متقدم

فهرس الكتاب

 

دعوة العلماء والعقلاء إلى الاتحاد على حسن الاعتقاد

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيا معشر العلماء الأجلاء ويا معشر العقلاء الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

تعالوا بنا نجلس على بساط البحث والتحقيق في أحاديث المهدي التي وقع فيها الجدال وكثرة القيل والقال، فننظر إلى صلاحيتها وصحتها، وما يجب الإيمان به منها، وما يجب على المسلمين اعتقاده ومنعه.

فإن البحث نتيجته الفائدة، وملاقاة التجارب من الرجال تلقيح لألبابها، والعلم ذو شجون يستدعي بعضه بعضًا.

ومتى قلنا: إننا مسلمون سلفيون، وعقيدتنا عقيدة أهل السنة والجماعة، فإن هذا الاعتقاد يوجب علينا الاتحاد على كلمة الحق وقول الصدق، فنتفق ولا نفترق. يقول الله تعالى: ﴿وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا [آل عمران: 103] وإنه من المعلوم بطريق اليقين أن الله سبحانه وتعالى خلق الناس متفاوتين في العلوم والأفهام، كما أنهم متفاوتون في العقول والأجسام، ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخۡتَلِفِينَ ١١٨ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ [هود: 118-119].

من ذلك أحاديث المهدي وما يقال في صحتها وصلاحيتها، وما يجب اعتقاده منها، وأنه بمقتضى التحقيق منها والدرس لرواياتها يتبين بطريق اليقين أن فيها من التعارض والاختلاف، وعدم التوافق والائتلاف، ووقوع الإشكالات، وتعذر الجمع بين الروايات ما يحقق عدم صحتها، ويجعل العلماء المحققين من المتأخرين وبعض المتقدمين يحكمون عليها بأنها مصنوعة وموضوعة على لسان رسول الله ﷺ، وليست من كلامه، وينزهون ساحة رسول الله وسنته عن الإتيان بمثلها، إذ الشبهة فيها يقينية، والكذب فيها ظاهر جلي، وحاشا أن يفرض رسول الله على أمته الإيمان برجل من بني آدم مجهول في عالم الغيب لا يعلم زمانه ولا مكانه، وهو ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، ولن يأتي بدين جديد من ربه مما يوجب الإيمان به، ثم يترك أمته يتقاتلون على حساب تحقيقه والتصديق به، ثم يتقدم أحدهم فيحل نفسه محل هذا المهدي المجهول، ويترتب عليه فتنة في الأرض وفساد كبير، وكل الأحاديث التي يوردونها لتحقيق خروجه متناقضة متعارضة، ومختلفة غير مؤتلفة، فما يزعمونه صحيحًا منها فإنه ليس بصحيح في الدلالة على ما ذكروا، وما يزعمونه صريحًا وفيه ذكر المهدي فإنه ليس بصحيح، وجماع القول أنها كلها ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة.

لكن قد يعرض لتحقيق ما قلنا قول بعضهم بأن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال بصحة خروج المهدي، وهو العالم المحقق المشهود له بصحيح الرواية وصريح الدراية.

وأقول: نعم وإنني رأيت لشيخ الإسلام قولاً يثبت فيه بأنه ورد في المهدي سبعة أحاديث رواها أبو داود. وكنت في بداية نشأتي أعتقد اعتقاد شيخ الإسلام، حيث تأثرت بقوله، حتى بلغت سن الأربعين من العمر وبعد أن توسعت في العلوم والفنون، ومعرفة أحاديث المهدي وعللها وتعارضها واختلافها، فبعد ذلك زال عني الاعتقاد السيئ والحمد لله، وعرفت تمام المعرفة بأنه لا مهدي بعد رسول الله، وبعد كتاب الله. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو حبيبنا وليس بربنا ولا نبينا.

وقد قيل: كم فات على العالم النحرير[148] ما عسى أن ينسب فيه إلى الخطأ والتقصير وهو كسائر علماء البشر فلا يحيط بكل شيء علمًا، قد يحفظ شيئًا وينسى أشياء، إذ الكمال لله سبحانه الذي لا راد لحكمه ولا معقب لكلماته. وقد شبهوا زلة العالم بغرق السفينة، يغرق بغرقها الخلق الكثير، وكم غرق في كلمة شيخ الإسلام هذه كثير من العلماء والعوام حين اعتقدوا صحة خروج المهدي، فكان من لقيته من العلماء والعوام يحتج بكلام شيخ الإسلام رحمه الله.

