متقدم

فهرس الكتاب

 

كلمة المؤلف في مؤتمر السنَّة والسيرة النبويّة[179]

الحمد لله الذي وفق من أراد هدايته إلى الإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من قال: ربي الله. ثم استقام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله عليه أفضل الصلاة والسلام.

أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله، وهدي الرسول هو سيرته وسنته التي هي طريقته وأمره ونهيه وإقراراته.

إن الله سبحانه بعث نبيه محمدًا ﷺ بدين كامل، وشرع شريف شامل، صالح لكل زمان ومكان، قد نظم أحوال الناس في حياتهم أحسن نظام بالحكمة والمصلحة، والعدل والإحسان، فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء، ولما حصل بينهم بغي ولا طغيان ولا اعتداء، لأنه يهدي للتي هي أقوم. فهو الرحمة المهداة لجميع خلقه. يقول الله تعالى: ﴿وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِ‍َٔايَٰتِنَا يُؤۡمِنُونَ ١٥٦ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٥٧ قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا [الأعراف: 156-158] فكل ما ذكر في هذه الآية فإنه من عمل سيرته وسنته.

وليست سيرة الرسول وسنته التي انعقد هذا المؤتمر المبارك لبيان فضلها وبيان عموم علمها ونفعها، بمقصورة على العلم بغزواته وبعوثه وسراياه ورسائله حسبما يظنه بعض الناس، والحق أن سيرته هي أعم وأشمل، فهي تشمل كل ما جاء به من العلم والهدى، ودين الحق من لدن بعثته إلى حين وفاته ﷺ.

فسيرته كاسم شريعته التي جاءت بجلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد والجرائم وتقليلها، وهي تدور على حماية الدين والأنفس والأموال والعقول والأعراض، فالتخلق بسيرة الرسول ﷺ، والتمسك بسنته هي التي تهذب الأخلاق، وتطهر الأعراق، وتزيل الكفر والشقاق والنفاق؛ ولهذا قالوا: إن كل متدين بدين صحيح فإنه متمدن، وإنما تنجم الحوادث الفظيعة من القتل، ونهب الأموال وانتهاك الأعراض من عادمي الدين، الذين ساءت طباعهم، وفسدت أوضاعهم، وفسقوا عن أمر ربهم، لأن من لا دين له جدير بكل شر، بعيد عن كل خير، وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه، ومتى جهر هؤلاء بإلحادهم وفسادهم فإنه يترتب على جهرهم فتنة في الأرض وفساد كبير.

إن التكاتف على العمل بشريعته عليه الصلاة والسلام، من المحافظة على الصلوات الخمس المفروضة في أوقاتها، وأداء الزكاة الواجبة، وصيام رمضان، هو الذي يوحد بين المسلمين، ويؤلف بين قلوبهم، ويصلح ذات بينهم، ويجعلهم مستعدين للنصر على عدوهم، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: «إن الله أعزكم بالإسلام، ومهما طلبتم العز في غيره يذلكم»[180]. إن دين الإسلام ليس هو محض التسمي به باللسان، والانتساب إليه بالعنوان، ولكنه ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، وإن أكثر الناس في هذا الزمان يتسمون بالإسلام بأقوالهم لكنهم يخالفونه بأعمالهم، فهم في جانب والإسلام في جانب آخر، حتى صاروا بمثابة الخزي على المسلمين، والفتنة للكافرين، بحيث يقول الكفار: إن كان الإسلام يبيح قتل الأبرياء، وسبي أموال الأغنياء فإنه لا خير فيه: ﴿رَبَّنَا لَا تَجۡعَلۡنَا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱغۡفِرۡ لَنَا رَبَّنَآۖ [الممتحنة: 5].

والحق: أن دين الإسلام بريء من هذه الأعمال التي تخالف نظام شرعه، فهو قائم على حماية الدين والأنفس والأموال والعقول.

الإسلام دين السلام والأمان، والمطهر للعقول من خرافات البدع والضلال والأوهام والبغي والعدوان.

الإسلام دين العدل والمساواة في الحدود والحقوق والأحكام، لا فضل لأحمر على أسود إلا بالطاعة والإيمان، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه. الإسلام يوجب على المؤمنين أن يكونوا في التعاطف والتلاطف كالإخوان، وفي التعاون والتساعد كالبنيان، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ [التوبة: 71].

