متقدم
 

[عدد الأنبياء وما جاء في ذلك]

فعن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: «مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا». قلت: يا رسول الله كم الرسل منهم؟ قال: «ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، جَمٌّ غَفِيرٌ». قلت: يا رسول الله من كان أولهم؟ قال: «آدَمُ». قلت: يا رسول الله أنبي مرسل؟ قال: «نعم، خلقه الله بيده، ثم نفخ فيه من روحه، ثم سوّاه قبيلاً» ثم قال: «يَا أَبَا ذَرٍّ؛ أَرْبَعَةٌ سُرْيَانِيُّونَ: آدَمُ، وَشِيثُ، وَنُوحٌ، وخنوخ -وَهُوَ إِدْرِيسُ-، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ،. وَأَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ: هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَنَبِيُّكَ. يَا أَبَا ذَرٍّ؛ وأول نبي من بني إسرائيل موسى، وآخرهم عيسى، وأول النبيين آدم، وآخرهم نبيّك». قلت يا رسول الله كم كتابًا أنزله الله؟ قال: «مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل على شيث خمسين صحيفة، وأنزل على أخنوخ ثلاثين صحيفة، وأنزل على إبراهيم عشر صحائف، وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان».

وقد روى هذا الحديث الحافظ أبو حاتم ابن حبان البستي في كتابه: الأنواع والتقاسيم. وقد وسمه بالصحة، وخالفه أبو الفرج بن الجوزي، فذكر هذا الحديث في كتابه: الموضوعات واتهم به إبراهيم بن هشام. هذا ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل، من أجل هذا الحديث، والله أعلم.

واعلم أن الإيمان بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، هو مما اتفقت على وجوبه جميع الأنبياء.

يقول الله: ﴿۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ [البقرة: 177].

فالإيمان بجميع الأنبياء، وتصديقهم في كل ما أخبروا به من أُمور الغيب، وطاعتهم في كل ما أمروا به، ونهوا عنه، واجبة.

ولهذا أوجب الله سبحانه الإيمان بكل ما أتوا به. قال تعالى: ﴿قُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ١٣٦ فَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ وَّإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا هُمۡ فِي شِقَاقٖۖ فَسَيَكۡفِيكَهُمُ ٱللَّهُۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ١٣٧ [البقرة: 136-137].

فقد اتفق علماءُ الملة على كفر من كذّب نبيًّا معلوم النبوة، وكذا من سبّ نبيًّا لكون الإيمان واجبًا بجميع الأنبياء، وأن لا نُفرّق بين أحد منهم. يقول الله سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيۡنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَيَقُولُونَ نُؤۡمِنُ بِبَعۡضٖ وَنَكۡفُرُ بِبَعۡضٖ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا ١٥٠ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ حَقّٗاۚ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا ١٥١ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَلَمۡ يُفَرِّقُواْ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ أُوْلَٰٓئِكَ سَوۡفَ يُؤۡتِيهِمۡ أُجُورَهُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ١٥٢ [النساء: 150-152].

وهذا التفريق الذي ذمه الله، بما أنه محمول على الإيمان ببعضهم، فإنه أيضًا يشمل إثبات الرسالة لبعضهم، ونفيها عن بعضهم. والله سبحانه قد فضل بعض الأنبياء على بعض، فقال سبحانه: ﴿۞تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۘ [البقرة: 253].

أما عددهم: فقد جاء في حديث أبي ذرٍّ المذكور، وقد تكلم عليه الوليّ العراقي بما يحقق وضعه وبطلانه، وعدم صحته. ورد على ابن حبان، جماعة من العلماء الحفّاظ، وانتقدوا عليه إدخال هذا الحديث في صحيحه.

وفي كتاب: الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قول الإمام أحمد رضي الله عنه في الرسل وعددهم، أنه يجب الإيمان بهم في الجملة، لعدم صحة الحديث الوارد فيه.

