(74) الأخلاق الحميدة للمرأة المسلمة الرشيدة
الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن همزات الشياطين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا﴾ [التحريم: 6] فأمر الله عباده بأن يقوا أنفسهم وأهليهم من عذاب النار، فوقاية النفس من النار تحصل بأداء ما افترض الله، وترك ما حرم الله، كما أن وقاية الأهل من النار تحصل بأمرهم بالخير، ونهيهم عن الشر، تحصل بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، فما نحل رجل أهله وأولاده أفضل من أن ينحلهم أدبًا حسنًا، يهذبهم به على الصلاح والتقى، ويردعهم به عن السفاه والفساد والردى، فالرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وبناتها ومسؤولة عن رعيتها، كما ثبت بذلك الحديث. فمتى كان الرجل راعيًا على أهله وعياله، فإن من واجبه أن يرعاهم بالمحافظة على الفرائض والفضائل، وينهاهم عن منكرات الأخلاق والرذائل، ويأخذ بأيدي أولاده إلى الصلاة في المسجد معه ليتربوا على محبة الصلاة بمداومتهم عليها، ومزاولتهم لفعلها، فإن من شب على شيء شاب على حبه، ولأنه بأخذ يد الولد إليها، ومجاهدته عليها، يعود حبها ملكه راسخة في قلبه، تحببه إلى ربه، وتقربه من خلقه، وتصلح له أمر دنياه وآخرته، لأنها أم الفضائل، والناهية عن منكرات الأخلاق والرذائل.
وكذلك المرأة، فبما أنها راعية على بيت زوجها وعلى بناتها، ومسؤولة عن رعيتها، فإن من واجبها أن تربي بناتها على الحياء والستر والصيانة، والنهي عن التكشف والخلاعة، وعلى الأمر بالطهارة، وبالصلاة في وقتها فإن الصلاة تقيم اعوجاجها، وتصلح فسادها، وتذكرها بالله الكريم الأكبر، وتصدها عن الفحشاء والمنكر.
إن الله سبحانه خلق الناس متفاوتين، ولا يزالون مختلفين، فمنهم المسلم، ومنهم الكافر، ومنهم البر، ومنهم الفاجر، ومنهم الصالح، ومنهم الفاسق، فمتى تُرِك الفاجر يتظاهر بكفره وإلحاده، والفاسق يتظاهر بفسقه وفساده، بمرأى من الناس ومسمع، فإن هذا والله غاية الفساد للمجتمع، فإن الأخلاق تتعادى، والطباع تتناقل، وإنما ينتشر الشر غالبًا بسبب فشوه، ثم الاقتداء من بعض الناس لبعض فيه، لأن رؤية المنكرات تقوم مقام ارتكابها في سلب القلوب نور التمييز والإنكار، ولأن المنكرات متى كثر على القلوب ورودها، وتكرر في العين شهودها، ذهبت عظمتها من القلوب شيئًا فشيئًا، حتى يراها الناس، فلا يرون أنها منكرات، ولا يمر بفكر أحدهم أنها معاصٍ، وذلك بسبب سلب القلوب نور التمييز والإنكار على حد ما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس، وغايتها أن يغرق الناس في الفساد على سبيل العدوى، والتقليد الأعمى من بعضهم لبعض.
من ذلك أن النساء متى تركن يمشين في الأسواق بصورة خليعة كاشفة الرأس والرقبة والصدر، تبدي يدها إلى العضد أو إلى الإبط، ورجليها إلى نصف الساق بمرأى من الناس ومسمع، بدون أن تنهى وتمنع، فإنه بتكرار النظر إلى هذا المنكر، تزول وحشته عن القلوب، حتى يكون من المعروف المألوف، يشب على فعله الصغار، ويهرم عليه الكبار.
