متقدم

فهرس الكتاب

 

(81) آداب السّلام في الإسلام وسُنّة المصافحة والمعانقة وكراهة التقبيل

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من قال ربي الله ثم استقام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام، والداعي إلى دار السلام، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فقد ثبت في صحيح مسلم، أن النبي ﷺ قال: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ، إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْهُ، وَإِذَا عَطَسَ وَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ»[380]. فهذه من حقوق المسلم على المسلم، وكلها تستدعي المودة والانسجام بين الإخوان، يقول عبد الله بن سلام: لما قدم النبي ﷺ المدينة انجفل الناس عنه، فلما رأيت وجهه، علمت أنه ليس بوجه كذاب، فسمعته يقول: «أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الأَرْحَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلاَمٍ»[381]. وقال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذْا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ»[382]. وسأل رجل النبي ﷺ فقال: أي السلام خير؟ قال: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ»[383] وفي البخاري عن عمار بن ياسر قال: ثلاث من جمعهن فقد استكمل الإيمان، الإنصاف من النفس، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار.

والسلام هو اسم من أسماء الله، فأفشوه فيما بينكم. وفي معناه الدعاء بالسلامة على كل من سلمت عليه، كما يدعو لك بمثل ذلك، وهو تحية أهل الإسلام من لدن خلق الله آدم إلى يوم القيامة، لما في البخاري ومسلم: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ، قال له: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفْرِ - وَهُمْ نَفَرٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ - وَانْظُرْ مَا يُحَيُّونَكَ بِهِ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ. فَذَهَبَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. قَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ. فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللهِ»[384].

كما أن السلام تحية أهل الجنة، ﴿دَعۡوَىٰهُمۡ فِيهَا سُبۡحَٰنَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمۡ فِيهَا سَلَٰمٞۚ وَءَاخِرُ دَعۡوَىٰهُمۡ أَنِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٠ [يونس: 10] وأخبر النبي ﷺ قال: «إِنَّ لِلْإِسْلَامِ صُوًى وَمَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ، مِنْ ذَلِكَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، لَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُسَلِّمَ عَلَى مَنْ لَقِيتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ إِذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِمْ»[385]، فأخبر أن من خصال الإسلام؛ هو أن تسلم على من لقيت من المسلمين. فإذا أتيت أهل مجلس فسلم عليهم، وإذا أردت أن تقوم فسلم عليهم، فليست الأولى بأحق من الثانية.

ثم قال: «وَأَنْ تُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ إِذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِمْ»؛ لأنه إذا بدأ أهل بيته بالسلام، دخلت في البيت البركة والرحمة وحفت أهله الملائكة، وقد قال النبي ﷺ لأنس: «يَا بُنَيَّ، إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ يَكُنْ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ»[386]. لأن الله وصف السلام بأنه تحية مباركة طيبة فقال تعالى: ﴿ فَإِذَا دَخَلۡتُم بُيُوتٗا فَسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ تَحِيَّةٗ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةٗ طَيِّبَةٗ [النور: 61] لأن من سلم على أهله فقد سلم على نفسه، وقال: «ثلاَثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ، مَنْ خَرَجَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيْلِ اللَّهِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلَامٍ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ»[387]، وقد أهمل الناس العمل بهذه السنة، وحرموا أنفسهم دخول البركة في بيوتهم، وأكثرهم إذا دخل بيته بدأ بالسب واللعن لكل من يلقاه من أهله وأولاده، ومن لعن شيئًا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه، ولعن المؤمن كقتله.

وكان السلام في عهد الإسلام بمعنى الأمان والاطمئنان، بمعنى أنك إذا سلمت على إنسان فرد عليك السلام، فقد دخل في عهد وأمان من أن تناله بسوء، وفي بعض الغزوات قصد بعض الصحابة صاحب غُنيمة ظنوه من المشركين، فلما أقبلوا عليه بدأهم بالسلام وقال: السلام عليكم، فلم يردوا عليه السلام، وقالوا إنه لم يسلم علينا إلا ليحرز عنا غنمه، فأخذوا الغنم، واستاقوه معهم، وسبقهم القرآن بنزوله على رسول الله، وسبحان من وسع سمعه الأصوات، وسبحان المطلع على الأسرار والخفيات، علم الله ما وقع لصاحب هذه الغنيمة، فأنزل الله ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ - أي تثبتوا - ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا - كما قلتم لصاحب هذه الغنيمة - ﴿تَبۡتَغُونَ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا - أي لأجل طمعكم في أخذ الغنم - ﴿فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٞۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ - أي كنتم كفارًا من قبل فمن الله عليكم بالإسلام وببعثة محمد عليه الصلاة والسلام - ﴿فَتَبَيَّنُوٓاْ [النساء: 94]أي تثبتوا، وهذه الآية بمثابة التهذيب، والتأديب للعباد في الأمر بالتثبت في جميع أمورهم، لئلا يغلطوا مع أحد، فيأخذوه بغير حق، نظيره قوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ ٦ [الحجرات: 6].

فالقرآن قد نظم حياة الناس أحسن نظام، وهذبهم في حسن التعامل مع الناس في الأفراد والجماعات، وأخبر أن لكل داء دواء، وأن السلام هو الذي يثبت دعائم الإخاء، ويزيل الإحن والبغضاء، فقال الرسول ﷺ: ««دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الْحَسَدُ، وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ: الْحَالِقَةُ». قالوا: وما الحالقة؟ قال: «حَالِقَةُ الدِّينِ لَا حَالِقَةُ الشَّعْرِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أُنْبِئُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ»[388].