وذكر محمد بن نصر المروزي وغيره من أئمة السلف نحو هذا الكلام، مما يبين أنهم لم يعلموا عدد الكتب والرسل، وأن حديث أبي ذرٍّ في ذلك لم يثبت عندهم. انتهى كلام شيخ الإسلام[139].

وحاصل ما تقدم: أنه يجب الإقرار بهم في الجملة، ثم الكف عن عددهم، لعدم ثبوت ما يدل عليه.

وسنتكلم الآن على حديث أبي ذرٍّ، مما يبين بطلانه وعدم صحته من ظاهر لفظه.

فأولاً: قوله: قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: «مِائَةُ أَلْفٍ وَعِشْرُونَ أَلْفًا». قلت: كم الرسل منهم؟ فقال: «ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، جَمٌّ غَفِيرٌ».

فهذا العدد بهذه الصفة، وبهذا التفريق، يبطله صريح القرآن الكريم في قوله سبحانه: ﴿وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَيۡكَۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا ١٦٤ [النساء: 164] وهي آية مدنية، فلا يمكن أن تنسخ بمثل هذا الحديث الضعيف.

وقوله سبحانه: ﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ مِنۡهُم مَّن قَصَصۡنَا عَلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّن لَّمۡ نَقۡصُصۡ عَلَيۡكَۗ [المؤمن: 78]، فالاشتغال بعدد الأنبياء، هو مما يشغل الأذهان ولا يزيد في الإيمان، وهو صريح لمخالفة ما أبهمه القرآن الكريم.

فلو طلبنا من المجادلين بصحة ذلك تسمية ثلاثة أشخاص من الأنبياء، هم أنبياء، وليسوا برسل، لم يحيطوا علمًا بمعرفتهم.

ثانيًا: قوله في الحديث: قلت: يا رسول الله مَنْ أول الرسل؟ قال: «آدم» قلت: أنبي مرسل؟ قال: «نعم».

فهذا أيضًا مما يدل على عدم صحة الحديث؛ لأن القرآن لا يثبت لآدم نبوة ولا رسالة، وما كان ربك نسيًّا. وإنما هو أبو البشر، يذنب فيتوب، يقول الله تعالى: ﴿وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ ١٢١ ثُمَّ ٱجۡتَبَٰهُ رَبُّهُۥ فَتَابَ عَلَيۡهِ وَهَدَىٰ١٢٢ [طه: 121-122].

وأصح، وأصرح ما ورد في فضله هو قوله سبحانه: ﴿۞إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحٗا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ ٣٣ [آل عمران: 33]، وليس فيها ما يدل على نبوّته بالصراحة، لكون الاصطفاء افتعال من الصفوة، ولا يلزم أن تكون نبوة. يقول الله تعالى: ﴿وَإِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصۡطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٤٢ [آل‌عمران:42].

ومن المعلوم أن مريم ليست بنبيّة، وإنما هي امرأة صالحة من صفوة نساء العالمين. والصحيح أن أول الرسل نوح وآخرهم محمد ﷺ، وحتى آدم نفسه يعترف بأن أول الرسل نوح. كما في حديث الشفاعة الذي رواه أنس وأنه: «يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْهَمُونَ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا عَلَى رَبِّنَا، فَأَرَاحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، حَتَّى يُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَقُولُ لَهُمْ آدَمُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ ذَنْبَهُ الَّذِي أَصَابَ فَيَسْتَحْيِي من رَبَّهُ عز وجل وَيَقُولُ: وَلَكِنْ ائْتُوا نُوحًا، فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ». رواه البخاري. وهذا الحديث قاطع للنزاع، ويعيد الخلاف إلى مواقع الإجماع.