لهذا يجب على النساء المسلمات، تهذيب أنفسهن، وتمرين بناتهن على اللباس السابغ الساتر، حتى تشب إحداهن على محبته، ومن شب على شيء شاب على حبه. وقد أخبر النبي ﷺ أنه: «مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ، فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا»[326] وصدق الله ورسوله، فقد رأينا اختلافًا كثيرًا في الأخلاق، واختلافًا كثيرًا في العقائد والأعمال.
من هذا الاختلاف أننا مكثنا زمنًا طويلاً ونحن نرى النساء يتمتعن بحالة مرضية، وأخلاق كريمة زكية، رأيناهن حتى الصغار منهن، يرفلن في حلل ساترة، وثياب واسعة سابغة، تغطي بها جميع جسمها، وتغطي بالخمار الساتر جميع رأسها ورقبتها وقلائدها، تعتقد اعتقادًا جازمًا أنه من واجب دينها، وأنه شرط لصحة صلاتها، وأن إسباغ الستر عليها؛ هو عنوان لشرفها وفضلها، وعلامة مجدها وظرفها، فلو رأين من تبدي يديها إلى المرفقين أو الإبطين، ورجليها إلى نصف الساق، وتمشي حاسرة الرأس، والوجه والرقبة بغير خمار، لابتدرنها بالضرب، فضلاً عن السب، ولحسبنها ساقطة شرف ومروءة، وعديمة خلق ودين، ليست من نساء المسلمين؛ لأنها لبسة منكرة، يمجها العقل، فضلاً عن الدين، وحتى النصارى على كفرهم، بدؤوا يتراجعون عن هذا اللباس الضيق القصير، ويدعون نساءهم إلى استعمال الثياب الواسعة السابغة، وينشرون فضلها في مجلاتهم وجرائدهم، ويصورونها في السينمات، ويرغبون نساءهم في استعمالها، وأنها من أسباب الصحة للجسم، وخصوصًا للحوامل، وسيكون لهذا التداعي تجاوب ولو بعد حين.
وفي هذا الزمان لمّا كثر اختلاط النساء المسلمات بالنساء المتفرنجات من نصرانيات وعربيات لا دين لهن ولا خلق، طفقن يتعلمن منهن هذه اللبسة المزرية القبيحة، لبسة العري والعار، ولبسة الذل والصغار، ولبسة المتشبهات بنساء الكفار، ومن تشبه بقوم فهو منهم.
وأخذت هذه اللبسة تسري في بيوت الأسر والعوائل الفاضلة، يتحلى بها الكبار، ويتربى عليها الصغار، على سبيل العدوى والتقليد الأعمى، والرؤساء وأرباب البيوت ساكتون واجمون، لا يريدون أن يغيروا شيئًا من هذه الأزياء، من كل ما تشتهيه النساء، وساعد على ذلك كثرة ما يشاهدونه من عرض الأفلام الخليعة التي هي من الفتن التي تعرض على القلوب كالحصير، عودًا عودًا، فتعمي نور القلب، وتطفئ نور بصيرته، بحيث يرى المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا.
فيا معشر النساء المسلمات إن الله سبحانه شرفكن بالإسلام، وفضلكن به على سائر نساء الأنام، متى قمتن بالعمل به على التمام، وإن المرأة بدينها وأخلاقها، لا بزيها وجمالها. الزمن لباس الشرف والحشمة، لباس الظرف والفضيلة، لباس الحياء والستر، وهو اللباس الواسع السابغ، لباس الجلال والجمال، لباس الحياء والوقار، لباس الحرائر التقيّات الأطهار، ولا ينجرف بكن الهوى، والتقليد الأعمى إلى مشابهة نساء الكفار، ولا تنخدعن بالدعاة إلى النار، الذين يبغونكم الفتنة.
فحذار حذار أن تكن من نساء أهل النار، الذين وصفهن رسول الله ﷺ، بأنهن الكاسيات العاريات، المائلات المميلات، لا يجدن عرف الجنة - يعني ريحها- فللمسلمة دينها وسترها، وللكافرة خلاعتها وكفرها، ﴿وَلَأَمَةٞ مُّؤۡمِنَةٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكَةٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ﴾ [البقرة: 221].
