متقدم

فهرس الكتاب

 

(90) وفاة رسول اللهﷺ

الحمد لله الكريم المنّان، خلق الإنسان من عدم، ثم قال له كن فكان، كل يوم هو في شان، وكل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من قال ربي الله ثم استقام. وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله سيد الأنام. اللهم صل على نبيك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه البررة الكرام، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن الله سبحانه كتب على الناس في الدنيا الفناء، وعلى الآخرة البقاء. ولا بقاء لما كتب عليه الفناء. ﴿يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا مَتَٰعٞ وَإِنَّ ٱلۡأٓخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ ٣٩ [غافر: 39]. فسمى الله الدنيا متاعًا. والمتاع هو ما يتمتع به صاحبه برهة ثم ينقطع عنه. مأخوذ من متاع المسافر ﴿أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة: 38] وقال: ﴿وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ [آل‌عمران: 185].

فما عيبت الدنيا بأكثر من ذكر فنائها، وتقلب أحوالها. وهو أدل دليل على زوالها. فتتبدل صحتها بالسقم، ونعيمها بالبؤس، وحياتها بالموت، وعمارها بالخراب، واجتماع أهلها بفرقة الأحباب. وكل ما فوق التراب تراب، وهذا الموت الذي يفزع الناس منه ليس هو فناء أبدًا، ولكنه انتقال من دار إلى دار أخرى، ليجزى فيها الذين أساؤوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى. فلا يجزع من الموت ويهوله الفزع منه إلا الذي لم يقدم لآخرته خيرًا. فهذا الذي يكره الموت لكراهة لقاء ربه لسوء ما قدمه، ويجتمع عليه عند فراقه للدنيا سكرة الموت، وحسرة الفوت، وهول المطلع، فيندم حيث لا ينفعه الندم. ويقول: ﴿يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي ٢٤ فَيَوۡمَئِذٖ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُۥٓ أَحَدٞ ٢٥ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُۥٓ أَحَدٞ ٢٦ [الفجر: 24-26].

إن الناس في الدنيا بمثابة الغرباء الذين يعرفون بأن لهم دارًا غير دار الدنيا، فهم يجمعون لها، ويعملون عملهم في تمهيد النقلة إليها؛ لأن من قدم خيرًا أحب القدوم عليه. فالمحسن في عمله يحب الموت لمحبته للقاء ربه، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. وقد قال الصحابة: يا رسول الله، كلنا يكره الموت. قال رسول الله ﷺ: «إنه ليس الأمر كذلك، ولكن الإنسان إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال على الآخرة، فإن كان من أهل الخير بُشر بالخير، فأحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، وإن كان من أهل الشر بُشر بالشر، فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه»[438].

مكث النبي ﷺ أربعين سنة من عمره لم يوح إليه بشيء كما قال في معرض الاحتجاج على قومه ﴿فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِيكُمۡ عُمُرٗا مِّن قَبۡلِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ [يونس: 16] حتى فاجأه الحق، ونزل عليه الوحي بعد الأربعين، وهو بغار حراء، فأنزل عليه ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ٢ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ٣ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ ٤ عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ ٥ [العلق: 1-5]. وهذا هو زمن البعثة الذي امتن الله على عباده المؤمنين بها فقال: ﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ [آل‌عمران: 164]. ثم استمر الوحي وتتابع، فلما كانت السنة العاشرة من الهجرة ظهر له أمارات اقتراب أجله وارتحاله من الدنيا إلى لقاء ربه. فحج بالناس تلك السنة، وعلمهم مناسك حجهم، ونادى في الناس أن رسول الله ﷺ حاج، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يريد أن يأتم برسول الله ﷺ ويعمل مثل عمله.