ثم إن القائلين بنبوة آدم، ليس عندهم دليل سوى محض الظن والتخمين، يقولون: إنه لا يمكن أن يبقى آدم وذريته في حياتهم بدون وحي ينظم أحوالهم ويبيّن لهم فرائضهم، وأحكامهم. ويستدلون بقوله سبحانه: ﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمۡ عَلَى ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ [البقرة: 31]. وهذا التعليم، وهذا العرض، إنما هو للأرواح قبل خلق آدم، فلا حجّة فيه، ولن ننسى في هذا الحديث الوارد في عرض الأرواح - على ضعفه - وهو أن الله سبحانه عرض على آدم ذريته كالذر، «فرأى رجلاً هو أضوؤهم، قال: يا رب، من هذا؟ قال: هذا ابنك داود. قال: يا رب، كم عمره؟ قال: ستون سنة. قال: يا رب، زده من عمري أربعين سنة. ثم إنها مضت الأيام والليالي، فلما انتهى عمر آدم وحان الحين لقبض أجله، جاءه ملك الموت لقبض روحه، فقال له آدم: إنك استعجلت عليَّ وإنني أعدّ الأيام والليالي، وقد بقي من عمري أربعون سنة. فقال: إنك وهبتها لابنك داود، فجحد أن يكون وهبها له». قال: «فجحد آدم، وجحدت ذريته، ونسي، فنسيت ذريته، فمن ثم أمر الله بالكتابة والشهود»[140].

ثم إن الناس من لدن خلق آدم وهم يولدون على الفطرة التي هي معرفة الخير ومحبته، فيلهمون فعل ما ينفعهم، واجتناب ما يضرهم، وقد يذنبون، فيتوبون وقد لا يتوبون، كما في حادثة ابني آدم، حين قتل أحدهما أخاه ولم يهتد إلى كيفية دفنه، حتى دلّه غراب يبحث في الأرض، ليريه كيف يواري سوأة أخيه، وكان هذا أول قتيل دفن في الأرض، ولهذا ورد: «مَا قُتِلَ قَتِيْلٌ ظُلْمًا، إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ»[141]. وكما يوجد في زماننا هذا أُمم من الناس لم تبلغهم الدعوة، ولا الشريعة، فيعيشون متعاشرين متعاملين، ويوصفون بأنهم ممن لم تبلغهم الدعوة، كحالة زمان الفترة. والله سبحانه، بحكمته وعدله، لا يعذب أمّة حتى يبعث إليها رسولاً فيعصون أمره، قال الله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا ١٥ [الإسراء: 15].

وأما قول بعضهم: إن نبي الله إدريس كان قبل نوح، كما أشار إليه العلامة ابن كثير في التفسير، فهذا قول لا حظ له من الدليل، ويخالف نصوص القرآن والسنة.

وقد قال بعض العلماء: إن إدريس من أنبياء بني إسرائيل، وهذا أقرب إلى المعقول والمنقول.

وقد رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية قد ذكر في كتاب الإسلام والإيمان نبوة آدم عليه السلام، وهو اجتهاد منه رحمه الله.

الأمر الثالث مما يحقق عدم صحة حديث أبي ذرٍّ: قوله: «وأول نبي من بني إسرائيل هو: موسى، وآخرهم عيسى» فهذا واضح البطلان، بالدليل والبرهان، وبالسنة والقرآن، فإن أول نبي من بني إسرائيل هو: يوسف الصديق -عليه الصلاة والسلام- فهو الذي أسس دولة بني إسرائيل بمصر، واستدعى أباه وإخوته من القدس إلى مصر. وإسرائيل اسم يعقوب نبي الله، وبين يوسف الصديق، وبين موسى سنون طويلة، لا يعلم عددها إلا الله تعالى.

وحكى الله تعالى عن يوسف، بعدما جمع الله شمله بأبيه وإخوته، فقال: ﴿۞رَبِّ قَدۡ ءَاتَيۡتَنِي مِنَ ٱلۡمُلۡكِ وَعَلَّمۡتَنِي مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِۚ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَنتَ وَلِيِّۦ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ تَوَفَّنِي مُسۡلِمٗا وَأَلۡحِقۡنِي بِٱلصَّٰلِحِينَ ١٠١ [يوسف: 101].