إن في كتاب الله الأعظم مزدجر عن عمل كل منكر، يقول الله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ يُدۡنِينَ عَلَيۡهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يُعۡرَفۡنَ فَلَا يُؤۡذَيۡنَ﴾ [الأحزاب: 59]، فأمر الله نساء نبيه، ونساء المؤمنين، بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، والجلباب يشبه الرداء أو العباءة، تغطي به جميع جسمها إلا ما تبصر به الطريق من فتح عينها ونحوه، وهو من شأن الحرائر، بحيث يعرفن بالتستر فيحترمن، وهذا نص قاطع في وجوب ستر المرأة الحرة جميع جسمها حتى وجهها. وفي الآية الأخرى: ﴿وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ﴾ [النور: 31]، فأمر الله نبيه بأن يبلغ نساءه والنساء المؤمنات، بما يجب عليهن شرعًا من آداب اللباس والتستر، بأن يغضضن من أبصارهن عن النظر إلى الرجال الأجانب، لكون النظر سهم مسموم من سهام إبليس، وما نظرة إلا وللشيطان فيها مطمع.
وهو معدود من مقدمات الزنا، سواء في ذلك الرجل أو المرأة، ولهذا قال بعده: ﴿وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ . وفي البخاري، أن النبي ﷺ قال: «الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ»[327]، ولما قال النبي ﷺ: «لَا تَلِجُوا عَلَى الْمُغِيبَاتِ». قال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أرأيت الحمو؟ - يعني: أقارب الزوج - قال: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ»[328]؛ لأنه ما خلا رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان، كما ثبت بذلك الحديث، ثم قال: ﴿وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّۖ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوۡ ءَابَآئِهِنَّ﴾ [النور: 31] حتى ذكر المحارم. فنهى الله النساء المؤمنات، عن إبداء زينتهن للرجال الأجانب إلا المحارم، فهل يشتبه بعد هذا تحريم إبداء الزينة مع ما هو شر منها من الاختلاط بالشباب الأجانب، والخلوة بهم، أو سفرها لأقصى البقاع وحدها، لا محل للتردد في تحريم هذا العمل، وتحريم التعاون عليه، والمساعدة لأهله، ولا في تحريم إقراره وعدم إنكاره.
ثم قال: ﴿وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ﴾ [النور: 31]، والخمار؛ هو ما يوضع على الرأس، ويدار على الرقبة والصدر، ومن شرطه أن يستر ما تحته، ويتأكد ذلك في الصلاة، بحيث يجب على المرأة المسلمة أن تستر جميع جسمها في الصلاة، ما عدا الوجه والكفين، حتى ولو كانت في غرفة مظلمة، أو في الليل، فالله أحق أن يستحيا منه، وهذا شرط لصحة الصلاة، لقول النبي ﷺ «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ - أي: بالغ - إِلَّا بِخِمَارٍ»[329]، أما الخمار الشفاف الرقيق الذي لا يستر ما تحته، فإن وجوده كعدمه، فلا تصح الصلاة معه، ويرحم الله نساء الأنصار، لما نزل قوله: ﴿وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ﴾ عمدن إلى مروط ثخينة فشققنها على رؤوسهن، فخرجن وهن لا يعرفهن أحد من التستر. ذكر معناه البخاري في صحيحه[330].
وفي الآية الأخرى: ﴿وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا ٣٣ وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ٣٤﴾ [الأحزاب: 33-34]، فهذا والله الخطاب اللطيف، والتهذيب الظريف، يأمر الله نساء نبيه ونساء المؤمنين بالتبع بأن يقرن في بيوتهن؛ لأن أشرف حالة للمرأة أن تكون قاعدة في قعر بيتها، ملازمة لمهنتها، من خياطتها، أو كتابتها وقراءتها، أو خدمة بيتها وعيالها، لا يكثر خروجها واطلاعها.
