متقدم

فهرس الكتاب

 

المقارنة بين أقوال العلماء المتقدمين والمتأخرين

إننا متى قابلنا بين العلماء المتقدمين والمتأخرين، نجد الفرق واسعًا، فلا مداناة فضلاً عن المساواة، إذ العلماء المتقدمون قد جمعوا بين العلم والعمل، فهم أحق وأتقى وأقرب للتقوى.

لكن العلماء المتقدمين يغلب عليهم حسن الظن بمن يحدثهم، ويستبعدون تعمد الكذب على رسول الله ﷺ من مؤمن بالله، ولهذا أكثروا من أحاديث المهدي المتنوعة والمتضاربة والمختلفة، حتى بلغت خمسين حديثًا في قول الشوكاني كما نقلها عنه السفاريني في لوامع الأنوار، وأورد ابن كثير في نهايته الكثير منها، وفي كتب الشيعة: إنها بلغت ألفًا ومائتي حديث.

والسبب أن من عادة علماء السنة المتقدمين التساهل فيما يرد من أحاديث أشراط الساعة، كأحاديث المهدي، والدجال، ويأجوج ومأجوج، وما كان من قبيل ذلك فلا يتكلفون في نقدها، ولا إخضاعها للتصحيح ولا للتمحيص لعلمهم أنها أخبار آخرة متأخرة.

بخلاف أحاديث الأحكام وأمور الحلال والحرام، وما يحتاجه الناس في عبادة ربهم والتعامل فيما بينهم في أمور دنياهم، فقد بالغوا في تحقيقها بمعرفة رواتها، وما يجوز وما لا يجوز منها، فهم بعلم صحيح نطقوا وببصر ناقد كفوا.

غير أن الحاجات هي أم الاختراعات، ولكل حادث حديث، وكم ضارة نافعة، وأنه لولا حادث الحرم الشريف بمكة، وانتهاك حدوده ومحرماته وقتل الحجاج والمصلين فيه، وقتل حراسه من قبل الفئة المارقة المنافقة، إنه لولا ذلك لما تكلفت تأليف هذه الرسالة، لاعتقادي أن المهدي وما يقال فيه ليس من عقيدة أهل السنة، فلم أعطه حظًّا من الاحتفال به، وأنه وما يقال فيه وعنه ما هو إلا حديث خرافة، يتلقفها واحد عن آخر، ويزيد كل واحد فيها ما يريده. لله در الحادثات فإنها صدأ الجبان وصيقل[167] الأحرار إن فكرة المهدي والفتنة به أصبحت تتكرر في كل زمان ومكان، وأصبح يتطلع لها ويطمع في الاتصاف بها كل شاب مجنون يطابق اسمه اسم المهدي وصفته كصفته، فيظن الهمج السذج الذين هم أتباع كل ناعق ويميلون مع كل صائح أنه أملهم المنشود وبغيتهم المطلوبة.

ومتى سطا الإلحاد على قلب أحد الأولاد فإنه يطيش به عن مستواه إلى حالة الطفور والطغيان ومجاوزة الحد في الكفر والفسوق والعصيان.

والذي جعل أمر المهدي يستفحل بين أهل السنة من المسلمين، وكان بعيدًا عن عقيدتهم، هو عجز العلماء المتقدمين وكذا العلماء الموجودين على قيد الحياة، فلم نسمع بأحد منهم رفع قلمه ولا نطق (ببنت شفة)[168] في التحذير من هذا الاعتقاد السيئ، وكونه لا صحة له. اللهم قد بلغت، بل إنهم ينكرون على من يقولون بإنكاره فيزيدون الحديث علة والطين بلة.

وقد سمعت أن أحد الطلاب قد حصل على شهادة الدكتوراه بتقديم رسالة أثبت فيها صحة خروج المهدي. إن فكرة المهدي والفتنة به لها أسباب سياسية واجتماعية، وغالبها مقتبس من عقائد الشيعة وأحاديثهم، فسرى اعتقادها إلى أهل السنة بطريق العدوى والتقليد الأعمى.

فبعد خروج الخلافة من أهل البيت تصدى أقوام من المتحمسين لهم فعملوا عملهم في صناعة الأحاديث التي غزوا بها أفكار الجمهور، يروونها عن رسول الله ﷺ، وأحكموا أسانيدها عن أكثر الموتى وأخرجوها بطرق مختلفة، وأسانيد مضطربة ومتعارضة، فصدق بها بعض علماء الإسلام، وضعفة العلوم والأفهام، وصار لها الأثر السيئ في تضليل عقول الناس، وإفساد عقائدهم، وخضوعهم للخرافات والأوهام.

وعلى أثر اعتقادها والتصديق بها، تتابعت الحركات والثورات المشحونة بسفك الدماء، ففي كل عصر يخرج من يدعي أنه المهدي، وناهيك بالمغرب وكثرة من يخرج فيه من المدعين للمهدية، ويلتف حوله أتباعه من الهمج السذج والغوغاء الذين هم عون الظالم ويد الغاشم في كل زمان ومكان.

ففكرة المهدي وسيرته وصفته لا تتفق مع سيرة رسول الله ﷺ وسنته بحال، فقد أثبتت التآريخ الصحيحة حياة رسول الله من بداية مولده إلى حين وفاته، كما أثبتها القرآن وليس فيها شيء من ذكر المهدي، كما لا يوجد في القرآن شيء من ذلك فكيف يسوغ لمسلم أن يصدق به والقرائن والشواهد تكذبه؟

وما هذا التهالك في محبته والدعوة إلى الإيمان به، وهو رجل من بني آدم ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يوجب الإيمان به؟!

* * *

[167] صيقل: جلاء. [168] بنت الشفة: أي كلمة.