس كل فتنة وشر.
لقد رأينا في هذا الزمان من يدعي الإسلام، ﴿وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ﴾ [البقرة: 205]، فيكثرمن قتل الأبرياء، وسلب أموال الأغنياء، ويهدم العمران ومشيد البنيان، ويعطل المصانع، ويحاول قلب نظام الحكم، كله باسم الإسلام وباسم الإصلاح والعدل، والله يعلم أن عملهم غاية في الفساد والجور والظلم، والله لا يحب المفسدين.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين: إن النبي ﷺ شرع لأمته إنكار المنكر، ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله.
فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر، وأكبر منه، وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه، ويمقت أهله، مثل الإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر.
وقد استأذن الصحابة رسول الله ﷺ في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: «لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ»[197].
وقال: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ ما يَكْرَهُ فَلْيَصْبِرْ، وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا عَنْ طَاعَةٍ»[198].
قال: ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الصغار والكبار، وأنها إنما حدثت عن عدم الصبر على منكر قد طلبوا إزالته، فتولد عنه ما هو أكبر منه، إذ كان رسول الله يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، فالمنكر متى زال وخلفه ضده من المعروف؛ وجب إنكاره، ومتى خلفه ما هو أنكر وأكبر منه حرم إنكاره.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: مررت أنا وبعض أصحابي زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي فأنكرت عليه وقلت: إنما حرم الله الخمر لكونها تصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسبي الذرية، وأخذ الأموال، فدعهم يشتغلون عن الناس بخمرهم.
والمقصود أن أحق من يتصف بالإصلاح والتجديد، هم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، و الذين يبلغون عن الله وحيه، وسنة رسوله، فيعلمونها الناس وينشرون فضل العدل والتوحيد، والمحافظة على الفرائض، والنهي عن المنكرات والرذائل، وينهون عن الشرك والبدع، والمذاهب الهدامة والاعتقادات السيئة التي تزيغ الناس عن معتقدهم الصحيح، ثم تقودهم إلى الإلحاد والتعطيل، والزيغ عن سواء السبيل، فهم ﴿ثُلَّةٞ مِّنَ ٱلۡأَوَّلِينَ ١٣ وَقَلِيلٞ مِّنَ ٱلۡأٓخِرِينَ ١٤﴾ [الواقعة: 13-14].
والحمد لله الذي جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم والتقى، يدعون من ضل عن الهدى، ويبصِّرون بنور الله أهل العمى، يجددون ما اندرس من السنة، ويحيون ما أماته الناس منها، فهم أنفع الناس للناس، ولولا العلماء لكان الناس بمثابة البهائم، وكم مضى من المصلحين المجددين، ما لا يعد ولا يحصى، وسيأتي من بعدهم من يخلفهم على علمهم وعملهم، ويحمل راية تبليغهم وعدلهم، «وَمَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» [199].
أما الحكام فإنهم دون مرتبتهم في العلم والعمل، ومعرفة الحق بدليله، فمتى وفق الحاكم للإحسان والعدل، وتنفيذ الحق وتحكيم الشرع، ونصر المظلوم، وردع الظالم، واستيفاء الحق منه، فإن هذا نعمة من الله، وفضل على العباد والبلاد.
وقد قيل: الحاكم ظل الله في أرضه، يأوي إليه كل مظلوم من عباده ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ﴾ [البقرة: 251].
إذ العدل قوام الدنيا والدين، وصلاح المخلوقين، وله وضعت الموازين، فمتى اتصف به الحاكم ألزم النفوس طاعته، والقلوب محبته، وأشرق بنور عدله زمانه، وكثر على عدوه أنصاره وأعوانه، وما أحسن ما قيل:
لكل ولاية لا بد عزل
وصرف الدهر عقد ثم حل
وأحسن سيرة تبقى لوال
مدى الأيام إحسان وعدل
إنه من المعلوم بمقتضى النصوص، وبالواقع المحسوس، أن للدين إقبالاً وإدبارًا، وقوة و ضعفًا.
فمن إقبال الدين: أن تفقه القبيلة بأسرها، حتى لا يكون فيها إلا الفاسق، أو الفاسقان، فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما قُمعا.
وإن من إدبار الدين: أن تجفو القبيلة عنه بأسرها، وتنحل عن عزائم دينها وتفسق عن أمر ربها، حتى لا يكون فيها إلا الفقيه، أو الفقيهان، فهما مقهوران ذليلان، ومن المعلوم أن الناس يزدادون إسرافًا في الرذائل، وفي ترك الفرائض والفضائل عامًا بعد عام، والدين معها محفوظ عن الزوال، ويبقى فضل الجهاد فيه، والعمل والتمسك به، والصبر على الأذى فيه.