ولعل هذا القول خرج منه في بداية عمره قبل توسعه في العلوم والفنون وهو مجتهد ومأجور على اجتهاده، إذ يقول العالم المحقق قولاً ضعيفًا مرجوحًا فلا يكون المقلد لقوله، والمنتصر لرأيه بمثابته في حصول الأجر، وحط الوزر، بل فرضه الاجتهاد والنظر، فكم من عالم كان يقول أقوالاً في بداية عمره ثم يتبين له ضعفها فيقول بخلافها.

فهذا الإمام الشافعي له أقوال قالها في العراق، وتسمى أقواله القديمة، ثم صار له أقوال جديدة قالها في مصر، وصار العمل على أقواله الجديدة الأخيرة، ومثله الإمام أحمد فإن له في المسألة الواحدة عدة روايات، لكون الاجتهاد في عرفهم يتجدد.

وهذا الدارقطني رد على البخاري في بضعة وثمانين موضعًا في صحيحه، ولا عيب على البخاري ولا على الدارقطني، وحسبك تفرق المذاهب إلى أربعة، وكلُّ يرى عنده دليلاً ليس عند صاحبه ويترضى بعضهم على بعض.

وفي البخاري: أن موسى لما لقي الخضر في مجمع البحرين، وهاله ما رآه من تصرفه من قتله للغلام، وبنائه للجدار الذي يريد أن ينقض، وخرقه لسفينة المساكين الذين يعملون فيها في التكسب في البحر، فضاق صدر موسى من تصرفه، وعيل صبره، فأراد أن يفارقه فقال له الخضر: يا موسى إني على علم من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه لا أعلمه. وقال له أيضًا: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر[149].

وهكذا يقع تفاوت العلماء فيما علموه، والاختلاف فيما فهموه، كما قيل:
وتفاوت العلماء في أفهامهم
في العلم فوق تفاوت الأبدان
يا معشر العلماء والمتعلمين والناس أجمعين:

إنه يجب علينا بأن يكون تعليمنا واعتقادنا قائمًا على أنه لا مهدي بعد رسول الله ﷺ كما لا نبي بعده.
جزى الله عنا كل خير محمدًا
فقد كان مهديًّا وقد كان هاديًا
كما نعتقد بأن رسول الله ﷺ لم يخلف وراءه علمًا ولا دينًا يرتجى حصوله ووصوله على يد المهدي من بعده، لأن الله سبحانه قد أكمل لنا الدين، وأتم به النعمة على المسلمين بإرسال هذا النبي الكريم ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨ [التوبة:128].

وأنزل الله في كتابه المبين ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ [المائدة: 3] فما بعد الكمال إلا النقص، ولا بعد الإسلام إلا الكفر.

وإننا بكتاب ربنا وسنة نبينا لفي غنى واسع عن دين يأتينا به المهدي المنتظر

إذ المهدي ليس بملك مقرّب ولا نبي مرسل، وليس ديننا الذي جاء به كتاب ربنا وسنة نبينا بناقص حتى يكمله المهدي ﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗاۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ١١٥ [الأنعام: 115].

إن رسول الله ﷺ قال في موقف عرفة حين خطبهم تلك الخطبة الطويلة قال فيها: «لَعَلَّكُمْ لَا تَلْقَوْنِي بَعْدَ عَامِي هَذَا»[150]، «وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ»[151]، وفي رواية أخرى: «وَسُنَّتِي»[152] ولم يقل: وتركت من بعدي المهدي، إذ إنه لم يثبت عن رسول اللهﷺ في حديث صحيح صريح أنه ذكر المهدي باسمه.