وأنزل الله عليه وهو واقف بعرفة ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا [المائدة: 3] وليس بعد التمام إلا النقص
إذا تم شيء بدا نقصه
توقّع زوالا إذا قيل تم
وفي يوم عرفة أشار في خطبته إلى اقتراب أجله فقال: «لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا، أَلَا فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»[439]. فسميت حجة الوداع من أجل أنه ودع الناس فيها، وخطبهم الخطبة العظيمة فقال فيها: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ»[440].

ثم ذكر تحريم الربا، وحثهم على الإحسان إلى النساء، وعلى التمسك بكتاب الله.

وفي أواسط أيام التشريق أنزل الله عليه ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ١ وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا ٢ فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ٣ [النصر: 1-3]. ففي هذه السورة إعلام باقتراب أجل رسول الله ﷺ كما فسرها بذلك ابن عباس. ومعناه إذا جاء نصر الله يا محمد، والفتح - يعني فتح مكة -، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، فإنه حينئذ قد اقترب أجلك، فتأهب للقائنا. وكان العرب قد تحينوا بإسلامهم فتح مكة، ويقولون إن كان نبيًّا، فسيفتح مكة، ويظهر على قريش، فلما فتحها عام ثمانية، أقبل الناس إلى الدخول في الإسلام طائعين مختارين؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ٣ فكان رسول الله ﷺ بعد نزول هذه السورة لا يقوم ولا يقعد إلا قال: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي». ولما وصل إلى المدينة خطب الناس فقال في خطبته: «إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ» فقام أبو بكر، فاعتنقه، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. قال بعض الصحابة: فعجبنا من أبي بكر كيف يخبر رسول الله ﷺ عن رجل خيره الله بين أن يعطيه من زهرة الدنيا وزينتها، وبين ما عند الله، وأبو بكر يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا؟! فكان رسول الله ﷺ هو المخيّر بين البقاء في زهرة الدنيا، وبين ما عند الله. وكان أبو بكر هو أعلمنا به[441].

كان رسول الله ﷺ يعتكف كل سنة في العشر الأخيرة من رمضان، فاعتكف تلك السنة عشرين يومًا. وكان يعرض القرآن على جبريل كل سنة مرة، فعرضه تلك السنة مرتين. وفي آخر شهر صفر في السنة العاشرة من الهجرة ابتدأ الوجع برسول الله ﷺ، فدخل على عائشة وهي مضطجعة على حصير، وهي تشتكي رأسها وتقول: وارأساه!! فقال لها: ««وَدِدْتُ أَنْ ذَلِكَ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ، فَغَسَّلْتُكِ، وَكَفَّنْتُكِ، وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ». فقالت كأني بك في ذلك اليوم وأنت عروس ببعض نسائك. فقال لها: «بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهْ!»»[442]. ثم أخذ يتزايد به وجعه، فدخلت عليه فاطمة ابنته رضي الله عنها فسارّها، فبكت، ثم سارّها مرة أخرى، فضحكت، فقيل لها في ذلك. فقالت: أمّا إذْ سارّني فبكيت، فإنه قال: «ما أرى إلا أني سأموت من وجعي هذا، فاصبري، واحتسبي»، فبكيت عند ذلك. وأما إذْ سارِّني فضحكت، فإنه قال لي: «إنك أول أهلي لحوقًا بي، فضحكت»[443]. فتوفيت رضي الله عنها بعد أبيها بأربعة أشهر.

وكان رسول الله ﷺ يقول في مرضه: «الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»[444]. وقيل له: إن الناس ينتظرونك فقال: «مُرُوْا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلَّ بِالنَّاسِ، يَأْبَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ»[445]. ولما كشف رسول الله ﷺ ستر الحجرة، ورأى الناس صفوفًا يصلون، اشتاق إلى الخروج إليهم ليصلي معهم. فدعا عليًّا والعباس، فأمرهما أن يحملاه. فخرجا به يحملانه ورجلاه تخطان بالأرض. فوضعاه جنب أبي بكر. حتى كاد الناس أن يفتتنوا في صلاتهم من الفرح برؤيته، ثم رجع إلى البيت فلم يخرج حتى توفي ﷺ.