لأن ثقل القدم من المرأة في بيتها فضيلة، وكثرة الدخول والخروج رذيلة. وقد حكم النبي ﷺ بين علي وفاطمة، أن على فاطمة الخدمة داخل البيت، وعلى علي جلب ما تحتاجه خارج البيت. وقد وصف الله نساء أهل الجنة بما تتصف به الحرائر العفائف في الدنيا، فوصفهن بالبيض المكنون، ووصفهن بالمقصورات في الخيام.
ثم قال: ﴿وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ﴾ [الأحزاب: 33]، فنهى عن تبرج الجاهلية الأولى، وهو ما يفعله النساء في هذا الزمان في بعض البلدان، من كون المرأة تظهر مفاتن جسمها، فتبدي يديها إلى العضد أو الآباط، ورجليها إلى نصف الساق، وتمشي حاسرة الرأس والوجه والرقبة، بغير خمار، وتلبس عند الناس الثوب الضيق القصير، الذي يميز أعضاء جسمها، فهذا هو تبرج الجاهلية الأولى، ولم يكن معروفًا في نساء المسلمين، بل ولا في نساء العرب على شركهم، وإنما كان معروفًا من زي نساء النصارى والعجم، ولمّا قال رجل للحسن البصري: إني أرى نساء العجم بادية صدورهن ووجوههن فماذا أفعل! فقال له الحسن: اصرف بصرك عنهن.
وفي هذا الزمان لمّا ضعف من بعض النساء الإيمان زدن في الخلاعة والتبرج على تكشف العجم والنصارى، وعلى تبرج الجاهلية الأولى، وكلما ضعف دين المرأة وفسد خلقها أوغلت في التبرج، وأخلاق التفرنج؛ لأنها ناقصة عقل ودين، ومشبهة عقولهن بالقوارير، وقد ابتليت بهذا الشباب الطائش الذي يفتخر أحدهم بخلاعة زوجته، وتبرجها في الأسواق، بزيها المزري، لا يثنيها وجل، ولا يلويها خجل، وربما ذهب بها إلى أصدقائه من الأغيار، ليمتعهم بالنظر إليها، ونظرها إليهم، ويربط الصداقة بينها وبينهم، فيوقعها في الفتنة والافتتان بها، وهذا غاية في سقوط المروءة، وذهاب الحياء والغيرة، لا يصدر مثله إلا من شخص مهين، عديم المروءة والدين.
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام
إن التستر والصيانة، هما من أعظم العون على العفاف والحصانة، فإن من العصمة أن لا تقدر، وقد أبدى النصارى ببغيهم الحسد للمسلمين على سترهم لنسائهم، فبثوا من الأفلام الخليعة التي تغزو الناس في قعر دورهم من كل ما يدعو النساء إلى الافتتان، ويضعف منهن الإيمان، وقد قيل: حسبك من شر سماعه، فما بالك برؤيته.
إن الرجال الناظرين إلى النسا
مثل السباع تطوف باللحمان
إن لم تصن تلك اللحوم أسودها
أكلت بلا عوض ولا أثمان
ثم قال: ﴿...وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا٣٣ وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا٣٤﴾ [الأحزاب: 33-34].
فأمر الله نساء نبيه ونساء المؤمنين، بأن يقمن الصلاة، أي يأتين بها في وقتها، مقومة معدلة، بخشوع وخضوع، في السجود والركوع؛ لأن لب الصلاة الخشوع في الركوع والسجود، ولأن الصلاة من آكد العبادات، وهي من أكبر ما يستعان بها على حسن تربية البنين والبنات، لأنها عمود الديانة، ورأس الأمانة، تهدي إلى فعل الفضائل، وتكف عن منكرات الأخلاق والرذائل، تنبت في القلب محبة الرب، والتقرّب إليه بطاعته، ولا إسلام ولا دين لمن ترك الصلاة، فكل امرأة يدعوها زوجها إلى الصلاة فتعصيه ولا تطيعه، وتصر على ترك الصلاة، فإنه يجب عليه فراقها، لاعتبار أن ترك الصلاة كفر، والله يقول: ﴿ وَلَا تُمۡسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ﴾ [الممتحنة: 10] ﴿لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمۡ وَلَا هُمۡ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ [الممتحنة: 10].
