متقدم

فهرس الكتاب

 

(76) مساوئ التبّرج وأخلاق التفَرنج

الحمد لله ثم الحمد لله، ونستعين بالله، ونصلي ونسلم على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ وعلى آله وصحبه ومن تمسك بسنته واتبع هداه.

أما بعد:

فقد قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَيۡهَا مَلَٰٓئِكَةٌ غِلَاظٞ شِدَادٞ لَّا يَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ ٦ [التحريم: 6] يقول بعض السلف: إذا سمعت الله يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فأصغ لها سمعك. فإنها خير تأمر به، أو شر تنهى عنه.

يأمر الله عباده بأن يقوا أنفسهم وأهليهم من النار، فوقاية النفس من النار تحصل بأداء ما افترض الله، وترك ما حرم الله، كما أن وقاية الأهل من النار تحصل بأمرهم بالخير، ونهيهم عن الشر، تحصل بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، فما نحل رجل أهله أفضل من أن ينحلهم أدبًا حسنًا يهذبهم به على الصلاح والصلاة والتقى، ويردعهم عن السفاه والفساد والردى. والرجل راع على أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وعلى أولادها وبناتها ومسؤولة عن رعيتها.

فمتى كان الرجل راعيًا على أهله، فمن واجبه أن يرعاهم بالمحافظة على الفرائض والفضائل، وأن يجنبهم منكرات الأخلاق والرذائل، ويأخذ بأيدي أولاده إلى الصلاة في المسجد معه، حتى يتربوا على محبة الصلاة؛ لأن من شب على شيء شاب على حبه؛ ولأنه بأخذ يد الولد إليها، ومجاهدته عليها، يعود حبها ملكة راسخة في قلبه، تحببه إلى ربه، وتقربه من خلقه، وتصلح أمر دنياه وآخرته؛ وهذا يعد من الجهاد في سبيل الله.

وكذلك المرأة من واجبها أن تربي بناتها على الستر والصيانة، وعلى الأمر بالطهارة والصلاة والطاعة، وأن تجنبهن عوائد التكشف والخلاعة؛ وهذا كله يعد من واجب أمانة التربية.

إن الله سبحانه خلق الناس متفاوتين، فمنهم المسلم، ومنهم الكافر، ومنهم التقي، ومنهم الفاجر، ومنهم الصالح، ومنهم الفاسق، فمتى ترك الفاجر يتظاهر بفجوره وإلحاده، والفاسق يتظاهر بفسقه وفساده، بمرأى من الناس ومسمع، فإن هذا والله غاية الفساد للمجتمع؛ لأن الأخلاق تتعادى، والطباع تتناقل. يقول الله: ﴿وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا ١٦ [الإسراء: 16] والمراد بالهلاك هنا، هلاك الأخلاق؛ لكون هلاك الأخلاق أضر من هلاك الأبدان؛ لأن بقاء الأمم ببقاء أخلاقهم، فإذا ذهبت أخلاقهـم ذهبوا؛ أو لأن الناس متى تركوا المنكرات تظهر وتشتهر بدون مانع ولا رادع، فإنه مؤذن بفتنة في الأرض وفساد كبير، وغايته أن يغرق الناس في الفساد بطريق العدوى، والتقليد الأعمى من بعضهم لبعض، فيزول بها الإحساس عن الناس، وليعتبر المعتبر بالبلدان التي قوضت منها خيام الإسلام، وترك أهلها فرائض الصلاة والصيام، واستباحوا الجهر بفنون الكفر والفسوق والعصيان، كيف حال أهلها، وما دخل عليهم من النقص والجهل، والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال، حتى صاروا بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات، لا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون من قبيح، ولا يهتدون إلى حق؛ لأن إدمان رؤية المنكرات تقوم مقام ارتكابها في سلب القلوب نور التمييز والإنكار؛ ولأن المنكرات متى كثر على القلب ورودها، وتكرر في العين شهودها، ذهبت عظمتها من القلوب شيئًا فشيئًا إلى أن يراها الناس فلا يرون أنها منكرات، ولا يمر بفكر أحدهم أنها معاصٍ، وذلك بسبب سلب القلوب نور التمييز والإنكار، على حد ما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس.

من ذلك: أن النساء متى تركن يمشين في الأسواق بصورة خليعة، عارية الرأس والصدر، تبدي يديها إلى العضد أو الآباط، ورجليها إلى نصف الساق، بمرأى من الناس ومسمع، فإنه بتكرار النظر إلى هذا المنكر تزول وحشته عن القلوب، حتى يكون من المعروف المألوف، بحيث يشب على حبه الصغار، ويهرم عليه الكبار، لهذا يجب تمرين البنات الصغار فضلاً عن الكبار على اللباس السابغ الساتر، حتى تشب إحداهن على محبته. ومن شب على شيء شاب على حبه.