وأما كون آخر أنبياء بني إسرائيل عيسى، فهذا صحيح بلا نزاع، فليس بعد عيسى أحد من الأنبياء سوى محمد نبينا ﷺ.

والحاصل: أن حديث أبي ذرٍّ في عدد الأنبياء والرسل، وتفريقه بين الأنبياء والرسل، هو حديث موضوع، أي مكذوب على أبي ذرٍّ وعلى رسول الله ﷺ، فلا يجوز لأحد أن يحدث به الناس إلا في حالة بيانه لبطلانه، ليحذر الناس عن الاغترار به، إذ الموضوع هو المكذوب وقد اتهموا بوضعه إبراهيم بن هشام.

وقد قال السيوطي في ألفية الحديث:
والخبر الموضوع شرّ الخبر
وذكره لعالم بهِ احظرِ
فمتى تحققنا من وضع هذا الحديث، تبين لنا بطلان ما تضمنه من عدد الأنبياء، وتقسيمهم بين الأنبياء والرسل، وأن هذا التقسيم لا صحة له، إذ الأنبياء هم الرسل، مخرجهما في القرآن واحد، فأحيانًا يعبر عنهم باسم الأنبياء، وهو الأكثر، كقوله سبحانه: ﴿قُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ١٣٦ [البقرة: 136]، فذكرهم في هذه الآية باسم النبيين، ونهى عن التفريق بينهم. وأحيانًا يعبّر عنهم باسم الرسل، كقوله سبحانه: ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ [البقرة: 285]، فذكرهم هنا باسم الرسل، ونهى عن التفريق بينهم في الآيتين كلتيهما.

ومن نوع التفريق إثبات الرسالة لبعضهم، ونفيها عن بعضهم بدون دليل، فتسمية الأنبياء بالرسل لا تدل على المغايرة، إذ التسمية متنوعة، والمسمّى واحد.

وله نظائر كثيرة، منها: القرآن الكريم، فإن اسمه القرآن، والفرقان، والذكر. ومثل جبريل عليه السلام فإن اسمه في القرآن: جبريل، ويسمى الروح الأمين، ويسمّى روح القدس، والمسمى واحد. ومثل مكة المكرمة فإنها تسمّى في القرآن: مكة، وبكة، وأُم القرى، والبلد الأمين، والمسجد الحرام. ومثل تسمية المسلمين في القرآن، فإن اسمهم: المسلمون، والمؤمنون، وعباد الله، كما في الحديث، أن النبي ﷺ قال: «ادْعُوا بِدَعْوَى اللهِ الَّذِي سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ، عِبَادَ اللَّهِ» [142]. فالأسماء متنوعة، والمسمّى واحد.

وقد دخلت طائفة البهائية والقاديانية من فجوة هذا التفريق بين الأنبياء والرسل، لزعمهم أن الرسالة مكتسبة، وأن بابها مفتوح، وأنها لم تختم بمحمد رسول الله ﷺ، ولمّا استدل عليهم بعض المسلمين بقوله سبحانه: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ [الأحزاب: 40]. فقالوا: نعم، إنه خاتم النبيين، وليس بخاتم المرسلين، فكأنهم وجدوا في هذا التفريق الذي لا صحة له فجوة يدخلون من جهتها إلى باطلهم في إثبات الرسالة لبهاء الله الميرزا علي أحمد، كما في الطريقة القاديانية، القائلين برسالة رجل يدعى ميرزا غلام أحمد من سكنة قاديان بالهند، تشابهت قلوبهم وأكثرهم فاسقون.

قال العلامة ابن كثير -رحمه الله-: قد أخبر الله سبحانه في كتابه، والسنة المتواترة عن رسول اللهﷺ أنه لا نبي بعده، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فإنه كذاب، أفّاك، دجّال، ضال، مضل، حتى ولو أتى بما أتى به، فإنها محال، وضلال. انتهى.

