[سبب انتشار دعوة التفريق بين الأنبياء والرسل]
وأول من رأيناه تكلم بهذا التفريق بين النبي والرسول، هو الإمام النووي. فتلقاه الناس عنه، وهو إنما أخذه من الحديث الموضوع المنسوب إلى أبي ذرٍّ في التفريق بين الأنبياء والرسل! وسيأتي الكلام على بيانه بما يقتضي بطلانه.
وليست هذه بأول غلطة دخلت في عقائد الناس، وتناقلوها من جراء الأحاديث الموضوعة، التي عملت التأثير في الأُمّة، في إدخال البدع، وتغيير السنن، إذ تأبى حكمة الله، وحكمة بعثته لأنبيائه، أن يكون فيهم من أُوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه!
يقول الله سبحانه: ﴿۞إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيۡمَٰنَۚ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا ١٦٣ وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَيۡكَۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا ١٦٤ رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا ١٦٥﴾ [النساء: 163-165].
فذكرهم أولاً باسم النبيين، ثم ذكرهم في آخر الآيات باسم الرسل. والمعنى واحد، كما أن نبينا محمدًا ﷺ نبي رسول، يخاطبه القرآن بقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا ٤٥ وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجٗا مُّنِيرٗا ٤٦﴾ [الأحزاب: 45-46]، وبقوله: ﴿۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥ﴾ [المائدة: 67].
وقد وصف الله الأنبياء بحمل رسالة ربهم، فقال سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِي قَرۡيَةٖ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّآ أَخَذۡنَآ أَهۡلَهَا بِٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمۡ يَضَّرَّعُونَ ٩٤﴾ [الأعراف: 94]
وقال: ﴿وَكَمۡ أَرۡسَلۡنَا مِن نَّبِيّٖ فِي ٱلۡأَوَّلِينَ ٦﴾ [الزخرف: 6]، (وكم) يؤتى بها للتكثير، أي عدد كثير. وقال: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ ٥٢﴾ [الحج: 52]، فسماهم سبحانه مبشرين ومنذرين، كما سماهم مرسلين. فهذه الآيات لا تبقي مجالاً للجدل. وكيف يتلاءم صفة النبي الذي أُوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، مع الوعيد الشديد على كتمان العلم، وعدم بيانه؟!! في قوله تعالى: ﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ﴾ [آل عمران: 187].
وقوله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ ١٥٩ إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَتُوبُ عَلَيۡهِمۡ وَأَنَا ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ١٦٠﴾ [البقرة: 159-160].
والله سبحانه قد سمى نبيّه محمدًا رسولاً منذ نزل عليه الوحي بغار حراء في قوله: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ٢ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ٣ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ ٤ عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ ٥﴾ [العلق: 1-5]، فهذه السورة ليس فيها الأمر بالتبليغ والدعوة، لكن الله سماه رسولاً منذ أنزلها عليه، قال سبحانه: ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ ٢﴾ [الجمعة: 2]. وفي الآية الأُخرى: ﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ ١٦٤﴾ [آل عمران: 164].
فالبعثة هي ابتداء النبوّة والرسالة، وهي ابتداء نزول القرآن عليه، فمنذُ نُبِّئَ باقرأ وهو رسول. فالفضل كل الفضل، هو في البعثة، أي ابتداء النبوّة بابتداء نزول القرآن، وبينها وبين المولد أربعون سنة، فقولهم: إنه نُبّئ باقرأ، وأرسل بالمدثر كما قاله ابن كثير ليس بصحيح، والصحيح أنه نُبّئ وأرسل باقرأ وبالمدثر وبجميع القرآن.
وإنما أمر بالجهر بالدعوة، وتبليغ الرسالة بعد نزول قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ ١ قُمۡ فَأَنذِرۡ ٢ وَرَبَّكَ فَكَبِّرۡ ٣ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرۡ ٤ وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ ٥﴾ [المدثر: 1-5].
وذلك من بعد الفترة المتخللة لما بين نزول اقرأ، ونزول المدثر. وقد قيل: إنها أربعون يومًا، وقيل أكثر من ذلك. وقد تمثل له جبريل عليه السلام في أثنائها، يقول له: «إنك لرسول الله حقًّا».
فالصحيح: أنه أرسل باقرأ، كما أرسل بالمدثر، وبالقرآن كله.
ثم إننا متى بحثنا عن سبب انتشار هذا الاعتقاد بين الناس في التفريق بين الرسول والنبي، نجد السبب هو: تأثرهم بالحديث المنسوب لأبي ذرٍّ، ويترجح بمقتضى الدلائل والبراهين أنه حديث موضوع مكذوب على الرسول وعلى أبي ذر، وإن كان قد رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه ابن حبان في صحيحه، فقد حققه ابن الجوزي وقال بأنه موضوع، واتهم بوضعه إبراهيم بن هشام. وكذلك ابن كثير، قد أشار في التفسير إلى ضعفه قائلاً: ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل، مع العلم أن لفظه ينمّ بوضعه، ونحن نسوقه بلفظه، ثم نعقبه بما يوضح بطلانه، نصيحة لله، ولعباده المؤمنين.