متقدم

فهرس الكتاب

 

(85) آخر العام ومحاسبة النفس على ما أسلفته من الأعمال

الحمد لله ونستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونصلي ونسلم على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.

أما بعد:

فإن الشهور والأعوام، والليالي والأيام، كلها مواقيت الأعمال، ومقادير الآجال، فهي تنقضي جميعًا، وتمضي سريعًا، والذي أوجدها وخصها بالفضائل، وأودعها هو باق لا يزول، ودائم لا يحول، هو في كل الحالات إله واحد، ولأعمال عباده رقيب مشاهد، يقلب عباده بفنون الخدم، ليسبغ عليهم فواضل النعم، ويعاملهم بغاية الجود والكرم، فكل يوم من الأيام قد أوجب الله فيه وظيفة من وظائف طاعاته، ويتقرب بها إليه. وفيه لطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته عليه. فالسعيد من اغتنم مرّ الليالي والساعات، وتقرب إلى الله بما فيها من وظائف الطاعات.

إن كل شهر يستهله الإنسان، فإنه يدنيه من أجله، ويقربه من آخرته، وخيركم من طال عمره وحسن عمله، وشركم من طال عمره وساء عمله، وإنه ما بين أن يثاب الإنسان على الطاعة والإحسان، أو يعاقب على الإساءة والعصيان، إلا أن يقال: فلان قد مات. وما أقرب الحياة من الممات. وكل ما هو آت آت.

﴿يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا مَتَٰعٞ وَإِنَّ ٱلۡأٓخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ ٣٩ مَنۡ عَمِلَ سَيِّئَةٗ فَلَا يُجۡزَىٰٓ إِلَّا مِثۡلَهَاۖ وَمَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ يُرۡزَقُونَ فِيهَا بِغَيۡرِ حِسَابٖ ٤٠ [غافر: 39-40].

فسمى الله الدنيا متاعًا. والمتاع هو ما يتمتع به صاحبه برهة ثم ينقطع عنه، مأخوذ من متاع المسافر﴿أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة: 38].

يؤتى يوم القيامة بأطول الناس أعمارًا في الدنيا، من المترفين، التاركين للطاعات المرتكبين للمنكرات، فيُصبغ أحدهم في النار صبغة. ثم يقال له: هل رأيت في الدنيا خيرًا قط؟ هل مرّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا يا رب. فينسى نعيم الدنيا عند أول مس من العذاب. ويقال له: كم لبثت في الدنيا؟ فيقول: لبثت يومًا أو بعض يوم. فيقال له: بئس ما اتجرّت في يوم، أو بعض يوم.

فهؤلاء الذين صرفوا جل عقولهم وأعمالهم واهتمامهم للعمل في دنياهم، واتباع شهوات بطونهم وفروجهم، وتركوا فرائض ربهم، ونسوا أمر آخرتهم. ولم يزل ذلك دأبهم، حتى يخرجوا من الدنيا مذمومين مدحورين مفلسين من الحسنات والأعمال الصالحات، فيجتمع عليهم سكرة الموت، وحسرة الفوت، وهول المطلع. فيندم أحدهم على تفريطه حيت لا ينفعه الندم، ﴿يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي ٢٤ فَيَوۡمَئِذٖ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُۥٓ أَحَدٞ ٢٥ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُۥٓ أَحَدٞ ٢٦ [الفجر: 24-26]. ﴿خَسِرَ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةَۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ [الحج: 11].

أما المؤمن الذي يربح عمره، ويتزود فيه من صالح عمله، فيتزود من دنياه لآخرته، فإنه لن يأسف على الدنيا عند ذهابه منها، ولن يجزع من الموت عند نزوله به، ولن يخاف ولن يحزن على إقباله على الآخرة؛ لأن أعماله تؤنسه، وصنائع الإحسان تقي مصارع السوء.