وقد أخبر النبي ﷺ بأنه «مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ، فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا»[345]. وصدق الله ورسوله، فقد رأينا اختلافًا كثيرًا في الأخلاق واختلافًا كثيرًا في العقائد والأعمال. فمن هذا الاختلاف؛ أننا مكثنا أزمانًا طويلة ونحن نرى النساء في هذه البلدان يتمتعن بحالة مُرْضِية، وأخلاق كريمة زكية، رأيناهن حتى الصغار منهن يرفلن في حلل ساترة، وثياب واسعة سابغة، تغطي بها جميع جسمها، وتغطي بالخمار الساتر جميع رأسها ورقبتها، تعتقد اعتقادًا جازمًا أنه من واجبات دينها،، وأنه شرط لصحة صلاتها، وأن إسباغ الستر عليها هو عنوان شرفها وفضلها، وعلامة مجدها وظرفها، فلو رأين من تبدي يديها إلى العضد أو الآباط، ورجليها إلى الركبة وإلى نصف الساق، وتمشي حاسرة الرأس بغير خمار. لابتدرنها بالضرب فضلاً عن السب، ولحسبنها ساقطة شرف ومروءة، عديمة خلق ودين، ليست من نساء المسلمين؛ لأنها لبسة منكرة، وفاحشة مشتهرة، مجها العقل فضلاً عن الدين.

وفي هذا الزمان؛ لما كثر اختلاط النساء المسلمات بالنساء المتفرنجات، من نصرانيات وعربيات لا دين لهن ولا خلق، طفقن يتعلمن منهن هذه اللبسة القبيحة، لبسة العراء والعار، ولبسة الذل والصغار، ولبسة المتشبهات بنساء الكفار، ومن تشبه بقوم فهو منهم، وأخذت هذه اللبسة المزرية تسري في بيوت الأسر والعوائل، على سبيل العدوى، والتقليد الأعمى، يتحلى بها الكبار، ويتربى عليها الصغار، وأرباب البيوت ساكتون واجمون لا يغيرون شيئًا من هذه الأزياء من كل ما تشتهيه النساء.

وساعدهم على هذا التكشف، كثرة ما يشاهدونه من عرض الأفلام الخليعة التي هي بمثابة الدروس للرؤوس، وتعمل في الأخلاق عمل الخمر للنفوس، وقد قيل: حسبك من شر سماعه. فما بالك برؤيته؟! وإن هذه الأفلام؛ صور خيالية تعبث بالعقول، وتوقع في الفضول، تنقش في نفوس النساء والشباب محبة العشق، والميل إلى الفجور، بحيث تجعل القلب الخلي شجيًّا، تساوره الهموم والغموم، فيبتلى بشغل القلب بالتفكير الذي من لوازمه طول السهر، وحرمان لذة النوم الذي جعله الله راحة ورحمة، ومن أسباب الصحة، كما أن السهر من أسباب الغم والسقم، ومع هذا الابتلاء بها فإنني أنصح المراقبين عليها بعرض ما يجمل وينفع من الأخلاق الفاضلة، والأعمال العالية، واجتناب منكرات الأخلاق الساقطة، والأعمال السافلة، كما يوجبه الدين والشرف والأمانة، وإذا لم تستح فاصنع ما شئت.

فيا معشر النساء المسلمات؛ إن الله سبحانه شرفكن بالإسلام، وفضلكن به على سائر الأنام، متى قمتن بالعمل به على التمام، وإن المرأة بأخلاقها واعتدالها، لا بزيها وجمالها، فالزمن لباس الشرف، لباس الحشمة والفضيلة، وهو اللباس السابغ الساتر، لباس الجلال والجمال، لباس الحياء والوقار، لباس التقيات الأطهار، ولا ينجرف بكن الهوى، والتقليد الأعمى، إلى مشابهة نساء الكفار، فحذار حذار أن تكن من نساء أهل النار اللاتي وصفهن رسول الله ﷺ بأنهن الكاسيات العاريات، والمائلات المميلات، لا يجدن عرف الجنة - يعني ريحها - فللمسلمة دينها وسترها، وللكافرة خلاعتها وكفرها، ﴿وَلَأَمَةٞ مُّؤۡمِنَةٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكَةٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ [البقرة: 221].

إن في كتاب الله لأعظم مزدجر عن هذا المنكر بقول الله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ يُدۡنِينَ عَلَيۡهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يُعۡرَفۡنَ فَلَا يُؤۡذَيۡنَۗ [الأحزاب: 59] ﴿وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ [النور: 31] فأمر الله نساء نبيه وبناته ونساء المؤمنين بالتبع، بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، والجلباب هو الملحفة الواسعة، تشبه الرداء، تغطي بها جميع جسمها حتى لا يبدو منه شيء.