إن من العلم ما يحسن كتمانه ويضر بيانه لبعض الناس، فقد كان النبي ﷺ يخص ببعض العلم أفرادًا من الناس، يوصيهم بكتمانه خشية أن يفتن الناس، كما خص معاذًا بقوله ﷺ: «مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ». فقلت: وإن زنا وإن سرق. قال: «وَإِنْ زَنَا، وَإِنْ سَرَقَ». فقلت: أفلا أبشر بها الناس؟ فقال: «لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا». متفق عليه. فأمره رسول الله بكتمان هذه البشرى خشية أن يتهاون الناس في فعل المعاصي والمنكرات، اتكالاً على ما سمعوه فيفتنوا، ولم يخبر معاذ بهذا الحديث أحدًا إلا عند موته..

ومثله إخباره حذيفة بأسماء ثلاثين من المنافقين وأمره بكتمانها، فكان الصحابة لا يصلون إلا على من صلى عليه حذيفة، ويسمونه صاحب السر المكتوم.

وقد ترجم له البخاري في صحيحه فقال: (باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا) وساق عن علي: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ وقالوا: إنك لن تحدث الناس بحديث لم تبلغه عقولهم إلا كان عليهم فتنة.

فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإن السياسة الشرعية توجب على العالم بأن يذكّرهم بما ينفعهم، وما يزيد في إيمانهم وتقواهم، وأن يجتنب التذكير بما يفتنهم ويزعزع إيمانهم، ويوقع القلق والاضطراب في مجتمعهم، فإن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وقد قيل: إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره.

من ذلك: تذكير الناس بأن المهدي حق، وأنه سيخرج على الناس لا محالة وأنه يملأ الأرض عدلاً، فإن هذا لا يزيد في الإيمان، ولا في صالح الأعمال ويوقع في الناس الافتتان بين مصدق ومكذب.

مع العلم أن أحاديث المهدي ليست بصحيحة، ولا صريحة، ولا متواترة بل هي كلها مجروحة وضعيفة، والجرح مقدم على التعديل، وقد رجح أكثر العلماء المتأخرين من خاصة أهل الأمصار بأنها كلها مكذوبة على رسول الله، فهي حديث خرافة سياسية إرهابية صيغت وصنعت على لسان رسول الله ﷺ، صنعها غلاة الزنادقة لما زال الملك عن أهل البيت، فأخذوا يرهبون بها بني أمية ويوعدونهم بأنه سيخرج المهدي، وقد حان خروجه فينزع الملك من بني أمية ثم يرده إلى أهل بيت رسول الله إذ إنهم أحق به وأهله.

وكان لعبد الله بن سبأ اليد العاملة في صياغة الحديث، والتلاعب بعقول الناس، وكان يقول: إن المهدي هو محمد ابن الحنفية بن علي بن أبي طالب، وإنه بعث بعد موته وسكن بجبل رضوى في الحجاز بين مكة والمدينة، وإن عنده عين عسل وعين ماء، وسيقود الجموع لقتال بني أمية. وسموا بالسبئية، وفيه يقول كثير عزة وهو سبئيّ:
وسبط لا يذوق الموت حتى
يقود الجيش يقدمه اللواء
تغيب لا يرى فيهم زمانًا
برضوى عنده عسل وماء
وعلى كل حال فإنه متى ساء الاعتقاد ساء العمل، وساءت النتيجة.

ولقد عاش الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون، ثم عاش من بعدهم العلماء والسلف الصالحون ممن كانوا في القرون الثلاثة المفضلة، ثم عاش من بعدهم جميع العلماء والحكام ومنهم: عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود الشهيد، وصلاح الدين الأيوبي، وجميع الناس بعدهم، وفي مقدمتهم شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم، فلم ينقص إيمانهم وتقواهم على عدم وجود المهدي من بينهم لعلمهم واعتقادهم أن الدين كامل بدونه فلا حاجة لهم به خرج أو لم يخرج.

وإننا الآن في العام المتمم للقرن الرابع عشر من السنين، وما يشعرني أنه سيأتي من الزمان أكثر مما مضى حتى تقوم الساعة دون أن يخرج المهدي، والله أعلم.

* * *

[148] النحرير: الماهر الحاذق. [149] أخرجه الإمام أحمد من حديث ابن عباس. [150] أخرجه أبو يعلى من حديث جاير. [151] أخرجه مسلم من حديث جابر. [152] أخرجه البيهقي من حديث زيد بن أرقم.