وإن صفوة الأمة هم: أصحاب النبي ﷺ الذين هم أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا؛ قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، ثم: التابعون لهم بإحسان، الذين تلقوا العلم عنهم، فهم من خير الناس بعدهم، لما في الصحيحين عن عمران بن حصين، أن النبي ﷺ قال: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، -لَا أَدْرِي أَذَكَرَهُمْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا- ثُمَّ يَجِيْءُ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، يَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ» أي: من أجل غرقهم في الترف وسائر الأكل المسمن للجسم. وفي رواية: «تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ»، مما يدل على فساد دينهم ويدل له ما روى البخاري في صحيحه، أن النبي ﷺ قال: «يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ، الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ، ثُمَّ تَبْقَى حُفَالَةٌ -وَفِي رِوَايَةٍ- حُثَالَةٌ كَحُثَالَةِ الشَّعِيرِ لاَ يُبَالِيهِمُ اللَّهُ بَالَةً»[200].
ومن المعلوم أنه متى ذهب الصالحون المصلحون، الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، فإنه يخلو الجو للفاسدين الفاسقين، فيبيضون ويصفرون.
ومن أشراط الساعة: أن يذهب العلم، ويفيض الجهل، كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو، أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْزِعُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ، وَلَكِنْ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» ولهذا حث النبي ﷺ على التمسك بسنته عند فساد أمته، وقال في حديث العرباض بن سارية: «إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ». رواه أبو داود والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان وقال الترمذي: حسن صحيح؛ ويدل له ما رواه ابن عباس أن النبي ﷺ قال: «الْمُتَمَسِّكُ بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي لَهُ أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ» رواه البيهقي والطبراني.
وقد سماها النبي ﷺ بأيام الصبر، وقال: «إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الْقَابِضُ فِيْهِنَّ عَلَى دِيْنِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيْهِنَّ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» قالوا: كيف يكون له أجر خمسين منا؟ قال: «إنكم تجدون على الحق أعوانًا، وهم لا يجدون» رواه الترمذي عن أبي ثعلبة الخشني.
إن أكثر الناس في هذا الزمان يتسمون بالإسلام، وهم منه بعداء، وينتحلون بأنهم من أهله، وهم له أعداء، يعادون بنيه، ويقوضون مبانيه، لم يبق معهم منه سوى محض التسمي به، والانتساب إليه، بدون عمل به، ولا انقياد لحكمه، فترى أكثرهم لا يصلون الصلوات الخمس المفروضة، ولا يؤدون الزكاة الواجبة، ولا يصومون رمضان، ويستحلون الربا، وشرب الخمر، فهم في جانب والإسلام الصحيح في جانب، فهؤلاء هم أكثر الناس، والله يقول: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣﴾ [يوسف: 103] وقد قيل: الركب كثير والحاج قليل.
ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم
الله يعلم أني لم أقل فندا
إني لأفتح عيني حين أفتحها
على كثير ولكن لا أرى أحدا
يقول بعض الناس: إن الدين إذا فسد العمل به صار آلة ضعف وانحطاطًا. ونحن نقول: إنه متى فسد العمل بالدين فلا دين، كما أنها متى فسدت الصلاة فلا صلاة، ومتى فسد الصيام فلا صيام، لكون الدين عند الإطلاق ينصرف إلى الدين الصحيح الذي كان عليه رسول الله وأصحابه، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً» قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: «مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»[201].
إن الصنيعة لا تعد صنيعة
حتى يصاب بها طريق المصنع
فمتى أفسد الناس الدين بترك أوامره، وارتكاب نواهيه، قد خرجوا عن حده، واستبدلوا به ضده، وكانوا بهذا الانقلاب جديرين بالضعف والانحطاط، لأن ذنوب الجيش جند عليه و ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡ﴾ [الرعد: 11].
فكل ضعف حصل بالمسلمين فبسبب ما ضيّعوه من تعاليم الدين، حتى التنازع والاختلاف والقتال بين الحكام المسلمين، فكلها ذنوب تورث الضعف والذل، وحلول الفشل..
ولضعف الدين عوامل عديدة، تساعد على ضعف الناس، منها: قول عمر بن الخطاب: يفسد الإسلام ثلاثة أشياء: أئمة مضلون، وزلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن [202].
وروى مسلم عن ثوبان أن النبي ﷺ قال: «إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ».
والخطر المخوف من زلة العالم هو: الاغترار به فيها ومتابعته عليها؛ إذ لولا التقليد والاتباع لما خيف على الإسلام وأهله من زلته، وكان ابن عباس يقول: ويل للأتباع من عثرات العالم [203]. وقد شبهوا زلته بغرق السفينة، يغرق بغرقها الخلق الكثير.
كما أن الأئمة المضلين هم: أمراء الناس الذين تنكبوا الطريق المستقيم، وتركوا شريعة القرآن الحكيم، وسنة رسول الله عليه أفضل الصلاة والتسليم، واستبدلوا بها شريعة القوانين، فتبعهم الناس على ضلالهم، ووافقوهم على فسادهم واستبدادهم. والناس غالبًا على طرائق ملوكهم في الخير والشر، ومتى فسد الراعي فسدت الرعية.
