متقدم

فهرس الكتاب

 

خطبة الرسالة

الحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أما بعد: فإن هذه الرسالة المسماة لا مهديّ يُنتظر بعد الرسول محمد ﷺ خير البشر اخترت لها هذه التسمية لتكون عقيدة حسنة، تتدلل بها الألسنة من كل مسلم ومسلمة، لاعتقادي أنها حقيقة مسلّمة.

بدأتها بدعوة العلماء والطلاب إلى الاتحاد على حسن الاعتقاد من أنه لا مهدي ينتظر بعد الرسول خير البشر؛ لأنني وإن كنت أرى في نفسي أنني أصبت في الرسالة مفاصل الإنصاف والعدل، ولم أنزع فيها إلى ما ينفيه الشرع أو يأباه العقل، لكنني فرد من بني الإنسان الذي هو محل للخطأ والنسيان، وقدمت في الرسالة عقيدة المسلم مع المهدي، ومنها:

أن جميع الناس من العلماء والعوام، في كل زمان ومكان، يقاتلون كل من يدعي أنه الإمام المهدي، لاعتقادهم أنه دجال كذاب، يريد أن يفسد الدين، ويفرق جماعة المسلمين، ويملأ ما استولى عليه جورًا وفجورًا، كما جرى لكثير من المدعين للمهدية، ولن يزالوا يقاتلون كل من يدعي ذلك حتى تقوم الساعة، فأين المهدي والحالة هذه؟

وأن فكرة المهدي ليست في أصلها من عقائد أهل السنة القدماء، فلم يقع لها ذكر بين الصحابة في القرن الأول، ولا بين التابعين، وأن أصل من تبنى هذه الفكرة والعقيدة هم الشيعة الذين من عقائدهم الإيمان بالإمام الغائب المنتظر، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورًا، وهو الإمام الثاني عشر: محمد بن الحسن العسكري، فسرت هذه الفكرة وهذا الاعتقاد، بطريق المجالسة والمؤانسة والاختلاط إلى أهل السنة، فدخلت في معتقدهم، وهي ليست من أصل عقيدتهم.

ثم انتقلت بصورة عامة إلى المجتمع الإسلامي حين نادى بها في الناس عبد الله بن سبأ، المعروف بصريح الإلحاد والعداء للإسلام والمسلمين، فأخذ هو وشيعته يعملون عملهم في صياغة الأحاديث، ووضعها على لسان رسول الله بأسانيد منظمة عن أهل القبور، وأخذوا في نشرها في مجتمع الناس، حتى لا يفقدوا الأمل الذي يرتجونه بزعمهم في إرجاع الحكم إلى أهل البيت، ليزيلوا عنهم الظلم والاضطهاد الواقع بهم من قبل خصومهم بني أمية؛ فهي دعوة سياسية إرهابية.

كما أن بني أمية لما سمعوا بهذه الأحاديث الموجهة لهم من العراق، والتي ترجف بهم تهددهم بالإيقاع بهم، تنبهوا لهذا، فأقاموا السفياني مقام المهدي، وعمل أنصارهم عملهم في وضع الحديث عن رسول الله في السفياني، من ذلك ما روى الحاكم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «يَخْرُجُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: السُّفْيَانِيُّ من دِمَشْقَ، وَعَامَّةُ مَنْ يَتْبَعُهُ مِنْ كَلْبِ، فَيَقْتُلُ حَتَّى يَبْقَرَ بُطُونَ النِّسَاءِ، وَيَقْتُلُ الصِّبْيَانَ»، وذكر بقية الحديث، ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ثم ساق حديثًا ثانيًا في السفياني بلفظ الحديث الأول ومعناه.

