[لم كانت المعجزات؟ ]
ولكل نبي معجزة تناسب حالة قومه، وقد أيد الله موسى بمعجزات عديدة من أجل أنه أُرسل إلى شعب عنيد، فرعون وهامان وقارون. يقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مُوسَىٰ بَِٔايَٰتِنَا وَسُلۡطَٰنٖ مُّبِينٍ ٢٣ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَهَٰمَٰنَ وَقَٰرُونَ فَقَالُواْ سَٰحِرٞ كَذَّابٞ ٢٤﴾ [المؤمن: 23-24] وقال: ﴿وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ تِسۡعَ ءَايَٰتِۢ بَيِّنَٰتٖۖ﴾ [الإسراء: 101] ومنها اليد والعصا والحجر الذي يحمله ثم يضربه بالعصا فينفجر منه اثنتا عشرة عينًا قد علم كل أناس مشربهم على قدر عدد الأسباط، وكذلك انفلاق البحر حينما لحقهم فرعون وجنوده: ﴿... قَالَ أَصۡحَٰبُ مُوسَىٰٓ إِنَّا لَمُدۡرَكُونَ٦١ قَالَ كَلَّآۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهۡدِينِ٦٢ فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنِ ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡبَحۡرَۖ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرۡقٖ كَٱلطَّوۡدِ ٱلۡعَظِيمِ٦٣﴾ [الشعراء: 61-63] أي كالجبل الشامخ. ومثله معجزات نبي الله سليمان حيث سخر الله له الريح ﴿تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦ رُخَآءً حَيۡثُ أَصَابَ ٣٦﴾ [ص: 36]، فكان يبسط البسط فيركب هو وجميع جنوده ومن معه فتقلهم الريح ﴿غُدُوُّهَا شَهۡرٞ وَرَوَاحُهَا شَهۡرٞۖ﴾[سبأ: 12].
ومثله معجزة نبي الله صالح حيث أخرج الله له ناقة من صخرة صماء ﴿ لَّهَا شِرۡبٞ وَلَكُمۡ شِرۡبُ يَوۡمٖ مَّعۡلُومٖ ١٥٥﴾ [الشعراء: 155] ﴿وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ قَدۡ جَآءَتۡكُم بَيِّنَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡۖ هَٰذِهِۦ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمۡ ءَايَةٗۖ فَذَرُوهَا تَأۡكُلۡ فِيٓ أَرۡضِ ٱللَّهِۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓءٖ فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ ٧٣﴾ [الأعراف: 73].
ومثله نبي الله عيسى حيث يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، ويبين للناس ما يدخرون في بيوتهم.
وهذه المعجزات يصدق بها أهل الكتاب من اليهود والنصارى لكونها مذكورة في كتبهم ومشهورة مشهود بها فيما بينهم، ولما قيل للنبي ﷺ: إن اليهود يصومون يوم عاشوراء ويقولون: إنه اليوم الذي أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فيه فرعون وقومه، قال: «نحن أحق وأولى بموسى، صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده، خالفوا اليهود»[136] فالعلم بهذه المعجزات والبراهين البينات يوجب علمًا ضروريًّا بأن الله جعلها آية لصدق أنبيائه ورسله الذين جاءوا بها من الله، واستدلوا بها على قومهم، وذلك يستلزم أنها خارقة للعادة، وأنه لا يمكن معارضتها ولا الإتيان بمثلها لكونها غير مصنوعة ولا من كسبهم ولا معتادة لغيرهم، ولهذا كانوا يعارضون معجزة كل نبي بدعوى أنه ساحر، كما قال تعالى: ﴿كَذَٰلِكَ مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُواْ سَاحِرٌ أَوۡ مَجۡنُونٌ ٥٢ أَتَوَاصَوۡاْ بِهِۦۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمٞ طَاغُونَ ٥٣﴾ [الذاريات: 52-53] أي كان بعضهم يوصي بعضًا بهذه المقالة.