ومنها: دنيا تقطع أعناق الناس، حتى تجعلهم كالميتين عن مصالحهم الدينية، وعن ما يوجب قوّتهم واستقامتهم، والاستعداد للجهاد في سبيل الله؛ لأن شغفهم بلذاتها المادية قد شغلهم عن الأمور الدينية، فلأجل حبها صارت هي الجيش الغازي لبلاد الإسلام في هذا العصر، وكأنها الكافلة لأعداء الإسلام بالفتح والنصر بغير جموع ولا جنود، وبغير دفاع ولا امتناع؛ طبق ما روى الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، عن ثوبان أن النبي ﷺ قال: «يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ كَمَا تَدَاعَتِ الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا» قالوا: أمن قلة يومئذ؟ قال: «لَا، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، يَنْزَعُ اللَّهُ مَهَابَةَ عَدُوِّكُمْ مِنْكُمْ، ويسكنكم مهابتهم، ويلقي اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ». قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: «حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهَةُ الْمَوْتِ».
كل ما كان أصلاً للفساد فإنه يكون سببًا لدخول الضعف منه على العباد.
وكل كسر فإن الدين يجبره
وما لكسر قناة الدين جبران
فهذا الضعف الحاصل بالمسلمين ليس من الدين، وإنما حصل بسبب ما ضيعوه من تعاليم الدين.
ثم إن هذا الضعف والغربة في الدين لا يلزم أن تدوم، بل قد تقع، ثم تزول، إذ هي وصف عارض، كالأمراض الطبيعية، وربما صحت الأبدان بالعلل.
قد يُنعم الله بالبلوى وإن عظمت
ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
فقد يعود الإسلام إلى قوته، ويفيء من غربته، كما اشتد ضعفه وغربته زمن وفاة النبى ﷺ، حتى ارتدت العرب عنه، ولم يبق مسجد يصلَّى فيه إلا مسجد مكة ومسجد المدينة، ومسجد عبد القيس بجواثى أي الأحساء، ولهذا يقول شاعرهم:
والمسجد الثالث الشرقي كان لنا
والمنبران وفصل القول في الخطب
أيام لا منبر للناس نعرفه
إلا بطيبة والمحجوج ذي الحجب
وعلى أثر هذا الضعف، وهذه الغربة، جاهد الصحابة في الله حق جهاده حتى استعادوا قوة الدين ونشاطه.
فقول النبي ﷺ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» رواه مسلم من حديث أبي هريرة، ورواه الإمام أحمد، و ابن ماجه من حديث ابن مسعود وفيه قالوا: يا رسول الله، من الغرباء؟ قال: «النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ». وفي رواية قال: «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ» وفي رواية قال: «هُمُ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ سُنَّتِي».
وقد اتخذ الناس هذا الحديث بمثابة التخدير للهمم، والتخذيل للأمم بحيث يتخذونه بمثابة العذر لهم عن القيام بما أوجب الله عليهم من الجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصيحة لله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، حتى كأن الرسول بزعمهم قصد بهذا الحديث الاستسلام لهذا الضعف المفاجئ للمسلمين، ولهذه الغربة في الدين.
وإن هذه الغربة تقع في مكان دون مكان، وفي زمان دون زمان، فمثل الرسول في الإخبار كمثل خريت الأسفار، يخبر قومه بمفاوز الأقطار ومواضع الأخطار، ليتأهبوا بالحزم، وفعل أولي العزم من وسائل التعويق، ويحترسوا بالدفع لقطاع الطريق، كما في صحيح مسلم من حديث ابن عمر قال: كنا مع النبي ﷺ في سفر فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من يصلح جشره، ومنا من ينتضل، إذ نادى منادي رسول الله: الصلاة جامعة. قال: فاجتمعنا. فقال النبي ﷺ: «إِنَّهُ مَا مِنْ نَبِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ عَنْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، تَجِيءُ الفتن يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا»، يعني الآخرة شر من الأولى.
فالعاقل لا يستوحش طرق الهدى من قلة السالكين، ولا يغتر بكثرة الهالكين التاركين للدين، فإن الله يقول: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣﴾ [يوسف: 103].
﴿سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٨٠ وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٨١ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٨٢﴾ [الصافات: 180-182].
* * *
[193] أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة.
[194] رواه البخاري ومسلم من حديث معاوية، والمغيرة بن شعبة، وأخرجه مسلم من حديث ثوبان، وجابر بن سمرة، وجابر بن عبد الله.
[195] رواه أبو داود من حديث أبي هريرة والحاكم في المستدرك.
[196] ذكره أبو نعيم الأصبهاني في الحلية.
[197] أخرجه مسلم من حديث عوف بن مالك.
[198] أخرجه مسلم من حديث عوف بن مالك بلفظ مقارب.
[199] متفق عليه من حديث معاوية.
[200] رواه البخاري عن مرداس الأسلمي.
[201] ذكره ابن بطة في الإبانة.
[202] أخرجه الدارمي من حديث عمر.
[203] أخرجه البيهقي في الكبرى.