فقرات من كلام الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله
اعلم أن من تأمل ما ذكره الله في كتابه عن يأجوج ومأجوج، وما ثبتت به سنة رسول الله ﷺ عنهم، وما في ذلك من صفاتهم، وعلم ما ذكره المفسرون والمؤرخون في قصة ذي القرنين، وعرف الواقع والمحسوس وما على وجه الأرض من أصناف بني آدم، فمن عرف ذلك كله تيقن يقينًا لا شك فيه أنهم هم الأمم الموجودون الآن الذين ظهروا على الناس: كالترك، والروس، ودول البلقان، والألمان، وإيطاليا والفرنسيين والإنجليز واليابان، والأمريكان، ومن تبعهم من الأمم، فإنه دل الكتاب والسنة دلالة بينة صريحة أن يأجوج ومأجوج من أولاد آدم، وأنهم ليسوا بعالم آخر غيبي كالجن، ونحوهم ممن حُجب الآدميون عن رؤيتهم، والإحساس في الدنيا بهم، بيان ذلك في القرآن من قصة ذي القرنين في قوله تعالى: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ بَيۡنَ ٱلسَّدَّيۡنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوۡمٗا لَّا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ قَوۡلٗا ٩٣ قَالُواْ يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِنَّ يَأۡجُوجَ وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَهَلۡ نَجۡعَلُ لَكَ خَرۡجًا عَلَىٰٓ أَن تَجۡعَلَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَهُمۡ سَدّٗا ٩٤﴾ [الكهف: 93-94] إلى آخر الآيات، فمن فهم معنى هذه الآيات، وما ذكره أصناف المفسرين فيها، علم قطعًا أنهم كما ذكر الله في شكاية هؤلاء القوم الذين كثر إفسادهم لذي القرنين بالقتل والنهب والتخريب وأنواع الفساد، فطلبوا منه أن يجعل بينهم وبينهم سدًّا، يمنعهم من الإفساد، والنفوذ إليهم، فأجاب ذو القرنين طلبتهم، طاعة لله وإحسانًا على هؤلاء المظلومين، فجعل بينهم وبينهم ردمًا، ومعلوم أنهم آدميون محسوسون، قد تناولوهم بأنواع الأذى. فلو كانوا جنسًا آخر كالجن ونحوهم، ممن حُجبوا عن الأبصار، لم يتمكنوا من الأذية لبني آدم إلى هذا الحد، ولم يطلب هؤلاء القوم من ذي القرنين ما لا قدرة له عليه، ولم يمنعهم من الأذية سد ولا ردم.
وذلك أن هناك جبلين متقابلين متصلين بمشارق الأرض ومغاربها، وليس للناس في تلك الأزمان طريق إلا من تلك الفجوة التي بين السدين حيث كان مسير الناس في ذلك الوقت على الإبل، والبغال، والحمير فبنى ذو القرنين سدًّا محكمًا بين الجبلين، فتم بنيانه للردم بين الناس، وبين يأجوج ومأجوج، وبقي ما شاء الله أن يبقى.
ثم بعد ذلك ظهروا على الناس من جميع النواحي، والجبال، والبحار فتحركوا في وقت النبيﷺ في أول قتال وقع من المسلمين مع النصارى، في وقعة مؤتة، وكان المسلمون أربعة آلاف، وجيش النصارى مائة وعشرين ألفًا، فكشف للنبي ﷺ عنهم يوم قتالهم فقال وهو يخطب الناس: «أَخَذَ الرَّايَةَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا زَيْدُ ابْنُ حَارِثَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ وَهُوَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ»[191] يخبرهم بذلك وهو يبكي.
وهذا هو مبدأ تحركهم لقتال المسلمين، والخروج عليهم، وهو معنى قوله ﷺ: «ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا».
قال: ولم يزالوا في ازدياد، وظهور على الناس، حتى وصل الأمر إلى هذه الحال المشاهدة، ولا بد أن يقع كل ما أخبر الله به ورسوله.
ومنها: أن الناس قد شاهدوا السد قد اندك، ورأوا يأجوج ومأجوج قد تجاوزوه، فإن السد -كما ذكرنا- في الموانع الجبلية، والمائية، ونحوها المانعة من وصولهم إلى الناس، فقد شاهدوهم من كل محل ينسلون، فالبحر الأبيض والأسود، والمحيط من جميع جوانبه، وما اتصل بذلك من الموانع كلها قد مضى عليها أزمان متطاولة وهي سد محكم بينهم وبين الناس، لا يجاوزها منهم أحد، بل هم منحازون في أماكنهم، وقد زال ذلك كله، وشاهدهم الناس، وقد اخترقوا هذه البحار، ثم توصلوا إلى خرق الجو بالطائرات، وبما هو أعظم منها، فلا يمكن لأحد إنكار هذا ولا المكابرة فيه.
وهذه الأدلة التي ذكرناها من نص الكتاب والسنة الصحيحة، والأدلة العقلية، والواقع، والمشاهدة، كلها أمور يقينية لا شك فيها، ولا مناقض لها.
والمقصود أن ظهورهم على الوصف الذي شرحناه، قد تبين موافقته للكتاب والسنة الصحيحة، والعلم الصحيح العقلي الحسي، يعتبر آية وبرهانًا عظيمًا على صدق القرآن، وصحة ما جاء به رسول الله ﷺ، من آيات بينات لا تزال تشاهد، وتظهر كل وقت وحين، يعتبر بها المعتبرون وينتفع بها المؤمنون، ويسترشد بها الغافلون المعرضون، وتقوم بها الحجة على المعارضين المعاندين.
وأما من اعتمد في قصة يأجوج ومأجوج على قصص إسرائيلية، وآثار موضوعة وقصص خرافية، وعوائد جرت مخالفة للعلم، فقد حرم الوصول إلى الهداية والاستنارة بنور العقل المؤيد بالشرع. انتهى.
* * *
[191] أخرجه البخاري من حديث أنس.