ووصى رسول الله ﷺ في مرضه بثلاث فقال: «أَنْفِذُوا جَيْشَ أُسَامَةَ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بَمَا كُنْتُ أُجِيزُهُ، وَأَخْرِجُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ»[446]. وقال: «لَا تَبْقَى خَوْخَةٌ فِي الْمَسْجِدِ إِلاَّ سُدَّتْ إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ»[447]. والخوخة هي الفرجة التي يدخل إلى المسجد من جهتها. وكان رسول الله يقسم لنسائه في مرضه، فيأمر من يحمله إلى المرأة في يومها ونوبتها حرصًا منه على العدل والمساواة. وكان يقول: «أَيْنَ أَنَا غَدًا؟»[448] حرصًا على أن يكون عند عائشة.

ولما علم نساؤه أنه يحب أن يكون عند عائشة وقد اشتد به المرض أذنّ له في ذلك. فبقي في بيت عائشة، فكانت تقول: توفي رسول الله ﷺ بين سحري ونحري[449]. وأخذ يعالج من شدة النزاع حتى قالت عائشة: ما كنت أغبط أحدًا يهون عليه الموت بعد الذي رأيت من رسول الله ﷺ. وكان يمسح العرق عن وجهه ويقول: «إن للموت لسكرات، اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى»[450]. فتوفي رسول الله ﷺ وهو ابن ثلاث وستين سنة. وهذا هو معترك المنايا الذي قال فيه النبي ﷺ: «حَصَادُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّيْنَ إِلَى السَّبْعِيْنَ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ»[451] فتوفي رسول الله ﷺ في هذا المعترك.

وتوفي أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين سنة. وتوفي عمر وهو ابن ثلاث وستين سنة. وتوفي عليّ وهو ابن ثلاث وستين سنة. رضي الله عنهم أجمعين. ولما توفي رسول الله ﷺ اضطرب الناس اضطرابًا شديدًا، فبعضهم يقول: توفي. وبعضهم يقول: لم يمت. وكان أبو بكر غائبًا في عوالي المدينة عند امرأة من نسائه، فلما علم بالخبر جاء فكشف عن وجه رسول الله ﷺ وقال: ما أطيبك حيًّا وميتًا! وقبله، ثم خرج إلى المسجد والناس فيه أوزاع متفرقين يبكون. فصعد المنبر، وأقبل الناس إليه، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت. ثم قرأ ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡ‍ٔٗاۗ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ ١٤٤ [آل‌عمران: 144] قال عمر: فلما تلا هذه الآية انقطع لها ظهري! حتى كأني لم أسمع بها قبل اليوم! وأيقنت أن رسول الله ﷺ قد مات، ولم يبق في المدينة رجل ولا امرأة إلا ويتلو هذه الآية. وكان رسول الله ﷺ قد جهز جيشًا وأمر عليهم أسامة بن زيد. وكان عمر بن الخطاب في جملة هذا الجيش. فنزلوا بالجرف بالقرب من المدينة، ينتظرون حالة رسول الله ﷺ، وهل يبرأ من مرضه.

فلما توفي ووقع الاضطراب في المدينة، حيث ارتدت العرب عن الدين وقالوا: إنه لو كان نبيًّا لم يمت. فجعل الصحابة على سكك المدينة رجالاً يحرسونها. فلما اشتد الأمر، جاء الصحابة إلى أبي بكر، وطلبوا منه أن يرد إليهم جيش أسامة، ليتقووا به على ردع المرتدين. فقال أبو بكر: والله لا أحل لواء عقده رسول الله ﷺ، حتى ولو رأيت نساء رسول الله ﷺ تخطف من بين أيدينا. فقالوا: أما إذا أبيت فأذن لعمر أن يرجع إلينا. فقال: أما عمر وحده فلا بأس. فمضى أسامة بجيشه في سبيله، فكان في جيشه البركة والعز للمسلمين. فكانوا لا يمرون بأحد من المرتدين إلا ردوهم إلى دين الإسلام.