قال: ثبت بالقرآن والسنة وإجماع الأمّة؛ أن محمدًا رسول الله، هو خاتم النبيين والمرسلين، فلا نبي ولا رسول بعده، يقول الله تعالى: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَۗ [الأحزاب: 40]. وفي صحيح البخاري، عن النبي ﷺ أنه قال: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ، خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي».

وفي صحيح البخاري، عن أبي هريرة أيضًا: أن النبي ﷺ قال: «أَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ».

وفي رواية لمسلم، عن جابر قال: «أَنَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ، جِئْتُ فَخَتَمْتُ الْأَنْبِيَاءَ». وروى الإمام أحمد بسنده، عن أبي الطفيل، أن رسول الله ﷺ قال: «لَا نُبُوَّةَ بَعْدِي إِلَّا الْمُبَشِّرَاتِ». قيل: وما المبشرات؟ قال: «الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ -وفي رواية-: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ».

وروى البرقاني في صحيحه، عن ثوبان، أن النبي ﷺ قال: «إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ، وَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهِمُ السَّيْفُ لَمْ يُرْفَعْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَلْحَقَ حَيٌّ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ، وَحَتَّى تُعْبَدَ فِئَةً مِنْ أُمَّتِي الْأَوْثَانَ، وَأَنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلَاثُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، لَا نَبِيَّ بَعْدِي وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةٌ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى».

ثم إن السنة تفسر القرآن وتبيّنه وتدل عليه وتعبر عنه، وهي تذكر الأنبياء دائمًا بدلاً من الرسل، ففي صحيح مسلم، عن ابن عمر قال: كنا مع النبي ﷺ في سفر، فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح جشره، ومنا من ينتضل، إذ نادى منادي رسول الله ﷺ: الصلاة جامعة، فاجتمعنا، فقال: «إِنَّهُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ عَنْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ هَذِهِ الأمة جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، تَجِيءُ الْفِتَنُ يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ....» إلى آخر الحديث.

فأخبر النبي ﷺ: أنه ما من نبي من الأنبياء، إلا كان حقًّا واجبًا عليه أن يدل أُمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم عن شر ما يعلمه لهم، فأين هذا النبي الذي لا تجب عليه الدعوة، ولا تبليغ الرسالة؟!!.

لأن هذا هو مقتضى أمانة نبوتهم، لأنه إنما سُمي نبيًّا من أجل أن الله ينبئه من وحيه بما يشاء، كما قال سبحانه: ﴿قَدۡ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنۡ أَخۡبَارِكُمۡۚ [التوبة: 94] ثم هو ينبئ عن الله وحيه، أمره ونهيه، وحلاله وحرامه، وسائر فرائضه وأحكامه. فهذه وظيفة جميع الأنبياء، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِمۡ فِعۡلَ ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَوٰةِۖ وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَ ٧٣ [الأنبياء: 73].

أما نبي يوحى إليه بشرع، ولم يؤمر بتبليغه، فهذا إنما يوجد في الأذهان دون الأعيان، ويجب تنزيه الأنبياء عن الاتصاف به، ومثله قوله ﷺ: «مثلي ومثل الأنبياء قبلي، كمثل رجل بنى دارًا فأتقنها وجمّلها إلا موضع لبنة منها، ثم صنع مأدبة، ودعا الناس إليها، فجعلوا يعجبون من حسنها، إلا موضع تلك اللبنة. قال: فأنا موضع اللبنة، جئت فختمت الأنبياء» رواه مسلم عن جابر، قال: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ»[143]، وقال: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ بَنُو عَلَّاتٍ» [144]. الدين واحد، والشرائع متفرقة يعني أن لكل نبي شريعة من الصلاة والزكاة والصيام والحلال والحرام تناسب حالة أمته وزمانه، غير شريعة الآخر، قال تعالى: ﴿لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗاۚ [المائدة: 48].