ولذا يقال له عند الاحتضار على سبيل العطف واللطف ﴿يَٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ ٢٧ ٱرۡجِعِيٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةٗ مَّرۡضِيَّةٗ ٢٨ فَٱدۡخُلِي فِي عِبَٰدِي ٢٩ وَٱدۡخُلِي جَنَّتِي ٣٠ [الفجر: 27-30] - ولهذا من الدعاء المأثور: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ»[433]. وهذا معنى قول النبي ﷺ في الحديث الصحيح ««مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ». قالوا: يا رسول الله كلنا يكره الموت. قال: «ليس الأمر كذلك. ولكن الإنسان إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال على الآخرة -أي في حالة الاحتضار- فإن كان من أهل الخير بُشّر بالخير، فأحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، وإن كان من أهل الشر بُشّر بالشر، فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه»»[434].

ولما احتضر معاذ بن جبل، وكان صائمًا، قال لجاريته: انظري هل غربت الشمس؟ فلما أخبرته أنها قد غربت. تناول شيئًا، فأفطر عليه، ثم قال: مرحبًا بالموت، مرحبًا بطارق جاء على فاقة. لا أفلح والله من ندم على الدنيا. اللهم إنك تعلم أنني لم أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، وإنما أحببت البقاء في الدنيا، لقيام الليل، وصيام النهار، ومزاحمة العلماء بالرُكب، عند حلق الذكر. آهًا إلى ذلك. ثم قضى، وتوفي رضي الله عنه.

إن هذا الموت الذي تخافونه، والذي تفزعون منه، ليس هو فناء أبدًا، ولكنه انتقال من دار إلى دار أخرى، وإبدال حياة بحياة أخرى، هي أدوم وأبقى ﴿لِيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ بِٱلۡحُسۡنَى [النجم: 31].

إن الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، ولم يخلق الله الإنسان إلا ليعمل ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين- أي الموت- يقول الله تعالى: ﴿وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ ٩٩ [الحجر: 99]. وخلقت الدنيا بما فيها من الفواكه والخيرات والبركات، كرامة للإنسان، ليستعين بها على طاعة ربه، ويتمتع بها في دنياه ﴿كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥ [سبأ: 15] ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبِيۖ وَمَن يَحۡلِلۡ عَلَيۡهِ غَضَبِي فَقَدۡ هَوَىٰ ٨١ [طه: 81]. والطغيان هو مجاوزة الحد في الكفر والفسوق والعصيان. بأن يستعين بنعم الله على معاصيه، أو ينفقها فيما يسخطه ولا يرضيه.

فالدنيا دار ابتلاء وامتحان وتمحيص للأعمال، كما أنها محفوفة بالأنكاد والأكدار، وبالشرور والأضرار، ولا يهذبها ويصفيها سوى الدين، وطاعة رب العالمين، وكان النبي ﷺ إذا رأى شيئًا من زهرة الدنيا وزينتها، فأعجبه، قال: «اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَهْ»[435]. يشير بهذا إلى أن الدنيا عيشها نكد، وصفوها كدر، حلالها حساب وحرامها عقاب، وأن العيش الصافي هو ما يلقاه المؤمنون في الجنة حين يقولون: ﴿وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَذۡهَبَ عَنَّا ٱلۡحَزَنَۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٞ شَكُورٌ ٣٤ ٱلَّذِيٓ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلۡمُقَامَةِ مِن فَضۡلِهِۦ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٞ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٞ ٣٥ [فاطر: 34-35]. خذوا أهبة في الزاد فالموت كامن فما عنه من منج ولا عنه عُندد[436]
فما داركم هذي بدار إقامة
ولكنها دار ابتلاء وتزود
أما جاءكم من ربكم وتزودوا
فما عذر من وافاه غير مزود
ينادي لسان الحال جدوا لترحلوا
عن المنزل الغث الكثير التنكد
أتاك نذير الشيب بالسقم مخبرًا
بأنك تتلو القوم في اليوم أو غد
وفي صحيح الحاكم، عن جابر قال: سمعت النبي ﷺ وهو يعظ رجلاً ويقول: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ»[437] وفي رواية: «فما بعد الدنيا من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار، إلا الجنة أو النار».

فانتبهوا من غفلتكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

[433] أخرجه النسائي من حديث عمار بن ياسر. [434] رواه مسلم عن عائشة وعن أبي هريرة. [435] متفق عليه من حديث أنس بن مالك. [436] ما لي عنه عندُد وعندَد. أي بد. [437] أخرجه النسائي في الكبرى من حديث عمرو بن ميمون.