ثم حث على السعي بالإصلاح بين المتباغضين، والتقارب بين المتباعدين، خصوصًا إذا كانوا من ذوي الأرحام؛ لأن العداوة بينهم أشق، وإثم القطيعة بينهم أشد، وفي الحديث: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ»[389]. فأخبر بأنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال على أثر لجاج أو جدال أو شيء من محقرات الدنيا، وأن خير الناس هو الهين اللين السهل الذي يبدأ من لقيه بالسلام، ويسلم على من هجره ليزيل الإحن والشحناء عن قلبه، ومن تواضع لله رفعه، وما جازيت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وأشقى الناس وأقساهم قلبًا؛ رجل قيل له: اتق الله على رحمك، أو على أخيك المسلم. فقال: اكتف بنفسك.

«وهجر المسلم أَخَاهُ سَنَةً كَسَفْكِ دَمِهِ»[390] فلا يجوز لرجل أن يهجر أخاه المسلم من السلام إلا أن يرتكب معصية فيهجره بسببها رجاء أن يتوب منها.
وهجران من أبدى المعاصي سنّة
وقد قيل إن يردعه أوْجب وآكدِ
لكن من هدي النبي ﷺ أنه لا يستعمل الهجر إلا في الحالات التي يرى أنه ينفع وينجع فيها، كما هجر الثلاثة الذين تخلفوا عن الجهاد معه، وهم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وكلهم من الصحابة، وكما هجر الرجل الذي بنى له عليّة تشرف على بيوت الناس، ولم يسلم عليه حتى هدمها. أو كما هجر الرجل المتضمخ بخلوق الزعفران، ولم يسلم عليه حتى غسله عنه؛ لأن طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه، كالزعفران والحناء. وكما هجر المتختم بالذهب فلم يرد عليه السلام، فقال لبعض من حضر من الصحابة: ما بال رسول الله ﷺ لم يرد علي السلام؟! فقالوا له: اذهب فاطرح عنك الذهب وأته، فسلم عليه، فإنه سيرد عليك السلام. فذهب، فنزع عنه الذهب، ثم جاء فسلم على النبي ﷺ فرد عليه السلام، وقال: «إِنَّكَ جِئْتَنِي وَعَلَيْكَ حِلْيَةَ أَهْلِ النَّارِ»[391]، فهذا هو الأمر الثابت عن رسول الله ﷺ في استعمال الهجر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الهجر بمثابة التعزير والتأديب، يستحب استعماله عند تحقق نفعه، أما إذا كان لا يزيد المهجور إلا عتوًّا ونفورًا، وإلا تمردًا وشرورًا، فإنه لا يستعمل والحالة هذه.

وقد كان النبي ﷺ يرد السلام على كل من سلم عليه من اليهود والنصارى والمنافقين، ويقول: «لَا تَبْدَؤُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ»[392]. وفي رواية متفق عليها عن أنس: «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ»[393]. ولما استأذن رجل على النبي ﷺ قيل - عيينة بن حصن الفزاري- وكان أحمق مطاعًا في قومه، قال النبي ﷺ: «ائْذَنُوْا لَهُ، فَبِئْسَ أَخُو العَشِيْرَةِ هُوَ»، فلما دخل ضحك النبي ﷺ في وجهه وانبسط عليه، فلما خرج، قال له بعض نسائه: إنك قلت بئس أخو العشيرة هو. فلما دخل رأيناك ضحكت في وجهه وانبسطت إليه؟ فقال: «هل تجديني فحاشًا! إن شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه»[394] وفي رواية: «اتقاء شره». فهؤلاء من اليهود والنصارى والمنافقين، لم يستعمل الهجرة معهم لعلمه أنه لا ينفع فيهم، ومثله سائر أهل الملل والنحل المبتدعة، كالشيعة ونحوهم، فإن الهجر لا ينفع معهم، ولا يثنيهم عن عقيدتهم، فيجوز أن تسلم عليهم، وأن ترد عليهم السلام.

وقد قلنا: إن السلام اسم من أسماء الله سبحانه، وفي معناه الدعاء بالسلامة والأمان، وأولى الناس بالله من بدأهم بالسلام، والبخيل من بخل بالسلام، وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري، أن النبي ﷺ قال: «إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ»، قالوا: يا رسول الله ما لنا بد من مجالسنا، نتحدث فيها. فقال: «إِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ»، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: «غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ».

فهذه تعاليم دين الإسلام في آداب السلام، وفائدة الاستماع الاتباع. فانتبهوا من غفلتكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

[380] رواه مسلم عن أبي هريرة. [381] رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. [382] رواه الإمام أحمد في مسنده ومسلم والترمذي والضياء المقدسي عن الزبير بإسناد جيد. [383] رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو. [384] متفق عليه عن أبي هريرة. [385] أخرجه ابن بشران في الأمالي من حديث خالد بن معدان. [386] رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. [387] أخرجه أبو داود من حديث أبي أمامة. [388] رواه الإمام أحمد في مسنده ومسلم والترمذي والضياء المقدسي عن الزبير بإسناد جيد. [389] متفق عليه عن أبي أيوب رضي الله عنه. [390] أخرجه أبو داود بإسناد صحيح عن الأسلمي أنه سمع النبي ﷺ يقول: «من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه». [391] أخرجه أبو داود والنسائي من حديث بريدة الأسلمي. [392] أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة. [393] من حديث رواه مسلم عن أبي هريرة. [394] أخرجه البخاري من حديث عائشة.