وإنما هي من الله عز وجل أعلم الله بها عباده بصدق رسله وكتبه: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بَِٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ﴾ [المؤمن: 78].
فخوارق السحرة والكهان المشعوذين هي من الأمور المعتادة المشتركة التي يفعلها الكثير من الناس، وبالتحقيق فيها سرعان ما يتبين بطلانها.
إن ما ابتلي الناس به من الشرك والكفر وعبادة الأصنام ما كان ذلك إلا من أجل إعراضهم عن هداية الأنبياء وعدم الإيمان بهم واعتمادهم على آرائهم وعقولهم.
إن المسلم متى آمن بالله القادر على كل شيء لم يعسر عليه التسليم بكل ما أخبر الله في كتابه من العجائب، كعجيبة خلق آدم من تراب، ثم خلق حواء من ضلع آدم، ثم خلق المسيح من أم بلا أب إذ لا بد للرسل من العجائب لتعزيز دينهم وتصديق دعوتهم، ولولا حكاية القرآن لآيات الله التي أيد الله بها موسى وعيسى لكذب الناس بهما وبمعجزاتهما وبالكتب النازلة عليهما.
إنه لا يمكن إثبات آيات النبيين السابقين إلا بثبوت نبوة محمد ﷺ والتصديق بهذا القرآن النازل عليه، الذي يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، وأنه لهدى ورحمة للمؤمنين. فإن من آيات الله ما يجري على سنته العامة المطردة في الخلق والتكوين، ومنها ما يجري على خلاف السنن المعروفة للبشر، مما يدل على قدرته على كل شيء، وأنه فعال لما يريد وأن لله سبحانه خرق العادات، فالماديون الملحدون المنكرون لوجود الخالق وقدرته التامة يبادرون بإنكار ما يسمعونه من الخوارق والمعجزات الذين لم يصلوا إلى حقيقة العلم بها، أو يتكلفون التأويلات البعيدة لكل ما يرونه مخالفًا لسنته المعروفة.
كما قال تعالى: ﴿بَلۡ كَذَّبُواْ بِمَا لَمۡ يُحِيطُواْ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا يَأۡتِهِمۡ تَأۡوِيلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلظَّٰلِمِينَ ٣٩﴾ [يونس: 39].
وهذا دأبهم في جميع نظرياتهم العلمية فهم يكفرون بآيات الله ويكذبون بها كلها ولا يؤمنون بشيء منها، فتراهم يكذبون بكل ما غاب عن أبصارهم، وبكل ما لم يحيطوا بعلمه، فيكذبون بوجود الرب والملائكة وبالجنة والنار. فإفساد هؤلاء الفلاسفة الملاحدة للبشر في أمر دينهم ودنياهم أشد من إفساد النار لهشيم الحطب، لزعمهم أن الأنبياء يكذبون على الناس ويحدثون الناس بما لا حقيقة له، وأنهم يتصرفون بما يخالف السنن والنواميس: ﴿ذَٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ ٢٧﴾ [ص: 27]. فكذبوا بالدين من أساسه، وكذبوا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله، وهذا يعد من أشد أنواع الكفر بالله تعالى؛ لأن ضرره يتعدى بما فيه من إضلال الناس باعتقاد هذا الباطل الذي يتبعه خروج الناس عن الدين ويبقون فوضى حيارى لا دين لهم.
فمتى جهر هؤلاء باعتقادهم في بلادهم، فإنها لفتنة في الأرض ولفساد كبير، فإن الجهر بالكفر والإلحاد هو جرثومة الفساد وخراب البلاد وفساد أخلاق العباد.