ثم جاءت شريعة محمد رسول الله ﷺ مهيمنة وحاكمة على جميع الشرائع، لأن كلّ نبي يبعث إلى قومه خاصة، وقد بعث رسول الله ﷺ إلى الناس كافة، قال تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا [الأعراف: 158] وقال: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا [سبأ: 28] ولما رأى رسول الله ﷺ مع عمر قطعة من التوراة قال: «يا عمر قد جئتكم بها بيضاء نقية، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ولو كان أخي موسى حيًّا ما وسعهُ إلا اتّباعي» [145].

فبما أن رسول الله ﷺ هو خاتم المرسلين فكذلك شريعته هي خاتمة الشرائع.

فلا يجوز لأحد أن يتعبد بشريعة غير شريعته، إذ هي المهيمنة على سائر الشرائع، والحاكمة عليها، يقول الله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ١٨ [الجاثية: 18].

ومثله ما ورد في القرآن بكثرة من تسمية الإسلام أحيانًا والإيمان أحيانًا، وتسمية المسلمين أحيانًا وتسمية المؤمنين أحيانًا.

والصحيح أن الإسلام متى أطلق في القرآن فإنه يراد به الإيمان، والإيمان يراد به الإسلام.

لكنه عند التفصيل يراد بالإيمان مجرد التصديق الجازم بالقلب، والإسلام مجرد العمل بالأقوال والجوارح.

فلا يصح إيمان بدون إسلام كما لا يصح إسلام بدون إيمان... وفي البخاري من حديث ابن عباس أن النبي ﷺ قال لوفد عبد القيس: «آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ» ففسر الإيمان بعمل الإسلام.

وقد شبههما بعض العلماء بالشهادتين، فشهادة أن لا إله إلا الله، لا تصح إلا بشهادة أن محمدًا رسول الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله، لا تصح إلا بشهادة أن لا إله إلا الله.

وقد أكثر القرآن من قرنه الإيمان بالأعمال الصالحات التي هي أعمال الإسلام كقوله سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونٖ ٨ [فصلت: 8] في كثير من الآيات.

أما قوله سبحانه: ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡ [الحجرات: 14].

فإن الصحابة لمّا لقوا المشركين وغشَوهم بسيوفهم أقبلوا يقولون: آمنا آمنا، ومنهم من قال: صبأنا صبأنا. فقال الله: ﴿قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ ، أي إلى حد الآن، ﴿وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ. أي أن التصديق الجازم بأن الدين حق ورسول الله حق والقرآن حق فهو لم يدخل في قلوبهم إلى حد الآن، كما قال سهيل بن عمرو في صلح الحديبية لما قال رسول الله لعليٍّ: «اكْتُبْ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ». قال سهيل: لا تكتب رسول الله. فلو كنا نعلم أنه رسول الله ما قاتلناه.

وهذا معنى قوله: ﴿وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا. أي استسلمنا وخضعنا. فقول بعضهم: إن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنًا، هذا خطأ تناقله الناس فيما بينهم فإنه لا يوجد مسلم ليس بمؤمن في ظاهر الحكم، حتى المنافقون فإنهم يدخلون في مسمى المؤمنين في ظاهر الحكم، لأنهم يعاملون في الدنيا بالظاهر من أعمالهم والله يتولى الحكم في السرائر. ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان والإسلام.