الإسلام يحترم الدماء والأموال، ويقول: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»[181]. ويقول: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»[182]. أي: بمقتضى الرضا التام، وفي محكم القرآن ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١٨٨ [البقرة: 188]. الله أكبر إن دين محمد وكتابه أقوى وأقوم قيلا لقد مكث المسلمون ثلاثة عشر قرنًا ودينهم الإسلام، ودستور حكمهم السنة والقرآن، فهم يعتزون بهما، إذ هما أكبر معين للحاكم على سياسة مملكته، وسيادة رعيته، لكونهما يوقفان الخصم اللدود على حده، ويقنعانه بحقه، فلا يقع بين الناس مشكلة ذات أهمية إلا وفي الشريعة الإسلامية طريق حلها، وبيان الهدى من الضلال فيها.

ونحن في كلامنا على السنة، إنما نتكلم على الأحاديث الصحيحة الصريحة التي قام جهابذة النقاد العلماء على تمحيصها وتصحيحها، حتى جعلوها عمدة في العقائد والأحكام، وأمور الحلال والحرام.

وإلا فإنه من المعلوم أن الوضاعين الكذابين قد أدخلوا كثيرًا من الأحاديث المكذوبة في عقائد المسلمين، وأحكامهم حتى صار لها الأثر السيئ في العقائد والأعمال، لكن المحققين من علماء المسلمين قد قاموا بتحقيقها، وبينوا بطلانها، وأسقطوها عن درجة الاعتبار، وحذروا الأمة منها.

من ذلك أحاديث المهدي المنتظر، وأنه يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورًا ونحو ذلك مما يقولون.

وصار في كل زمان وفي كل مكان يظهر مخرف ويقول: أنا المهدي المنتظر. حتى كأن المهدي جرثومة البدع، ومثار الفتن، ولا يزال علماء السنة في كل مكان يحاربون هذه الدعوى، ويحاربون من تسمى بها لاعتباره من الكذابين الدجالين، والحق: أن المهدي المنتظر لا صحة له ولا وجود له قطعًا. وفي سنن ابن ماجه: «لَا مَهْدِيَّ إِلَّا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ».[183]

وإنه بمقتضى التأمل للأحاديث الواردة في المهدي، نجدها من الضعاف التي لا يعتمد عليها، وأكثرها من رواية أبي نعيم في حلية الأولياء وكلها متعارضة ومتخالفة، ليست بصحيحة ولا صريحة، ولا متواترة، لا باللفظ ولا بالمعنى.

ولست أنا أول من قال ببطلان دعوى المهدي، وكونه لا حقيقة لها؛ فقد سبقني من قال بذلك من العلماء المحققين، فقد رأيت لأستاذنا الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع رسالة حقق فيها بطلان دعوى المهدي، وأنه لا حقيقة لوجوده، وكل الأحاديث الواردة فيه ضعيفة جدًّا، فلا ينكر على من أنكره. كما رأيت أيضًا لمنشئ المنار محمد رشيد رضا رسالة ممتعة يحقق فيها بطلان دعوى المهدي، وأن كل الأحاديث الواردة فيه لا صحة لها قطعًا، وأشار إلى بطلان دعواه في تفسير المنار[184].

لكنه يوجد في مقابلة هؤلاء من يقول بخروج المهدي، ويقوي الأحاديث الواردة فيه، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد رأيت له قولاً يقول فيه بصحة خروجه، وأن فيه سبعة أحاديث.

فقول شيخ الإسلام هذا خرج بمقتضى اجتهاد منه، ويأجره الله عليه وقد أخد بقوله بعض العلماء المتأخرين، وصاروا يكتبون في مؤلفاتهم بصحة وجوده، مما تأثرت به عقائد العامة وبعض العلماء.

ومعلوم أن شيخ الإسلام هو أطول منا باعًا، وأوسع اطلاعًا في سائر العلوم والفنون، فنحن نعترف بفضله، ولم نزل نغترف من بحر علمه، لكنه بشر كسائر علماء البشر، والصحيح بمقتضى الدلائل والبراهين، هو ما ذكره بعض العلماء من أنه لا حقيقة لصحة أحاديث المهدي، لهذا رأينا كل من انتحل خطة باطلة من الدجالين المنحرفين، فإنه يسمي نفسه بالمهدي، ويتبعه على دعوته الهمج السذج، والغوغاء الذين هم عون الظالم، ويد الغاشم في كل زمان ومكان.

وحسبكم ما سمعتموه عما فعله هؤلاء في بيت الله الحرام، وهم ينتسبون إلى الإسلام ﴿وَمَن يُرِدۡ فِيهِ بِإِلۡحَادِۢ بِظُلۡمٖ نُّذِقۡهُ مِنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ ٢٥ [الحج: 25].

ولا يجني جان إلا على نفسه، ﴿كُلُّ ٱمۡرِيِٕۢ بِمَا كَسَبَ رَهِينٞ ٢١ [الطور: 21]، وقد اتخذ دعاة البدع هذه العقيدة لهم طريقة.