ثم قال: ﴿وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِ﴾ [الأحزاب: 34] فهذه الآية وما قبلها وردت مورد الخصوص لأزواج النبي ﷺ، ومعناها العموم لسائر المؤمنات؛ لأن الاعتبار في القرآن هو بعموم لفظه لا بخصوص سببه كسائر نظائره.
وهذه الآية تعتبر من أقوى الدلائل على تعلم المرأة لأحكام الكتاب والسنة، وسائر العلوم الشرعية، إذ هي كالرجل في ذلك، ولأن العلم الصحيح النافع، يكسبها جميل الأخلاق والآداب، ويرقيها إلى الشرف والكمال﴿يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ﴾ [المجادلة: 11].
وأما ما يذكر عن نهي النساء عن الكتابة، فإن الحديث مكذوب على رسول الله ﷺ ولفظه عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ: «لَا تُسْكِنُوهُنَّ الْغُرَفَ، وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَابَةَ، وَعَلِّمُوهُنَّ الْمِغْزَلَ وَسُورَةَ النُّورِ»[331] فهذا حديث لا يصح وقد حقق العلماء بطلانه، وأنه مكذوب على رسول الله ﷺ، فسقط الاحتجاج به، والقول الحق هو أن المرأة كالرجل في تعلم الكتابة والقراءة والمطالعة في كتب الدين والأخلاق، وقوانين الصحة، وتدبير المنزل، وتربية العيال، ومبادئ العلوم، والفنون من العقائد الصحيحة، والتفاسير، والسير، والتاريخ، وكتب الحديث والفقه، كل هذا حسن في حقها، تخرج به عن حضيض جهلها، ولا يجادل في حسنه عاقل، مع التزام الحشمة والصيانة، وعدم الاختلاط بالرجال الأجانب.
وقد كان لنساء الصحابة والتابعين من هذا العلم الحظ الأوفر، والنصيب الأكبر، فمنهن المحدثات، ومنهن الفقيهات، وللعلماء مؤلفات في أخبار علوم النساء، لا يمكن حصرها في هذا المختصر، وحتى المصاحف ذات الخط الجميل في الشام والعراق، تقع غالبًا بخط النساء، وكثير منهن يوصفن بالنبوغ والبلاغة غير المتكلفة، ونحن نشير إلى طرف يسير منها:
من ذلك، أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كان الصحابة يسألونها من وراء حجاب عما يشكل عليهم من الأحاديث وتفسير الآيات، وعن الأحكام وأمور الحلال والحرام، وكانت تستدرك على الصحابة كثيرًا من القضايا، وهي معدودة من حفاظ الصحابة الذين أكثروا من الأحاديث عن رسول الله ﷺ وهم سبعة: ابن عباس، وابن عمر، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري، وعائشة، ولا يكون مكثرًا حتى يحفظ عن رسول الله ﷺ فوق ألف حديث، وهي كذلك. وقد اشتهرت بالبلاغة والنبوغ والحفظ.