فتصحيح الحاكم لأحاديث السفياني، هي بمثابة تصحيحه وتصحيح الترمذي لأحاديث المهدي على حد سواء، وفي الحقيقة أنها كلها غير صحيحة، ولا متواترة، فإن قيل: كيف عرفتم أن هذه الأحاديث الكثيرة المسندة، والمسلسلة عن عدد من الصحابة، بأنها مختلقة وهي في سنن أبي داود، والترمذي، وابن ماجه، ومسند الإمام أحمد، والحاكم، وغيرها من الكتب؟

فالجواب: إن هذه الأحاديث الكثيرة التي تبلغ خمسين حديثًا في المهدي عند أهل السنة، بعضها يزعمونها صحاحًا، وبعضها من الحسان، وبعضها من الضعاف، وقد بلغت ألفًا ومائتي حديث عند الشيعة، والمهدي واحد وليس باثنين تنازعته أفكار الشيعة وأفكار أهل السنة.

فهذه الأحاديث هي التي أخذت بمجامع قلوب الأكثرين من علماء أهل السنة على حد ما قيل، والقوة للكاثر، على أن الكمية لا تغني عن الكيفية شيئًا، وأكثر الناس مقلدة، يقلد بعضهم بعضًا، وقليل منهم المحققون، فإن المحققين من العلماء المتقدمين والمتأخرين، قد أخضعوا هذه الأحاديث للتصحيح والتمحيص، وللجرح والتعديل، فأدركوا فيها من الملاحظات ما يوجب عليهم ردها وعدم قبولها، لأمور:

منها: أن النبي ﷺ بُعث بدين كامل، وشرع شامل، مبني على جلب المصالح وتكثيرها، ودفع المضار وتقليلها، ومن المعلوم أن اعتقاد المهدي، والقول بصحة خروجه يترتب عليه من المضار والمفاسد الكبار، ومن إثارة الفتن، وسفك دماء الأبرياء، ما يشهد بعظمته التاريخ المدروس، والواقع المحسوس، من كل ما يبرأ النبي ﷺ عن الإتيان به، إذ الدين كامل بدونه.

ومنها: أن المهدي الذي يزعمون صحة خروجه، أن اسمه محمد بن عبد الله، وأن صفته أجلى الجبهة، أقنى الأنف. وهذه التسمية بهذه الصفة توجد بكثرة في الطوائف المنتسبين إلى الحسن والحسين، فلا تعطي يقينًا في التعيين، فمتى أتى من انطبعت فيه هذه الأوصاف، وقال: إنني أنا المهدي. فعند ذلك يقع المحذور من إثارة الفتنة بين مصدق به ومكذب، وبين محب ومحارب، فيكون اعتقاده شقاء على العباد طول حياتهم، لوقوع الاشتباه فيه دائمًا، مما يتنافى مع الدين الذي جعله الله رحمة للخلق أجمعين، فقال سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ ١٠٧ [الأنبياء:107]. ومنها: أنه من الأمر المحال أن يوجب النبي ﷺ على أمته التصديق برجل من بني آدم، مجهول في عالم الغيب، وهو ليس بملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يجب الإيمان به، والعمل بموجبه، ثم يترك أمته يتقاتلون على حساب تصديقه والتكذيب به، فإن هذا من الأمر المنافي لسنته وحكمة رسالته، ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨ [التوبة: 128].

ومنها: أننا لسنا بأول من رد هذه الأحاديث، فقد أنكرها بعض العلماء قبلنا، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المنهاج[147] بعد ذكره لأحاديث المهدي:

إن هذه الأحاديث في المهدي قد غلط فيها طوائف من العلماء، فطائفة أنكروها مما يدل على أنها موضع خلاف من قديم بين العلماء، كما هو الواقع من اختلاف العلماء في هذا الزمان.

ومنها: أن هذه الأحاديث لم يأخذها البخاري ومسلم، ولم يدخلاها في كتابيهما، مع رواجها في زمنهما، وما ذاك إلا لعدم ثبوتها عندهما، كما أنه ليس للمهدي ذكر في القرآن، مما يقلل الاحتفال به.