فمن ذلك دعوة البهائية، فقد خرج عام 1166 هـ رجل يدعى الشيخ أحمد الأحسائي، شيعي من أهل الأحساء، وأظهر للناس أنه المهدي المنتظر، وأن شريعته تنسخ شريعة الرسول محمد، ثم ظهر بعده محمد علي الرشتي وأظهر للناس أنه باب المهدي ثم قال: إنه باب الله. ثم ادعى أنه المهدي فقام عليه علماء فارس، فحاكموه وحكمت عليه محكمة تبريز الشرعية بقتله على ردته، فقتل ومن معه، وقد خرجوا بردتهم عن عداد المسلمين.

ثم ظهرت بدعة القاديانية في القرن الثاني عشر الهجري، وأسس دعواها رجل يسمى ميرزا غلام أحمد، من سكنة قاديان الهند، وسمى نحلته[185] بالأحمدية وادعى أنه المهدي المنتظر، وقام علماء الهند في نحره، لكنه استجار بالإنجليز فكانوا يحمونه، وتخمرت دعوته في الهند وباكستان، يعتقدها الهمج السذج وعلى طول الزمان حتى أخرجهم علماء المسلمين عن عقيدة الإسلام.

إن أعداء الإسلام قد شوهوا سمعة الإسلام، وألبسوه أثوابًا من الزور والبهتان، والتدليس والكتمان حيث وصفوه بالقدم، وكونه لا يتلاءم الحكم به في هذا العصر، وأن شرائعه تكاليف شاقة.

وقولهم بعزل الدين عن الدولة، وربما عابوه بإقامة الحدود الشرعية، كحد الزنا والسرقة، وشرب الخمر، وينسبون هذه الحدود إلى القساوة والوحشية، وهي حدود الله التي شرعها لعباده، لتكون بمثابة الزواجر عن هذه الجرائم لتطهير المجتمع منها، ومن لا يكرم نفسه لا يكرم، ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ [الحج: 18]، فهم يعيبون الإسلام بما يعد من محاسنه، ولا عجب وهؤلاء هم أعداء الإسلام الذين يحبون أن تشيع الفواحش في البلدان، فهم يتحاملون على الإسلام بالطعن فيه لصد الناس عنه، فهم كما قيل:
صديقك لا يثني عليك بطائل
فماذا ترى فيك العدو يقول
وإنما ضعف المسلمون في هذه القرون الأخيرة، وساءت حالهم وانتقص الأعداء بعض بلدانهم، من أجل أنه ضعف عملهم بالإسلام، وساء اعتقادهم فيه، وصار فيهم منافقون يدعون إلى نبذه، وإلى عدم التقيد بحدوده وحكمه ولأجله صاروا من أسوأ الناس حالاً، وأشدهم اضطرابًا وزلزالاً، ففشى من بينهم الفوضى والشقاق، وقامت الفتن على قدم وساق، يقتل بعضهم بعضًا، ويسبي بعضهم أموال بعض بحجة الاشتراكية المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان.

وإن مما يقوي الرجاء، ويزيد في الأمل، حينما نسمع حكام المسلمين وزعماءهم في مؤتمراتهم التي يعقدون الاجتماع لها، للتذاكر في شأن أممهم، وعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم، يتفقون على كلمة واحدة وهي: أن الشيء الذي فلّ حدهم وفرق شملهم، وألقى العداوة بينهم، هو تقصيرهم بالعمل بنظام دينهم، وأن الرأي السديد والأمر المفيد: هو رجوعهم إلى العمل بكتاب ربهم، وسنة نبيهم، فإنه لن يصلحهم إلا ما صلح به سلفهم.

فهم يتواصون بذلك، ويتناصحون بموجبه، وسيكون لهذا التواصي تجاوب ولو بعد حين. فهذه نصيحتي لكم، والله خليفتي عليكم، وأستودع الله دينكم وأمانتكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

* * *

[179] ألقيت بتاريخ: 5 محرم 1400هـ . [180] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث عمر. [181] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [182] أخرجه الدارقطني من حديث عم أبي حرة الرقاشي. [183] هذا اللفظ جزء من الحديث وتمامه: «لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا الدنيا إلا إدبارًا، ولا الناس إلا شحًّا، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس، ولا المهدي إلا عيسى ابن مريم». انظر سنن ابن ماجه 2/1340-1341. [184] انظر تفسير المنار: 9/499 وما بعدها، وفتاوى محمد رشيد رضا 1/106 وما بعدها. [185] نحلته: أي مذهبه.