ثم قال: ﴿وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ والخمار من شرطه أن يستر ما تحته من الشعر والصدر والرقبة والقلائد، ويتأكد ذلك في الصلاة، بحيث يجب على المسلمة أن تستر جميع بدنها في الصلاة حتى ولو كانت في دار مظلمة أو بالليل، وتستعمل الخمار الثخين الذي يستر ما تحته من الشعر والرقبة، لقول النبي ﷺ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ - أي: امرأة بالغ - إِلَّا بِخِمَارٍ»[346].

والخمار الشفاف الرقيق الذي لا يستر ما تحته من الشعر والرقبة فإنها لا تصح الصلاة فيه. إلا أن تجعل فوقه ثوبًا أو رداء يستر ما تحته.

وفي الآية الأخرى: ﴿وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ [الأحزاب: 33] فهذا والله الخطاب اللطيف، والتهذيب الظريف، يأمر الله نساء نبيه، ونساء المؤمنين، بأن يقرن في بيوتهن؛ لأن أشرف حالات المرأة أن تكون قاعدة في قعر بيتها، لازمة لمهنتها، من خياطها، أو خدمة بيتها، لا يكثر خروجها واطلاعها؛ لأن ثقل القدم من المرأة جلال، وكثرة الخروج والدخول مهانة؛ ويعرضها للتهمة والريبة، وقد وصف الله نساء أهل الجنة بما تتصف به العفائف الحرائر في الدنيا، فوصفهن بالبيض المكنون، وقاصرات الطرف، ومقصورات في الخيام، ثم قال: ﴿وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ التي نهى عنها القرآن، هو ما يفعله النساء في بعض البلدان، من إظهار مفاتن جسمها، بحيث تبدي يديها إلى العضد والآباط، ورجليها إلى الركبة أو إلى نصف الساق، وتمشي حاسرة الرأس بغير خمار، فهذا هو تبرج الجاهلية الأولى، ولم يكن معروفًا في نساء المسلمين، وإنما هو من زي نساء النصارى والعجم.

وفي هذا الزمان: أخذ نساء العرب يزدن في الخلاعة والتكشف على نساء النصارى، وعلى تبرج الجاهلية الأولى.

وكلما ضعف دين المرأة وفسد خلقها، أوغلت في التبرج، وأخلاق التفرنج؛ لأنها ناقصة عقل ودين، ومشبهة عقولهن بالقوارير، وقد ابتليت بهذا الشباب الطائش الذي يفتخر أحدهم بخلاعة زوجته، وبتبرجها بالأسواق بزيها المزري المخزي، وربما ذهب بها إلى أصدقائه من الأغيار الأجانب، ليمتعهم بالنظر إليها، ونظرها إليهم، ويربط علاقة الصداقة بينها وبينهم، فيوقعها في الفتنة والافتتان بها، وهذا يعتبر غاية في سقوط المروءة والشرف، وذهاب الحياء والغيرة.
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام
إنه ما من نظرة إلا وللشيطان فيها مطمع، ومن العصمة أن لا تقدر، وكم نظرة أثارت فتنة، وأورثت حسرة، وأشعلت في القلب محنة.
إن الرجال الناظرين إلى النسا
مثل السباع تطوف باللحمان
إن لم تصن تلك اللحوم أسودها
أكلت بلا عوض ولا أثمان
إن نابتة التفرنج، وعشاق التبرج، الذين أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشرائع، واستخفوا بحرمات الدين، واتبعوا غير سبيل المؤمنين، يظنون من رأيهم القصير، وعزمهم الحقير، أن الحضارة والمدنية، والرقي والتقدم، هو في معاقرة الخمور، ومجارات النصارى في الخلاعة والسفور، قد ضربهم من الجهل سرادق، ومن الغباوة أطباق، وغرهم بالله الغرور، تالله لقد سلكوا شعاب الضلالة، وسقطوا في هوان المذلة، ورضوا بأخلاق المذمة الذي ساقهم إليها، ودلهم عليها، صريح الجهل، وسفالة الأخلاق، ومجالسة الفساق، فإن داموا على ما هم عليه، ولم يعدلوا سيرتهم، ولم يرجعوا إلى طاعة ربهم، صاروا مثالاً للمعائب، ورشقًا لنبال المثالب، وسيسجل التاريخ مساوئهم السيئة التي خالفوا بها سيرة سلفهم الصالحين، الذين شرفوا عليهم بتمسكهم بالدين، وطاعة رب العالمين، فلا أدري من أحق بالأمن إن كنتم تعلمون؟!

فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

[345] الحديث بكامله رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح عن أبي نجيح العرباض بن سارية. [346] أخرجه أبو داود وابن ماجه وأحمد من حديث عائشة.