ومنها: تناقض هذه الأحاديث وتعارضها في موضوعها، فمهدي اسمه اسم الرسول، واسم أبيه اسم أبيه، ومهدي اسمه أبو عبد الله، ومهدي يشبه الرسول في الخلق، ولا يشبهه في الخلق، ومهدي يصلحه الله في ليلة، ورجل يخرج هاربًا من المدينة إلى مكة، فيبايع له بين الركن والمقام، ورجل اسمه الحارث بن حران، يوطئ أو يمكّن لآل محمد، ورجل يخرج من وراء النهر، ورجل يبايع له بعد وقوع فتنة عند موت خليفة، ورجل أخواله كلب، وتأتيه الرايات السود من قبل العراق، وأبدال الشام، ومهدي يصلي عيسى ابن مريم خلفه، ومهدي يقال له بحضرة نبي الله عيسى: صل أيها الأمير، فيقول: كل إنسان أمير نفسه، تكرمة الله لهذه الأمة.

فهذه وما هو أكثر منها، مما جعلت المحققين من العلماء يوقنون بأنها موضوعة على لسان رسول الله ﷺ، وأنها لم تخرج من مشكاة نبوته، وليست من كلامه، فلا يجوز النظر فيها، فضلاً عن تصديقها.

فهذه الأحاديث التي رواها أبو داود، والترمذي، وابن ماجه هي التي حملت بعض علماء السنة لكثرتها على التصديق بها، فقبلوها قاعدة مسلّمة، وعقيدة محترمة، سامعين مطيعين لها بدون تفكر ولا تدبر، كالشيخ صديق، والشوكاني، والسفاريني، والشيخ مرعي، والعبادي، وسائر العلماء من المتأخرين. فلو أن هؤلاء حققوا النظر بإمعان وتفكروا في أحاديث المهدي التي رواها أبو داود، وابن ماجه، والترمذي، فقابلوا بعضها ببعض، لعرفوا من مجموعها حقيقة التعارض والاختلاف، ولظهر لهم منها ما يوجب عليهم الرجوع عن التصديق بها، وكون أكثرها قضايا أحداث وقعت مع أشخاص، ولا ذكر للمهدي فيها.

وكل حديث يذكر فيه المهدي فإنه ضعيف، كحديث علي مرفوعًا: «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلا يَوْمٌ، لَبَعَثَ اللهُ رَجُلًا مِنَّا، يَمْلَؤُهَا عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا». ومثله عن علي رضي الله عنه مرفوعًا: «الْمَهْدِيُّ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ». وكذا عن علي رضي الله عنه: ونظر إلى ابنه الحسن فقال: إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله، وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم، يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق. ومثله: حديث أم سلمة مرفوعًا: «الْمَهْدِيُّ مِنْ عِتْرَتِي، وَمِنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ». رواها كلها أبو داود في سننه وغيره.

وقد أعرض أكثر العلماء المحدثين عن إثبات أحاديث كثيرة في كتبهم عن أهل البيت، لتسلط الغلاة على إدخال الشيء الكثير من الكذب في فضائلهم، كما تحاشى عنها البخاري ومسلم، والنسائي والدارقطني والدارمي، فلم يذكروها في كتبهم المعتمدة، وما ذاك إلا لعلمهم بضعفها، مع العلم أن الدارمي هو شيخ أبي داود والترمذي، وقد نزه مسنده عن أحاديث المهدي، فلا ذكر لها فيه.

ثم إن من عادة العلماء المحدثين، والفقهاء المتقدمين، أن بعضهم ينقل عن بعض الحديث والقول على علاته، تقليدًا لمن سبقه، كما ذُكر عن الإمام أحمد أنه كان يستعير الملازم من طبقات ابن سعد، فينقلها، ثم يردها إليه، ذكروا ذلك في ترجمة ابن سعد، وكان الشافعي يقول للإمام أحمد: إذا ثبت عندك الحديث فارفعه إليَّ حتى أثبته في كتابي. وكذلك سائر علماء كل عصر، ينقل بعضهم عن بعض، فمتى كان الأمر بهذه الصفة فلا عجب متى رأينا أحاديث المهدي تنتشر في كتب المعاصرين لأبي داود كالترمذي وابن ماجه، لخروج الحديث من كتاب، إلى مائة كتاب، وانتقال الخطأ من عالم إلى مائة عالم، لكون الناس مقلدة، وقليل منهم المحققون المجتهدون، والمقلد لا يعد من أهل العلم.

