متقدم

فهرس الكتاب

 

فصـل من كلام ابن القيّم في كتابه المنار المنيف في الصحيح والضعيف

قال رحمه الله: ذكر أبو نعيم في كتاب المهدي من حديث حذيفة قال: قال رسول الله ﷺ: «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلا يَوْمٌ وَاحِدٌ، لَبَعَثَ اللهُ فِيْهِ رَجُلًا، اسْمُهُ اسْمِي، وَخُلُقُهُ خُلُقِي، يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللهِ» ولكن في إسناده العباس بن بكار لا يحتج بحديثه؛ وقد لخصه الحافظ السيوطي، وحذف أسانيده، وزاد عليه أضعافه في جزء سماه: العرف الوردي في أخبار المهدي. وأدخله في كتابه: الحاوي للفتاوى.

وقد قالت أم سلمة: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «الْمَهْدِيُّ مِنْ عِتْرَتِي، مِنْ فَاطِمَةَ» رواه أبو داود وابن ماجه، وفي إسناده زياد بن بيان وثقة ابن حبان، وقال ابن معين: ليس به بأس. وقال البخاري: في إسناد حديثه نظر.

وقال الطبراني: حدثنا محمد بن زكريا الهلالي، حدثنا العباس بن بكار، حدثنا عبد الله بن زياد، عن الأعمش، عن زر بن حبيش، عن حذيفة قال: خطبنا النبي ﷺ فذكر ما هو كائن، ثم قال: «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلا يَوْمٌ وَاحِدٌ، لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى يَبْعَثَ رَجُلًا مِنْ وَلَدِي اسْمُهُ اسْمِي». ولكن هذا إسناده ضعيف.

وفي سنن ابن ماجه عن عبد الله بن مسعود قال: بينما نحن عند رسول الله ﷺ إذ أقبل فتية من بني هاشم، فلما رآهم النبي ﷺ اغرورقت عيناه، وتغير لونه فقلت: ما نزال نرى في وجهك شيئًا نكرهه؟ قال: «إِنَّا أَهْلَ بَيْت اخْتَارَ اللَّهُ لَنَا الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا، وَإِنَّ أَهْلَ بَيْتِي سَيَلْقَوْنَ بَلَاءً وَتَشْرِيدًا وَتَطْرِيدًا، حَتَّى يَأْتِيَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ، وَمَعَهُمْ رَايَاتٌ سُودٌ، يَسْأَلُونَ الْحَقَّ فَلَا يُعْطَوْنَهُ، فَيُقَاتِلُونَ، فَيُنْصَرُوْنَ، فَيُعْطَوْنَ مَا سَأَلُوا، فَلَا يَقْبَلُونَهُ حَتَّى يَدْفَعُوهَا إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَيَمْلَؤُهَا قِسْطًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَلْيَأْتِهِمْ وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الثَّلْجِ» وفي إسناده يزيد بن أبي زياد، وهو سيئ الحفظ، اختلط في آخر عمره، وكان يقلد الفلوس أي: يزيفها.

ومن كلام العلامة ابن القيم رحمه الله في المنار المنيف عن موقف الإمامية من المهدي:

قال: إن المهدي هو محمد بن الحسن العسكري المنتظر، من ولد الحسين بن علي لا من ولد الحسن، دخل سرداب سامراء طفلاً صغيرًا من أكثر من خمسمائة سنة، وهم ينتظرونه، ولقد أحسن من قال:
ما آن للـسرداب أن يلد الذي
حمّلتموه بجهلكم ما آنا
فعلى عقولكم العفاء فإنكم
ثلثتم العنقاء والغيلانا
أما مهدي المغاربة: محمد بن تومرت فإنه رجل كذاب ظالم متغلب بالباطل، ملك بالظلم والتغلب والتحيل، فقتل النفوس وأباح حريم المسلمين وسبي ذراريهم، وأخذ أموالهم، وكان شرًّا على الملة من الحجاج بن يوسف بكثير، وكان يودع بطن الأرض في القبور جماعة من أصحابه أحياء، يأمرهم أن يقولوا للناس: إنه المهدي الذي بشر به النبي ﷺ. ثم يردم عليهم ليلاً لئلا يكذبوه بعد ذلك، وسمى أصحابه الجهمية: (الموحدين) نفاة صفات الرب وكلامه، وعلوه على خلقه، واستوائه على عرشه، ورؤية المؤمنين له بالأبصار يوم القيامة، واستباح قتل من خالفهم من أهل العلم والإيمان، وتسمى بالمهدي المعصوم. ثم خرج المهدي الملحد عبيد الله بن ميمون القداح، وكان جده يهوديًّا من بيت مجوسي، فانتسب بالكذب والزور إلى أهل البيت، وادعى أنه المهدي الذي بشر به النبي ﷺ، وملك وتغلب، واستفحل أمره إلى أن استولت ذريته الملاحدة المنافقون، الذين كانوا أعظم الناس عداوة لله ولرسوله، على بلاد المغرب ومصر والحجاز والشام. واشتدت غربة الإسلام ومحنته ومصيبته بهم، وكانوا يدعون الألوهية، ويدعون للشريعة باطنًا يخالف ظاهرها.

