مقام المسلم من المهدي ومقام المهدي منه
أولاً: إنه لا يجب الإيمان الجازم بخروجه لقوة الخلاف في الأحاديث، فلا ينكر على من أنكره، وإنما يتوجه الإنكار على من قال بصحة خروجه.
ثانيًا: ليس من عقيدة الإسلام والمسلمين الإيمان به، كالإيمان بوجود الرب، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالبعث بعد الموت، والإيمان بالجنة والنار إذ هذه من أمور الآخرة التي يجب اعتقادها ووقوعها جلية للعيان في دار الآخرة، وقد أثبتها القرآن وصحيح السنة، وليس منها الإيمان بالمهدي، وقد غلط السفاريني حيث أدخل الإيمان به في عقيدته، قال:
منها الإمام الخاتم الفصيح
محمد المهدي والمسيح
فقد أخطأ حيث جعل المهدي هو الخاتم، وإن حملناه على جعله خاتم الأئمة الاثنى عشر خليفة الذين يستقيم بهم أمر الدين، فهذا هو نفس عقيدة الشيعة حيث جعلوا الإمام الحادي عشر هو الحسن العسكري، وبعد موته انتقلت الإمامة إلى ابنه محمد بن الحسن العسكري الذي دخل سرداب سامراء، فدعوى المهدي في مبدئها للشيعة، فهم الذين آمنوا بها وصدقوها، وأكثروا من ذكر هذا المهدي المنتظر، فاقتبس بعض أهل السنة هذا الاعتقاد، ثم سار في طريقه وتلقينه إلى حالة انتشار هذه الفكرة عند المتأخرين، حتى جعلوها طريقة وعقيدة، متى غيرت قيل: غيرت السنة! وهكذا حال البدعة، فبسبب مجاورتهم للشيعة واختلاطهم بهم اقتبسوها منهم، وإلا فإنها ليست من عقيدة أهل السنة، ولهذا لم يذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في عقائده، لا في الواسطية ولا في الأصفهانية ولا السبعينية ولا التسعينية ولا العرشية، كما أنها لم تذكر في عقيدة الطحاوية ولا في شرحها، ولا في عقيدة ابن قدامة، ولا عقيدة ابن زيدون المالكي.
فعدم ذكرهم لها يدل على أنها ليست من عقائد الإسلام والمسلمين، والمهدي في مبدأ دعوته هو واحد وليس باثنين، فلم يقل أحد: إنهما مهديان، وإنما هو مهدي واحد، تنازعته أفكار الشيعة وأفكار بعض أهل السنة، فكل لوم أو ذم ينحى به على الشيعة لإيمانهم بإمامهم محمد بن الحسن الذي هو في سرداب، فإنه ينطبق بطريق التطابق والموافقة على أهل السنة الذين يصدقون بالمهدي المجهول في عالم الغيب، فهما في فساد الاعتقاد به سيان.
فبيت الشعر للسفاريني على الحالتين غير صواب ولا صحيح، والسفاريني رحمه الله هو أقوى من ثبت دعائم عقيدة المهدي في قلوب المسلمين.
ثالثًا: إن المهدي لم يذكر في القرآن، ولا في صحيح البخاري ومسلم فقد نزها كتابيهما عن ذكره، وعن الحديث عنه مع رواج الخبر عنه في زمانهما، فلا نرى ذلك إلا لضعف أحاديثه عند هما.
رابعًا: إن رسول الله ﷺ بعث بجوامع الكلم، فكان يختصر الحكم الكثيرة في الكلمات اليسيرة، تقول عائشة: لقد كان رسول الله يتكلم بكلمات لو عدّها العادُّ لأحصاها [153]. وأحاديث المهدي هي بمثابة حديث ألف ليلة وليلة، قد أحصاها الشوكاني فيما يزيد على خمسين حديثًا، وكلها متخالفة ومضطربة ينقض بعضها بعضًا، منها ما يشير إلى أن المهدي هو علي بن أبي طالب، ومنها ما يشير إلى أنه الحسن أو بنوه من بعده، ومنها ما يشير إلى أنه محمد ابن الحنفية، وأنه حي في جبل رضوى بين مكة والمدينة، وعنده عينا عسل وماء، ومنها ما يشير إلى أنه رجل اسمه الحارث، ويؤمر بالسعي إليه لبيعته ولو حبوًا على الركب أو على الثلج، إلى غير ذلك من الأحاديث التي يعلم كل عاقل بأن رسول الله منزه عنها.
