متقدم

فهرس الكتاب

 

فصـل رأي محمد رشيد رضا في المهدي المنتظر

قال محمد رشيد رضا في تفسيره: المنار عند تفسيره سورة الأعراف ما نذكره ملخصًا[176]: أما التعارض في أحاديث المهدي فهو أقوى وأظهر والجمع بين الروايات أعسر، والمنكرون لها أكثر، والشبهة فيها أظهر.

ولذلك لم يعتد الشيخان -البخاري ومسلم- شيئًا من رواياتها، وقد كانت أحاديث المهدي أكبر مثارات للفساد والفتن في الشعوب الإسلامية، إذ تصدى كثير من محبي الملك والسلطان، ومن أدعياء الولاية، وأولياء الشيطان للدعوة المهدية في الشرق والغرب، وتأييد دعواهم بالقتال والحرب، وبالبدع والإفساد في الأرض، حتى خرج ألوف الألوف عن هداية السنة النبوية، ومرق بعضهم من الإسلام مروق السهم من الرمية.

وقد كان من أسباب تصديق الجماهير من المتأخرين بخروج مهدي يجدد الإسلام، وينشر العدل في جميع الأنام، أن يجعلهم على أهبة الاستعداد لظهوره، وقد جاءهم النذير وهو ابن خلدون الشهير، وصاح فيهم قائلاً: إن لله تعالى سننًا في الأمم والدول والعمران، مطردة في كل زمان ومكان كما ثبت في مصحف القرآن، وصحف الأكوان، ومن المعلوم وقوع الاختلاف والاضطراب في أحاديث المهدي.

منها: أن أشهر الروايات في اسمه واسم أبيه عند أهل السنة محمد بن عبد الله، وفي رواية: أحمد بن عبد الله.

والشيعة الإمامية متفقون على أنه محمد بن الحسن العسكري، وهما الحادي عشر والثاني عشر من أئمتهم المعصومين، ويلقبونه بالحجة، والقائم، والمنتظر، ويقولون: إنه دخل السرداب في دار أبيه في مدينة (سر من رأى) التي تسمى الآن سامراء، سنة 265 هـ وله من العمر تسع سنين، وأنه لا يزال في السرداب حيًّا!!

ومنها: أن العابثين بالإسلام، ومحاولي إفساد المسلمين، وإزالة ملكهم من زنادقة اليهود، وغيرهم من أهل الابتداع، وأهل العصبيات العلوية والأموية والعباسية، قد وضعوا أحاديث كثيرة افتروها، وزادوا في بعض الآثار المروية دسائس دسوها، ورواج كثير منها بإظهار رواتها للصلاح والتقوى، ولم تعرف بعض الأحاديث الموضوعة إلا باعتراف من تاب إلى الله من واضعيها.

سؤال: إلى صاحب المنار محمد رشيد رضا[177].

إنه من المشهور بين الكافة من أهل الإسلام، على ممر الأعصار أنه لابد من ظهور رجل يؤيد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويسمى المهدي، فرأيت أن أكتب لجنابكم لكي تتكرموا علينا بالإفادة ولكم الأجر.

الجواب: وردت أحاديث في المهدي، منها ما حكموا بقوة إسناده، ولكن ابن خلدون عني بإعلالها وتضعيفها كلها.

ومن استقصى ما ورد في المهدي المنتظر من الأخبار والآثار، وعرف مواردها ومصادرها، يرى أنها كلها منقولة عن الشيعة، وذلك أنه لما استبد بنو أمية بأمر المسلمين، وظلموا وجاروا، وخرجوا بالحكومة الإسلامية عن وضعها الذي يهدي إليه القرآن، وعليه استقام الخلفاء الراشدون، وهو المشاورة في الأمر، وفصل الأمور برأي أهل الحل والعقد من الأمة، حتى قال على المنبر من يعد من خيارهم، وهو عبد الملك بن مروان: من قال لي: اتق الله؛ ضربت عنقه! لما كان هذا؛ كان أشد الناس تألمًا له وغيرة على المسلمين آل النبي عليه وعليهم السلام، فكانوا يرون أنهم أولى بالأمر وأحق بإقامة العدل، فكان من تشيع لهم يؤلفون لهم عصبية دينية يقنعونها بأن سيقوم منهم قائم مبشر به يقوم بالعدل، ويؤيد الدين، ويزيل ما أحدث بنو مروان من الاستبداد والظلم، وعن هذا الاعتقاد صدرت تلك الروايات.

والناظر في مجموعها يظهر له أنهم ينتظرون ذلك في القرن الثاني ثم في الثالث، وكانوا يعينون أشخاصًا من خيار آل البيت يرجحون أن يكون كل منهم القائم المنتظر فلم يكن، وكان بعضهم يسأل من يعتقد أنه صاحب هذا الأمر فيجيبه ذلك بأجوبة مبهمة، ومنهم من كان يتنصل ويقول: إن الموعد ما جاء ولكنه اقترب، ومنهم من كان يضرب له أجلاً محدودًا، ولكن مرت السنون والقرون ولم يكن ما توقعوا أن سيكون.

وجرّت هذه العقيدة على المسلمين شقاء طويلاً، إذ قام فيهم كثيرون بهذه الدعوى، وخرجوا على الحكام فسفكت بذلك دماء غزيرة، وكان شر فتنها: فتنة البابية الذين أفسدوا عقائد كثير من المسلمين، وأخرجوهم من الإسلام، ووضعوا لهم دينًا جديدًا، وفي الشيعة ظهرت هذه الفتنة وبهم قامت، ثم تعدى شرها إلى غيرهم، ولا يزال الباقون منهم ومن سائر المسلمين ينتظرون ظهور المهدي، ونصر الإسلام به، فهم مستعدون بهذا الاعتقاد لفتنتة أخرى نسأل الله أن يقيهم شرها.

ومن الخذلان الذي ابتلي به المسلمون، أن هذه العقيدة مبنية عندهم على القوة الغيبية والتأييد السماوي، لذلك كانت سببًا في ضعف استعدادهم العسكري فصاروا، أضعف الأمم بعد أن كانوا أقواها، وأشدهم ضعفًا أشدهم بهذه العقيدة تمسكًا، وهم مسلمو الشيعة في إيران، فإن المسألة عندهم اعتقادية، أما سائر المسلمين فالأمر عندهم أهون، فإن منكر المهدي عندهم لا يعد منكرًا لأصل من الدين، ولو كانوا يعتقدون أنه يقوم بالسنن الإلهية والأسباب الكونية، لاستعدوا لظهوره بما استطاعوا من قوة، ولكان هذا الاعتقاد نافعًا لهم.

وجملة القول أننا لا نعتقد بهذا المنتظر، ونقول بضرر الاعتقاد به، ولو ظهر -ونحن له منكرون- لما ضره ذلك إذا كان مؤيدًا بالخوارق كما يقولون، وقد بينا ذلك في كتابنا: المحكمة الشرعية[178].

* * *

[176] انظر تفسير المنار: 9/499 وما بعدها. [177] انظر فتاوي الإمام محمد رشيد رضا: 1/106 وما بعدها. [178] فتاوي الإمام محمد رشيد رضا: 1/106 وما بعدها.