ولم يزل أمرهم ظاهرًا إلى أن أنقذ الله الأمة منهم، ونصر الإسلام بصلاح الدين يوسف بن أيوب، فاستنقذ الملة الإسلامية منهم وأبادهم.

والمقصود أن هؤلاء لهم مهدي، وأتباع ابن تومرت لهم مهدي، والرافضة الاثنى عشرية لهم مهدي.

فكل هذه الفرق تدعي في مهديها الظلوم الغشوم، والمستحيل المعدوم: إنه الإمام المعصوم، والمهدي المعلوم، الذي بشر به النبي ﷺ.

فهذا كلام ابن القيم قد أنحى فيه بالملام، وتوجيه المذام على سائر الفرق التي تدعي بالمهدي، ولم يستثن فرقة من فرقة، لكونها دعوى باطلة من أصلها.

ويشير إلى أن فكرة المهدي المنتظر قد سبق إلى ادعائها كثيرون، وأنهم كلهم لم يعدلوا في الأرض، بل ملؤوا الدنيا جورًا وظلمًا وعدوانًا، وسفكوا الدماء، واستباحوا المحارم، خلاف ما يدعون إليه.

ويقول الأستاذ البلاغي في تصوير حالة المنتظرين للمهدي: إن هؤلاء الناس يعيشون تحت ركام من الإيحاءات والتمنيات المستمرة بشأن ظهور المهدي، وحتى امتلأت قلوبهم وجوانحهم بالبشرى به، والشوق إلى لقائه وطالت عليهم ليالي الانتظار في توقع صبح الفرج، فكان من يأتيهم باسم المهدي يكون حاجتهم المطلوبة، وأمنيتهم المنتظرة، ويأتي إلى مهاد موطد، وأمر ممهد، قد امتلأت بالرغبة إليه القلوب، واشتاقت إليه النفوس، وامتدت الأعناق وشخصت الأبصار، فلا يحتاج المتمهدي فيه من ضعفاء البصائر إلا إلى شيء من التمويه والتلبيس الذي قد فتح بابه وقدح زناد فتنته[170]. انتهى.

هذا الجهل هو الذي أدى إلى وضع ألف ومائتي حديث موضوع في المهدي عند الإمامية، وإلى وضع خمسين حديثًا عند أهل السنة، إن مثل هذه الأحاديث المختلقة هي التي أفسدت العقول، وجعلتهم يتبعون الملاحدة والمفسدين من دعاة المهدية.

وإنه على فرض صحة هذه الأحاديث، أو بعضها، أو تواترها بالمعنى، حسب ما يدعون، فإنها لا تعلق لها بالعقيدة الدينية، ولم يدخلها علماء السنة في عقائدهم كشيخ الإسلام ابن تيمية في رسائله: الواسطية والأصفهانية والسبعينية والتسعينية، ولم تذكر في عقيدة الطحاوية وشرحها، ولا عقيدة ابن قدامة، ولا في الإبانة عن أصول الديانة للأشعري، وهي تتمشى على عقيدة أهل السنة، وهي من آخر مؤلفاته، وجعلها خاتمة حياته، فعدم إدخالها في عقائدهم مما يدل على أنهم لم يعتبروها من عقائد الإسلام والمسلمين. ثم إن غالب الأحاديث التي زعموها صحيحة ومتواترة بالمعنى، ما هي إلا حكاية عن أحداث تقع مع أشخاص، كرجل هرب من المدينة إلى مكة فيبايع له بين الركن والمقام، ورجل يخرج من وراء النهر فيبايع له، ورجل يخرج بعد موت خليفة، ورجل يخرج اسمه الحارث، ورجل يصلحه الله في ليلة.

فهذه كلها ليست من العقائد الدينية كما زعم دعاة المهدي والمتعصبون لصحة خروجه، كما حدث من هذا المدعي أنه المهدي الذي سفك دماء زكية بريئة في الشهر الحرام، في البلد الحرام وفي المسجد الحرام، وحول البيت الحرام الذي يستقبله المؤمنون في المشارق والمغارب صلاتهم ودعاءهم، وروع المسلمين وأحدث بينهم زلزالاً شديدًا وكفى بالمسيء عمله.

لهذا يجب طرح فكرة المهدي جانبًا، فعندنا كتاب الله تعالى نستغني به عن كل دعي مفتون، وهو الملجأ الذي أوصانا رسول الله ﷺ باللواذ به عند الفتن، كما أن لدينا سنة رسول الله ﷺ فيما صح منها سواء كان متواترًا أو أحادًا.

وأرجو بهذا البيان أن تستريح نفوس الحائرين، ويعرفوا رأي أهل العلم والدين في هذه المشكلة التي تثار من آن لآخر ﴿وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ ٤ [الأحزاب: 4].

* * *

[170] رسالة نصائح المهدي والدين: 141.