روى أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، أنها قالت: إنه لمّا ألقى الدين بجرانه، ورست أوتاده، ودخل الناس فيه أفواجًا، ومن كل فرقة أرسالاً وأشتاتًا، اختار الله لنبيه ما عنده، فلما قبض الله نبيه، نصب الشيطان رواقه، ومد طَنَبه، ونصب حبائله، فظن رجال أن قد تحققت أطماعهم، ولات حين التي يرجون، وأنى والصديق بين أظهرهم؟ فقام حاسرًا ومشمرًا، فجمع حاشيته، بنعشه فرد نشر الإسلام على غِره، ولم شعثه بطبه، وأقام أوَدَه بثقافته، فامذقر النفاق بوطئته، وانتاش الدين بنعشه، فلما أراح الحق على أهله، وقرر الرؤوس على كواهلها، وحقن الدماء في أهبها، أتته منيته، فسد ثلمه بنظيره في الرحمة، وشقيقه في السيرة والمعدّ له، ذاك ابن الخطاب، لله أم حملت به، ودَرت عليه، لقد أوحدت به، فقبح الكفر، وشرد الشرك، وبعج الأرض، فقاءت أكلها، ولفظت خبيئها ترأمه ويصد عنها، وتتصدى له، ويأباها، ثم ورع فيها، وودعها كما صحبها، فأروني ماذا تريبون؟ وأي يوْمَيْ أبي تنقمون؟ أيوم إقامته إذ عدل فيكم؟ أم يوم ظعنه عنكم! وقد نظم لكم أمركم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. انتهى[332].
فهذه نبذه يسيرة، تدل الناظر على سعة علم نساء الصحابة، وما وفقن له من الفصاحة والإصابة، مع حسن سبك الكلام المتضمن لجميل البلاغة والبيان، وأن لهن العناية التامة بتعلم العلوم النافعة، وتعليمها مع العمل بها.
وقد ظهر أثر بركة علمهن على أخلاقهن وحسن آدابهن؛ لأنه متى صلح العلم والتعلم، صلح العمل، وإذا فسد العلم والتعلم، ساء العمل، وإذا ساء العمل، ساءت النتيجة؛ لأن من العلم ما يكون جهلاً، وقد استعاذ النبي ﷺ من علم لا ينفع. ولا يستعيذ إلا من الشر، فمن العلم الذي لا ينفع، والذي هو داخل في ضمن الجهل. تعلم المرأة للرقص والغناء، والتمثيليات السمجة، التي هي غاية في الكذب، وتصوير رسم الحيوانات الحية، ثم يندفع بها سوء علمها، وفساد عملها، إلى السفر للتعلم وحدها، فتخرج من بيت أهلها متهتكة متبرجة، تغشى دور الفجور، ومحلات الفسوق، ومسارح اللهو واللعب والخمور والسينمات، مع تركها للفرائض والواجبات من الصلوات؛ لأن هذا هو منتهى تعلم البنين والبنات في هذا الزمان.
إن الأصل في التعلم الصحيح؛ هو إصلاح النشء وتربية الأخلاق والآداب الدينية بما يجعل المرأة صالحة مصلحة، ثم تعلم العلوم النافعة؛ لأن الغرض من تعليم البنات؛ هو تربية أنفسهن، وتهذيب أخلاقهن على المحافظة على الفرائض، والفضائل، واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل، وهن أقبل الناس لتعليم الدين والأخلاق والخير، وفيهن أتم الاستعداد للاستماع والاتباع، لو وفقن للمعلمين والمعلمات، المرشدين الصالحين، الذين يهدون بالحق وبه يعدلون.
إن في تعاليم الإسلام ما يضمن السعادة والراحة للبنات، ولسائر البيوت والعائلات؛ لأن دين الإسلام يعلمهن فضيلة الستر والعفاف، وفضيلة التواضع في المأكل واللباس، وينهى عن المغالاة فيما يسمى بالكماليات، مما يعد خارجًا عن الضروريات، ويأمر بالاقتصاد في النكاح، وينهى عن المغالاة في المهور، ويقول: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِنْ لَا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ»[333]. ويأمر بالاقتصاد في النفقة بحسن التدبير، وينهى عن الإسراف والتبذير، حتى ولو كان على نهر جار، ويأمر بالتودد إلى الأرحام والجيران، وحسن معاشرة الناس بالإحسان، وبإفشاء السلام، وطيب الكلام، وينهى عن إطلاق اللسان باللعن والسب لاعتبار أن الأم مدرسة لأولادها في الخير والشر فمتى كانت بذيئة اللسان، تعلم ذلك أولادها منها، وصاروا يتقاذفون باللعن فيما بينهم، ثم تعليمهن النظافة في الجسم والثياب، والمنزل والعيال، وإن النظافة من الإيمان، ومن أسباب الصحة للأبدان.