خامسًا: لم يكن من هدي رسول الله ولا من شرعه، أن يحيل أمته على التصديق برجل في عالم الغيب وهو من أهل الدنيا، ومن بني آدم فيخبر عنه أنه يفعل كذا وكذا، مما يوجب الاختلاف والاضطراب بين الأمة.
سادسًا: بما أن المهدي بصفة ما يزعمون، وأن اسمه كاسم الرسول محمد بن عبد الله، وأنه أجلى الجبهة، أقنى الأنف ومن قريش، فإن هذه الصفة توجد بكثرة في كثير من الأشراف.
وبما أنني من هؤلاء الأشراف، من ذرية الحسن بن علي، فإنه لو خرج رجل من الأشراف اسمه محمد بن عبد الله، وهو أجلى الجبهة أقنى الأنف، ويدعي أنه المهدي، فإنني أول من يقاتله لاعتقادي أنه كذاب يريد أن يفسد الدين، ويشق عصا المسلمين، والنبي ﷺ قال: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ»[154].
سابعًا: إن من صفة المهدي الذي يدعون خروجه، وأن مقامه في الدنيا سبع سنين أو تسع سنين في الحديث الآخر، وهل هو يؤيد بالخوارق والمعجزات أو بالأحلام والمنامات؟ وهل تنزل معه الملائكة تحارب معه، أو الجن تسخر له كما سخرت لسليمان؟ وهل هو أكرم على الله من محمد رسول الله الذي مكث ثلاثًا وعشرين سنة، كلها يجاهد ويجادل ويصبر على اللأواء والشدة، ويتبع السنن الكونية من الطرق الموصلة إلى نجاحه، والقرآن يؤيده والملائكة يمده الله بهم، وقد شُج رأسه ﷺ، وكسرت رباعيته، ودلوه في حفرة ظنوه ميتًا وذلك في وقعة أحد.
ومع هذا كله لم يتمكن من بسط العدل إلا في جزيرة العرب، وهي نقطة صغيرة بالنسبة إلى سعة الدنيا.
أفيكون المهدي المنتظر أعز على الله من محمد رسول الله؟!
ثامنًا: إن جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، علماءهم وعامتهم، متفقون على قتال من يدعي أنه المهدي كما مضى منهم ذلك في كل زمان ومكان، مع كثرة من يدعي أنه المهدي، لاعتقادهم أنها دعوى باطلة لا صحة لها.
ولا يزالون يقاتلون من يدعي أنه المهدي حتى تقوم الساعة، فأين المهدي والحالة هذه؟ وصار المهدي كالموجود في الأذهان دون الأعيان.
تاسعًا: اتفق العلماء على أن الصحابة كلهم عدول، فلا ينسب إليهم شيء من تعمد الكذب، لكنه في القرن الأول ثم الثاني شمل الناس فتن مثل فتنة الجمل وصفين، ثم فتنة النهروان في قتال علي للخوارج، ثم فتنة ابن الزبير مع عبد الملك ابن مروان والحجاج، ثم فتنة مقتل مصعب بن الزبير مع عبد الملك بن مروان في العراق، ثم فتنة المختار بن أبي عبيد وقتله لعبيد الله بن زياد.
وعلى أثر هذه الفتن انتشرت الأهواء في الناس إلى حالة أنهم يتقاذفون بالسب والشتم على المنابر، فأصحاب علي رضي الله عنه وأنصاره يسبون معاوية وبني أمية، وبنو أمية وأنصارهم يقابلونهم بمثل ذلك إلى بداية ولاية الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز فرفع هذا السب، وجعل بدله: ﴿رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ ١٠﴾ [الحشر: 10].
عاشرًا: إن الدين كامل بوجود رسول الله ونزول كتاب الله، ولم يخلف رسول الله شيئًا منه لا في السماء ولا في الأرض، يقول تعالى: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا﴾ [المائدة: 3].