يبقى الكلام في المكثرين من موبقات الفسوق والعصيان ثم يموتون وهم على ذلك ولم يوجد منهم ما يوجب ردتهم، فهؤلاء يعبر عن أحدهم بأنه مؤمن بإيمانه وفاسق بكبيرته، أو يعبرون عن أحدهم بأنه ناقص الإيمان. وقد قال السفاريني في عقيدته.
ويفسق المؤمن بالكبيره
كذا إذا أصرّ على الصغيره
ثم قال:
لا يخرج المرء من الإيمان؟
بموبقات الذنب والعصيان
وواجب عليه أن يتوبا
من كل ما جر عليه حوبا
وقال:
ومن يمت ولم يتب من الخطا
فأمره مفوض لِذي العطا
فإن يشأ يعفو وإن شاء انتقم
وإن يشأ أعطى وأجزل النعم
ومما يدل على أن الإسلام متى أطلق في القرآن فإنه يراد به الإيمان قوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ ١٠٢ [آل عمران: 102]، أي مؤمنون، وقوله سبحانه: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ ١٣٢ [البقرة: 132] أي مؤمنون. وفي دعوة يوسف عليه السلام: ﴿أَنتَ وَلِيِّۦ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ تَوَفَّنِي مُسۡلِمٗا وَأَلۡحِقۡنِي بِٱلصَّٰلِحِينَ ١٠١ [يوسف: 101] يعني مؤمنًا، لكون الأنبياء يسألون أعلى المراتب عند الله. وفي كتاب رسول الله لهرقل حيث ضمنه قوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُولُواْ ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ ٦٤ [آل عمران: 64] أي مؤمنون. فلا نجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله مسلمًا ليس بمؤمن أبدًا. والنبي قال: «فَادْعُوا بِدَعْوَى اللهِ الَّذِي سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ، عِبَادَ اللَّهِ» [146]. فالمسلم هو المؤمن والمؤمن هو المسلم.

واعلم أن بعض العلماء قد ينبو فهمهم عن قبول ما أقول، لزعمهم أنه خلاف ما قاله العلماء قبلي، وخلاف ما يعتقده جميع الناس من العلماء والعوام، ولا غرابة في هذا، فإن السنن قد تخفى على بعض الصحابة، ومن بعدهم من الأئمة، فضلاً عن غيرهم، فيحكمون بخلافها ثم يتبين لهم وجه الصواب فيها، فيعودون إليه؛ لكون الإحاطة بكل العلوم غير حاصلة لأحد، والإنسان مهما بلغ من سعة العلم ما بلغ، فإنه سيحفظ شيئًا وتضيع عنه أشياء.

وصنف شيخ الإسلام ابن تيمية رسالة سماها، رفع الملام عن الأئمة الأعلام. أشار فيها إلى أن بعض السنن تخفى على بعض الصحابة والأئمة فيعذرون حينما يحكمون بخلافها؛ لكونها لم تبلغهم عن طريق صحيح ثابت تقوم به الحجة عندهم، فيحكمون بخلافها حسب اجتهادهم، لأنهم مجتهدون إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطؤوا فلهم أجر.

وأنه كلما رسخ علم الشخص في القرآن، والحديث، والتفسير، وأُعطي حظًّا من سعة البحث في التحقيق، والتدقيق، وحكمة الاستنباط للمسائل الخفية من مظانها، بحيث يخرجها من حيز الخفاء والغموض إلى حيز التجلي والظهور، بالدليل الواضح، ولم يجمد رأيه وفهمه على عبارات المتقدمين قبله، فإنه والحالة هذه، سيجد سعة لعذرنا، ومندوحة عن عذلنا فيما طرقناه من هذه المواضيع التي هي غير معروفة، ولا مألوفة في عرفهم، ويحمل كلامنا على المحمل الحسن اللائق به، فإن الفقيه الحر يجب عليه أن يربط الأُصول بعضها ببعض، فيخصص الشيء بالشيء ويقيس النظير بنظيره، ويربط المعنى الغريب بالأصل المأخوذ من قريب، مما يدل على المعنى المراد به.

وقد عملت جهدي في تشخيص هذه القضية، بالأدلة القويمة القوية، والمألوفة المعروفة حيث تقبلها العقول، ويتلقاها العلماء بالقبول، لاعتبار أن باب الاجتهاد في الجزئيات غير مقفول -والله أعلم- وصلى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

* * *

[139] نقله عنه السفاريني في لوامع الأنوار ص253 من المجلد الثاني. [140] أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة. [141] متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود. [142] أخرجه الترمذي من حديث الحارث الأشعري. [143] الحديث في مسلم بلفظ مقارب من حديث عمر بن الخطاب. [144] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [145] أخرجه الإمام أحمد وابن أبي شيبة. [146] أخرجه الترمذي من حديث الحارث الأشعري.