قال أنس رضي الله عنه: لما مات رسول الله ﷺ كنا كالغنم المُطيرة، فما زال أبو بكر يشجعنا حتى كنا كالأسود المتنمرة.

ثم إن جماعة الصحابة اشتغلوا بعقد البيعة حرصًا على حفظ البيضة، وجمع شمل المسلمين، فبايعوا أبا بكر طائعين مختارين، وقالوا: رضيك رسول الله ﷺ لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا؟ وكان رسول الله ﷺ قد قال لهم: «يَأْبَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ»[452]. وفي اليوم الثالث من موته أخذوا يشتغلون في تجهيزه، فتولى تغسيله عليّ والعباس رضي الله عنهما، وقالت عائشة: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله إلا نساؤه[453]. لكون المرأة يجوز لها أن تغسل زوجها، كما يجوز للزوج أن يغسل امرأته، وقد غسلت أم سليم زوجها أبا بكر، كما غسل علي رضي الله عنه زوجته فاطمة.

وبعد الفراغ من تجهيزه قدموه للصلاة عليه، فصلى عليه الرجال. ثم صلى عليه الغلمان. ثم صلى عليه النساء، وكانوا يصلون عليه أفرادًا، وكان قد قال لهم: «إنه لم يمت نبي إلا دفن في المكان الذي توفي فيه»[454]. فدفن رسول الله عليه الصلاة والسلام في بيت عائشة، ثم توفي أبو بكر بعده فدفن بجواره، ثم توفي عمر، فطلب من عائشة أن تسمح له، بأن يدفن مع صاحبيه، فسمحت له بذلك.

وكانت عائشة قد رأت في منامها أنه سقط في بيتها ثلاثة أقمار، فوقع تأويله بذلك، وجاءت التعزية: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته. إن في الله عزاءً من كل فائت، وخلفًا من كل هالك. فبالله فثقوا، وإياه فارجو، فإنما المصاب من حرم الثواب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

وقد قال النبي ﷺ: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ؛ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ»[455].

فهذا ملخص وفاة رسول الله ﷺ، وقد أخبر أن أعمال أمته تعرض عليه، فيسر باستقامتهم، ومحافظتهم على طاعة ربهم، ويسوؤه مخالفتهم ومعصيتهم لربهم. ويقول: «إنكم تعرضون علي يوم القيامة فأعرفكم بسيماكم وأسمائكم كما يعرف الرجال الغريبة من الإبل في إبله، وإنه يؤخذ بأناس من أمتي ذات الشمال، فأقول: يا رب أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول بعدًا وسحقًا لمن غير بعدي، أقول كما قال العبد الصالح: ﴿... وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنْتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ١١٧ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ١١٨ [المائدة: 117-118]» [456].

تم الكتاب بعون الله وتوفيقه والحمد لله رب العالمين

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

8/8/1399هـ

2/7/1979م

الشيخ

عبد الله بن زيد آل محمود

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

بدولة قطر

[438] رواه البخاري ومسلم. [439] من خطبته ﷺ في حجة الوداع. [440] متفق عليه من حديث جابر. [441] في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري. [442] أخرجه أحمد والنسائي من حديث عائشة. [443] أخرجه أحمد من حديث عائشة. [444] أخرجه الإمام أحمد من حديث أم سلمة. [445] متفق عليه من حديث عائشة. [446] فتح الباري كتاب المغازي باب: مرض النبي ﷺ ووفاته. [447] متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري. [448] متفق عليه من حديث عائشة. [449] رواه مسلم عن عائشة، وسحري: أي الرئة وما تعلق بها. [450] رواه مسلم. [451] أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ: «أَعْمَارُ». [452] أخرجه مسلم من حديث عائشة. [453] أخرجه الإمام أحمد من حديث عائشة. [454] فيما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها. [455] متفق عليه من حديث عائشة. [456] رواه مالك وأبو داود.