والنبي ﷺ يقول: «لَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ وَسُنَّتِي»[155].
لهذا صرنا في غنى وسعة عن دين وعدل يأتي به المهدي، فلا مهدي بعد رسول الله ﷺ كما لا نبي بعده.
حادي عشر: إن العلماء كأبي داود في سننه، وابن كثير في نهايته، والسفاريني في لوامع أنواره وغيرهم، قد أدخلوا أحاديث المهدي في جملة أشراط الساعة مع أحاديث الدجال والدابة، ويأجوج ومأجوج، وأحاديث الفتن. فكل هذه لا يتعرض لها نقاد الحديث بتصحيح ولا تمحيص، لعلمهم أنها أحاديث مبنية على التساهل، ويدخل فيها الكذب والزيادات، والمدرجات، والتحريفات وليست بالشيء الواقع في زمانهم، ولا من أحاديث أحكامهم، وأمور حلالهم وحرامهم.
وفي القرن التاسع لما كثر المدعون للمهدي، وثارت الفتن بسببه كما ذكرها المسعودي في تاريخه، فعند ذلك اضطر بعض المحققين من العلماء أن ينقدوا أحاديث المهدي ليعرفوا قويها من ضعيفها، وصحيحها من سقيمها، لكون الحوادث في الحياة هي أم الاختراعات، فتصدى ابن خلدون في مقدمته لتدقيق التحقيق فيها، فنخلها ثم نثرها حديثًا حديثًا، وبين عللها كلها، وأن من رواتها الكذوب، ومنهم المتهم بالتشيع والغلو، ومنهم من يرفع الحديث إلى الرسول بدون أن يتكلم به الرسول، ومنهم من لا يحتج به.
وخلاصته أنه حكم على أحاديث المهدي بالضعف.
لكن رأينا بعض العلماء في هذا الزمان يعترض على تصحيحات ابن خلدون قائلاً: إنه مؤرخ، وليس بصاحب حديث. وهذا الاعتراض لا موقع له من الصحة، فإن ابن خلدون عالم جليل، ولا يقول أحد فيه إلا الخير، وكونه مؤرخًا لا يمنع من كونه محققًا لعشرة أحاديث أو أكثر، لكون التحقيق سهل على مثله عند توفر الآلات والكتب المؤلفة عن صفات الرواة... ودراسة الأشخاص وعدالتهم والقدح فيهم من شؤون التاريخ، كما أنه من شؤون علم الحديث، وكان لابن خلدون مناظرات ومساجلات في الرد مع ابن حجر صاحب فتح الباري.
وقد رأينا من يؤيد قول ابن خلدون من العلماء المتقدمين، والراقين في العلم والمعرفة، والاعتصام بالكتاب والسنة، ومنهم: العلامة ابن القيم فقد ذكر في كتابه المنار المنيف عن أحاديث المهدي وضعفها كما سنورد كلامه بطوله في التحقيق المعتبر عن أحاديث المهدي المنتظر من كتابنا هذا فلتراجع.
ومنهم الإمام الشاطبي في كتابه الاعتصام[156] فقد جعل المهديين والإمامية من أهل البدع، ويعني بالمهديين: الذين يصدقون بخروج المهدي، ودونك كلامه بلفظه إثباتًا للحجة والعذر، وإزالة للشبهة والعذل، قال بعد كلام له سبق في المتبعين لأهل الأهواء والبدع:وكذلك من اتبع المهدي المغربي المنسوب إليه كثير من بدع المغرب فهو في الإثم والتسمية مع من اتبع إذا انتصب ناصرًا لها ومحتجًّا عليها.
وقال: ولقد زل بسبب الإعراض عن الدليل، والاعتماد على الرجال أقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين، واتبعوا أهواءهم بغير علم، فضلوا عن سواء السبيل.
وقال: مذهب الفرقة المهدوية التي جعلت أفعال مهديهم حجة، وافقت حكم الشريعة أو خالفت، بل جعلوا أكثر ذلك أنفحة في عقد إيمانهم، من خالفها كفروه وجعلوا حكمه حكم الكافر الأصلي[157].