والناس يعرفون ظرف المرأة بنظافة جسمها، ونظافة بيتها وعيالها، وإن أشرف حالات المرأة أن تكون قاعدة في قعر بيتها، ملازمة لمهنتها، من خياطتها، أو مغزلها، أو خدمة بيتها وعيالها، لا يكثر خروجها واطلاعها، لأن بقاء المرأة في بيتها فضيلة، وكثرة دخولها وخروجها رذيلة، ويأمرها برعاية حقوق زوجها، وحسن صحبته ومعاشرته، ولزوم طاعته بالمعروف، وأن لا تكلفه ما يشق عليه من متطلباته بالكماليات التي قد لا يستطيع الحصول عليها إلا بمشقة، وأن لا تأذن في دخول بيته لمن يكره دخوله من رجل أو امرأة، وأن لا تخلو مع رجل ليس بمحرم لها.
فهذه هي التعاليم الإسلامية، والأخلاق الدينية، التي تجعل المرأة صالحة مصلحة في بيتها وبيئتها، وحسن تربيتها لأولادها وبناتها، وتجعلها سعيدة في حياتها وبعد وفاتها، ولا يوفق للعمل بهذه المزايا الفاضلة، والوصايا النافعة، إلا خيار النساء علمًا وعقلاً، وأدبًا ودينًا.
وإنما نكب المسلمون وأصيبوا بالنقص من فساد الأخلاق، والأعمال كله من أجل إهمالهم لحسن تربية أولادهم وبناتهم التربية الدينية النافعة، التي تجعل المرأة سيدة بيت، وسيدة عشيرة.
إن نابتة التفرنج، وعشاق التبرج، الذين أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشرائع، واستخفوا بحرمات الدين، واتبعوا غير سبيل المؤمنين، يظنون من رأيهم القصير، وعزمهم الحقير، أن الحضارة والتمدن، والرقي والتقدم، أنه في تشييد القصور، ومعاقرة الخمور، ومجاراة النصارى في الحرية والخلاعة والسفور، قد ضربهم من الجهل سرادق، ومن الغباوة أطباق، وغرهم بالله الغرور.
تالله لقد سلكوا شعاب الضلالة، وسقطوا في هوات المذلة، ورضوا بأخلاق المذمة، الذي ساقهم إليها، ودلهم عليها، صريح الجهل، وسفالة الأخلاق، ومجالسة الفساق، فإن داموا على ما هم عليه ولم يعدلوا سيرتهم، ولم يرجعوا إلى طاعة ربهم، صاروا مثالاً للمعايب، ورشقًا لنبال المثالب، وسيسجل التاريخ مساوئهم السيئة التي خالفوا بها سيرة سلفهم الصالحين، الذين شرفوا عليهم، بتمسكهم بالدين، وطاعة رب العالمين، فلا أدري من أحق بالأمن إن كنتم تعلمون.
نسأل الله سبحانه أن يهدينا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا هو، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، ومن همزات الشياطين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[326] من حديث عن العرباض بن سارية رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. [327] أخرجه البخاري وأحمد من حديث أبي هريرة. [328] متفق عليه من حديث عقبة بن عامر. [329] أخرجه أبو داود وابن ماجه وأحمد من حديث عائشة. [330] رواه ابن أبي حاتم عن أم سلمة بهذا المعنى كذلك. [331] أخرجه السيوطي في اللآلئ المصنوعة، والفتني في تذكرة الموضوعات من حديث عائشة. [332] رواه ابن عساكر في تاريخه عن جعفر بن عون عن أبيه عن عائشة. [333] أخرجه الترمذي عن أبي هريرة.