متقدم

فهرس الكتاب

 

محاربة أكثر علماء الأمصار لاعتقاد ظهور المهدي

إن علماء الأمصار -والحق يقال- متى طرقوا بحثًا من البحوث العلمية التي يقع فيها الجدال وكثرة القيل والقال، فإنهم يشبعون البحث تحقيقًا وتدقيقًا وتمحيصًا وتصحيحًا، حتى يجعلونه جليًّا للعيان، وصحيحًا بالدلائل والبرهان، وليس من شأن الباحث أن يُفهِم من لا يريد أن يَفهَم.

وقد قرروا قائلين: إن أساس دعوى المهدي مبني على أحاديث محقق ضعفها وكونها لا صحة لها، ولم يأت حديث منها في البخاري ومسلم مع رواج فكرتها في زمنهما، وما ذاك إلا لعدم صحة أحاديثه عندهما، مع العلم أنها على فرض صحتها لا تعلق لها بعقيدة الدين، وما هي إلا حكايات عن أحداث تكون في آخر الزمان، أو في أوله يقوم بها فلان أو فلان، بدون ذكر المهدي.

فليست من العقائد الدينية كما زعم دعاتها والمتعصبون لصحتها، وقد ثبت بطريق الواقع المحسوس أن فكرة المهدي أصبحت فتنة لكل مفتون، تنتقل من جيل إلى جيل، ومن زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان، وتراق من أجلها الدماء الزكية البريئة، في الشهر الحرام والبلد الحرام والمسجد الحرام، مما أزعج المسلمين كافة في مشارق الأرض ومغاربها.

والحاصل أنه يجب طرح فكرة المهدي، وعدم اعتقاد صحتها، وعندنا كتاب الله نستغني به عنه، وعن كل بدعة واتباع كل مبتدع مفتون، وهو الملجأ الذي أوصانا رسول الله باللواذ به عند الفتن، كما لدينا سنة رسول الله الصحيحة الصريحة سواء كانت متواترة، أو من رواية الآحاد غير المتعارضة ولا المختلقة.

ولعل العلماء الكرام، والأكابر من الطلاب، يقومون بجد ونشاط إلى بيان إبطال فكرة المهدي وفساد اعتقاده، وسوء عاقبته عليهم وعلى أولادهم من بعدهم، وعلى أئمة المسلمين وعامتهم، وما هي إلا أحاديث خرافة تلعب بالعقول، وتوقع في الفضول، وهي لا تتفق مع سنة الله في خلقه، ولا مع سنة رسول الله في رسالته، ولا يقبلها العقل السليم، وإن الجهل بأحكام الدين وحقائقه وعقائده الصحيحة يدفع صاحبه إلى أي فكرة تنقش له بدون مناظرة عقلية، وبدون رجوع منه إلى نص صحيح وصريح، وهذا الجهل هو الذي أدى بأهله إلى وضع خمسين حديثًا في المهدي عند أهل السنة، وإلى وضع ألف ومائتي حديث عند الشيعة[169]، وإن هذه الأحاديث المختلقة هي التي أفسدت العقول وجعلتهم يتبعون الملاحدة والمفسدين من دعاة المهدي.

ولقد قام علماء الأمصار بجد ونشاط إلى تحذير قومهم من اعتقاد المهدي وصحة خروجه، فواصلوا قولهم ونصحهم بعملهم بكتابة الرسائل في الجرائد والمجلات والنشرات، يبينون لهم فسادها وسوء عواقب اعتقادها حتى خف أثرها في نفوسهم، وحتى زال اعتقادها عن علمائهم وعامتهم، على نسبة عكسية من فعل علمائنا، فإنهم -رحمهم الله- يسيرون في طريق مخالف، ويصدعون على رؤوس الناس بصحة اعتقادها، وينكرون على من أنكرها، ويحجرون رأي الجمهور على اعتقاد ما تربوا عليه في صغرهم، وما تلقوه عن آبائهم ومشايخهم. إنهم لو رجعوا إلى التحقيق المعتبر لأحاديث المهدي المنتظر، من كتابنا هذا وفكروا في الأحاديث التي يزعمونها صحيحة ومتواترة، وقابلوا بعضها ببعض، لظهر لهم بطريق اليقين أنها لست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة، لا باللفظ ولا بالمعنى، نسأل الله لنا ولهم التوفيق والسداد، وأن يجعلنا وإياهم من الذين يهدون بالحق وبه يعدلون.

إن بعض علمائنا عندما يرى أحدهم شيئًا من الرسائل أو البحوث الصادرة من علماء الأمصار المتأخرين، وهي تعالج شيئًا من المشاكل الهامة التي يشتد الخلاف فيها، ويهتم كل الناس بأمرها، كمسألة المهدي ونحوها، فلا يعطي هذه الرسالة شيئًا من الاهتمام والنظر، خصوصًا عندما يعرف أنها تخالف رأيه واعتقاده، فإنه يشمئز منها، وينفر عنها، وتشتد كراهيته لها وربما قال: إن هؤلاء ليسوا بشيء، حتى لا يكاد يراها ولا يسمعها، لكون الإنسان إذا اشتدت كراهيته للشيء فإنه لا يكاد يراه ويسمعه، وقد مدح الله الذي جاء بالصدق وصدق به، والذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، فهؤلاء قد حرموا أنفسهم خيرًا كثيرًا، وعلمًا غزيرًا، فإن من واجبهم تلقي هذه العلوم والبحوث بالرحب وسعة الصدر، وتدبر وتفكر في مدلولها.. ثم التزود مما طاب لهم منها ليزدادوا علمًا إلى علمهم، وعسى أن يفتح لهم من العلوم والفنون ما لم يكونوا يحتسبون، لأن العلم شجون يستدعي بعضه بعضًا... ﴿وَقُل رَّبِّ زِدۡنِي عِلۡمٗا ١١٤ [طه: 114].

* * *

[169] نشأت هذه الأحاديث عن أهواء عصبية وأمور سياسية.