وقد عقدت في الرسالة فصلاً عنوانه التحقيق المعتبر في أحاديث المهدي المنتظر شرحت فيه سائر الأحاديث التي رواها أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والإمام أحمد، والحاكم بما لا مزيد عليه فليراجع. وبينت في الرسالة أن أحاديث المهدي ليست بصحيحة، ولا صريحة، ولا متواترة بالمعنى، وقد أسلفنا كلام الشيخ ابن تيمية رحمه الله فيها، وأن طائفة أنكروها بتاتًا، ومثله العلامة ابن القيم رحمه الله، فقد قال في كتابه: المنار المنيف في الصحيح والضعيف: اختلف الناس في المهدي على أربعة أقوال:

أحدها: أنه المسيح ابن مريم، وهو المهدي على الحقيقة.

الثاني: أنه المهدي بن المنصور، الذي ولي من بني العباس، وقد انتهى زمانه.

الثالث: أنه رجل من أهل بيت النبي ﷺ، من ولد الحسن بن علي، يخرج في آخر الزمان. وأكثر الأحاديث على هذا.

الرابع: قول الإمامية، أنه محمد بن الحسن العسكري.

فهذه الأقوال على اختلافها، تدل على أن القضية هي موضع نزاع وخلاف في قديم الزمان وحديثه، وليست بموضع اتفاق.

ومن لوازم قوله أن ما يزعمونه من خروج المهدي المجهول في عالم الغيب، أنه لا حقيقة له، لكن المتعصبين لخروجه لما طال عليهم الأمد، ومضى من الزمان أربعة عشر قرنًا -وما يشعرني أن يأتي من الزمان أكثر مما مضى بدون أن يروه حتى تقوم الساعة- لهذا أخذوا يمدون في الأجل ليثبتوا بذلك استقامة قولهم عن السقوط، فأخذوا يبثون في الناس بأنه لن يخرج إلا زمن عيسى ابن مريم، مع العلم أن الأحاديث التي بأيديهم، والتي يزعمونها صحيحة ومتواترة والتي رواها الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، أنها وردت مطلقة لم تقيد بزمن عيسى عليه السلام، إلا حديث صلاة عيسى خلف المهدي، قال الذهبي وعلي القاري: إنه موضوع، أي مكذوب، فسقط الاحتجاج به.

وكلام العلماء من المتأخرين كثير، وأعدل من رأيته أصاب الهدف في قضية المهدي هو: أبو الأعلى المودودي، حيث قال في رسالة اسمها البيانات عن المهدي:

إن الأحاديث في هذه المسألة على نوعين، أحاديث فيها الصراحة بكلمة المهدي، وأحاديث إنما أخبر فيها بخليفة يولد في آخر الزمان، ويعلي كلمة الإسلام. وليس سند أي رواية من هذين النوعين من القوة حيث يثبت أمام مقياس الإمام البخاري لنقد الروايات، فهو لم يذكر منها أي رواية في صحيحه، وكذلك ما ذكر منها الإمام مسلم إلا رواية واحدة في صحيحه، ولكن ما جاءت فيها أيضًا الصراحة بكلمة المهدي.

وقال: لا يمكن بتأويل مستبعد أن في الإسلام منصبًا دينيًّا يعرف بالمهدوية يجب على كل مسلم أن يؤمن به، ويترتب على عدم الإيمان به طائفة من النتائج الاعتقادية والاجتماعية في الدنيا والآخرة.

وقال: مما يناسب ذكره بهذا الصدد، أنه ليس من عقائد الإسلام عقيدة عن المهدي، ولم يذكرها كتاب من كتب أهل السنة للعقائد، انتهى.

والحاصل الذي نعتقده، وندين الله به، أنه لا مهدي ينتظر بعد الرسول محمد خير البشر، وأنه لا ينكر على من أنكره، إذ إنكاره لا ينقص من الإيمان، وإنما يتوجه الإنكار على من يجادل في وجوده، وصحة خروجه.. والله أعلم.

* * *

[147] راجع منهاج السنة النبوية: 4/211.