وبذلك تنقطع حجة من ادعى أنه لم يسبق الإمام ابن خلدون أحد من العلماء في تضعيف أحاديث المهدي، وقد كاد أن ينعقد الإجماع من العلماء المتأخرين من أهل الأمصار في تضعيف أحاديث المهدي، وكونها مصنوعة وموضوعة على لسان رسول الله ﷺ، بدليل التعارض والتناقض، والمخالفات والإشكالات، مما يجعل الأمر جليًّا للعيان، ولا يخفى إلا على ضعفة الأفهام، والله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
ثاني عشر: هو أن النبي ﷺ جاء بجلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد والمضار وتقليلها، وأن التصديق بالمهدي والدعوة إلى الإيمان به يترتب عليه فنون من المضار والمفاسد الكبار، والفتن المتواصلة التي تكون الآخرة منها شر من الأولى، مما ينزه الرسول عن الإتيان بمثلها، فهي من فتنة الحياة التي كان رسول الله ﷺ يستعيذ منها في أدبار الصلوات، وقد لازم الناس الخوف والوجل من الابتلاء بفتنة المدعي أنه المهدي وبشيعته وأعوانه من الشباب الطائش الذين هم الغوغاء والهمج السذج أتباع كل ناعق، ويميلون مع كل صايح، والغوغاء هم عون الظالم ويد الغاشم في كل زمان ومكان، فيترتب على التصديق به فتنة في الأرض وفساد كبير، وما يقع في قلوب الناس من اعتقاده هو أكبر وأنكر، فإن الفتنة أشد من القتل فلا يلام ولا يأثم من أنكره إذ الأصل عدم صحته.
فإن الله سبحانه في كتابه وعلى لسان نبيه لا يوجب الإيمان برجل مجهول في عالم الغيب، وهو من بني آدم، ليس بملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يجب الإيمان به، ثم يترك الناس يتقاتلون على التصديق والتكذيب به، فإن هذا مما ينافي شريعته التي جعلها الله رحمة لعباده ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨﴾[التوبة:128].
فوجود هذا أضر على الناس من عدمه، مع أنه من المحال بأن يكون على صفة ما ذكروا..
أما اعتقاد بطلانه، وعدم التصديق به فإنه يعطي القلوب الراحة والفرح والأمان والاطمئنان، والسلامة من الزعازع والافتنان ﴿وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيًۡٔاۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ ٤١﴾ [المائدة: 41].
إن فكرة المهدي هذه لها أسباب سياسية واجتماعية ودينية، وكلها نبعت من عقائد الشيعة، وكانوا هم البادئين باختراعها، وذلك بعد خروج الخلافة من آل البيت.
واستغلت الشيعة أفكار الجمهور الساذجة، وتحمسهم للدين والدعوة الإسلامية فآتوهم من هذه الناحية الطيبة الطاهرة، ووضعوا الأحاديث يروونها عن رسول الله ﷺ في ذلك، وأحكموا أسانيدها، وأذاعوها من طرق مختلفة فصدقها الجمهور الطيب لبساطته، وسكت رجال الشيعة لأنها في مصلحتهم.
وكانت بذلك مؤامرة شنيعة أفسدت بها عقول الناس، وامتلأت بأحاديث تروى وقصص تقص، نسبوا بعضها إلى النبي ﷺ، وبعضها إلى أئمة أهل البيت، وبعضها إلى كعب الأحبار.
وكان لكل ذلك أثر سيِّئ في تضليل عقول الناس، وخضوعهم للأوهام كما كان من أثر ذلك الثورات والحركات المتتالية في تاريخ المسلمين، ففي كل عصر يخرج داع أو دعاة يزعم أنه المهدي المنتظر، ويلتف حوله طائفة من الناس، ويتسببون في إثارة الكثير من الفتن، وهذا كله من جراء نظرية خرافية هي نظرية المهدي وهي نظرية لا تتفق مع سنة الله في خلقه ولا تتفق مع العقل الصحيح السليم.
* * *
[153] متفق عليه. [154] أخرجه مسلم من حديث عرفجة بن ضريح. [155] أخرجه مسلم من حديث جابر. [156] انظر صفحة 129 وما بعدها. [157] انظر كتاب الاعتصام: 301 وما بعدها.