أما وظائف الرسل فإنهم بشر اختصهم الله بالحق لتبليغ عباده ما ارتضاه لهم من الدين بالقول والعمل، وبالتعليم والإرشاد، تبشيرًا وإنذارًا وتنفيذ أحكام شرعه فيهم بالعدل والمساواة. ولم يؤتهم التصرف في خلقه، بهداية أقرب الناس إليهم وأحبهم إليهم من والد وولد والناس أجمعين. فوالد إبراهيم عاش كافرًا ومات كافرًا، وولد نوح -أول رسل الله إلى خلقه- مات كافرًا، ولم يأذن الله لنوح بحمله معه في السفينة فكان من المغرقين، وكان أبو لهب عم رسول الله ﷺ من أشد أعدائه المؤذين له والصادِّين عن دينه، وأنزل الله في ذمه ووعيده سورة من القرآن يتعبد المؤمنون بقراءتها إلى يوم القيامة، وعمه أبو طالب الذي كفله ورباه وكف عنه أذى المشركين واعترف بصدق نبوته، ولما قال له عند الاحتضار: «يَا عَمُّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» [137]. فامتنع ومات على ملة عبد المطلب، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ﴾ [القصص: 56] ونُهي عن أن يستغفر له فقال: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسۡتَغۡفِرُواْ لِلۡمُشۡرِكِينَ وَلَوۡ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرۡبَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُمۡ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ ١١٣﴾ [التوبة: 113] لأن من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه.
والمقصود أن معجزات الأنبياء كلها من الله لا من كسب الأنبياء ولا من تصرفهم، كما نطق به القرآن الكريم في قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بَِٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ﴾ [الرعد: 38].
وإن الله سبحانه لم يؤيد رسله بما أيدهم به من المعجزات إلا لتكون حجة لهم على قومهم، بحيث يهتدي بها المستعد للهداية منهم، وتحق بها كلمة العذاب على الجاحدين: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتۡ عَلَيۡهِمۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ ٩٦ وَلَوۡ جَآءَتۡهُمۡ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِيمَ ٩٧﴾ [يونس:96-97].
إن الثابت من معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء كأهل الكهف وغيرهم فما كانت دلالته من النصوص القرآنية فإنها تعتبر قطعية لا مجال للرأي في إنكارها ولا صرفها بمجرد التحكم والتأويل عن المعنى المراد منها، فقد أتت الرسل بمحارات العقول، فالتكذيب بها يعتبر نقضًا لقواعد الشريعة المعتبرة القطعية، ويعتبر ارتدادًا عن الإسلام: ﴿بَلۡ كَذَّبُواْ بِمَا لَمۡ يُحِيطُواْ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا يَأۡتِهِمۡ تَأۡوِيلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلظَّٰلِمِينَ ٣٩﴾ [يونس: 39].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه يجب على كل مسلم التصديق بما أخبر الله رسوله، وأنه ليس موقوفًا على أن يقوم دليل عقلي على ذلك الأمر أو النهي أو الخبر، فإن مما يعلم الاضطرار من دين الإسلام أن الله إذا أخبر في القرآن بشيء أو أن الرسول إذا أخبر بشيء فإنه يجب علينا التصديق به وإن لم نعلم بعقولنا حكمته.
ومن لم يقر بما جاء عن الله ورسوله حتى يعلم بعقله فقد أشبه الذين قالوا: ﴿لَن نُّؤۡمِنَ حَتَّىٰ نُؤۡتَىٰ مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ﴾ [الأنعام: 124]. ومن سلك هذا السبيل فليس بالحقيقة مؤمنًا بالقرآن ولا بالرسول، ولا متلقيًا عنه الأخبار بالقبول. ولا فرق عنده بين أن يخبر القرآن أو الرسول بشيء أو لا يخبر به، فإن ما أخبر به إذا لم يعلمه بعقله لا يصدق به، بل يتأوله أو يفوضه[138]، وما لم يخبر به إن علمه بعقله آمن به، ولا فرق عند من سلك هذا السبيل ببن وجود القرآن والرسول وبين عدم وجودهما، ويصير ما يذكر في القرآن والحديث والإجماع عديم الأثر عنده.
والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
17 جمادى الأولى سنة 1396هـ.
* * *
[136] أخرجه البخاري من حديث ابن عباس بدون لفظ: «خالفوا اليهود» . [137] متفق عليه من حديث المسيب بن حزن. [138] يفوضه: أي يردّه.