متقدم

فهرس الكتاب

 

(73) موقف الإسلام من القتال الواقع بين أهل لبنان[316]

الحمد لله، معز من أطاعه واتقاه، ومذل من أضاع أمره وعصاه، الذي وفق أهل طاعته للعمل بما يرضاه، وخذل أهل معصيته، فاستحوذ عليهم الشيطان، وحبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وأنساهم ذكر الله. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.

أما بعد:

فإن الدنيا محفوفة بالأنكاد والأكدار، وبالشرور والأضرار، وبالهموم والغموم والأحزان، ولا يهذبها ولا يصفيها سوى الدين، وطاعة رب العالمين، ففي الحديث «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ»[317].
تأتي المصائب حين تأتي جمعة
وأرى السرور يجيء في الفلتات
إنه ما أعطي أحد عطاء في الدنيا أفضل ولا أوسع من العافية، وإنه لا يعرف أحد قدر العافية إلا بعد الوقوع في ضدها من البلاء، والنبي ﷺ قال: «إنه ما أعطي أحد عطاء أفضل من العافية»[318]، وقال للعباس: «يَا عَمِّ سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»[319]، ومن دعاء القنوت «اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنَا فِيمَنْ عَافَيْتَ»[320]، وكان يقول إذا أصبح وإذا أمسى: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ، وَالْعَافِيَةَ، وَالْمُعَافَاةَ الدَّائِمَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وبدني وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي»[321] وكان يقول في سجوده: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ»[322]، ويقول: «اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفَجْأَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ»[323] وهذه الأدعية تدل على فضل نعمة العافية. وإن من زوال النعمة والابتلاء بفجأة النقمة، ما ابتلي به أهل لبنان من الفتنة التي عم ضررها، وتفاقم شرها وشررها، فشملتهم جميعهم، غنيهم وفقيرهم، ورجالهم ونساءهم، وصغارهم وكبارهم، وأرضهم وزرعهم ودورهم حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم.

ومن المعلوم أنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يرفع إلا بتوبة، وإن للمنكرات ثمرات، وللمعاصي عقوبات ﴿وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ ١١٢ [النحل: 112]، وقد قص الله علينا خبر الأمم المعذبين قبلنا، فقال: ﴿فَكُلًّا أَخَذۡنَا بِذَنۢبِهِۦۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ أَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِ حَاصِبٗا وَمِنۡهُم مَّنۡ أَخَذَتۡهُ ٱلصَّيۡحَةُ وَمِنۡهُم مَّنۡ خَسَفۡنَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ وَمِنۡهُم مَّنۡ أَغۡرَقۡنَاۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظۡلِمَهُمۡ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ ٤٠ [العنكبوت: 40]، وإنما قص الله علينا خبرهم ليكون لنا بمثابة العظة والعبرة، وخير الناس من وعظ بغيره.

إن الناس في الدنيا بين مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية.

وهذا القتال الواقع في لبنان؛ هو قتال بين المسلمين والكفار، أو بين المسلمين والنصارى. هذا هو الظاهر المتبادر إلى الأذهان، فهو من عداد الحروب الصليبية، ولا نقول: إن كل من يسمون مسلمين في لبنان أنهم مسلمون على الحقيقة، بل فيهم المسلم، وفيهم المنافق، كسائر البلدان المجاورة لهم، والنفاق لا يخلو منه زمان ولا مكان، حتى ولا مدينة رسول الله ﷺ في حياته، فقد كان فيها المنافقون.

يقول الله تعالى: ﴿وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡۚ [التوبة: 101] ولما استؤذن رسول الله ﷺ في قتل رجل من المنافقين قال: «لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»[324]. فعاملهم رسول الله ﷺ، بظاهر إسلامهم، مع علمه بنفاقهم؛ لأن الأحكام تدور على الظاهر، والمسلمون في لبنان يتسمَّوْن بالإسلام، وقد أظهر أعداؤهم خدعة خدعوا بها بعض الناس، وهي قولهم: إن المسلمين في لبنان شيوعيون يساريون، يريدون بهذه الكلمة تفتير عزائم حكام المسلمين عن نصرتهم، حتى لا يمدوا لهم يد المساعدة والعون، وأخذ أنصارهم من نصارى لندن، يدندون بهذه الكلمة، ويرددونها في أسماع الناس في إذاعتهم، ليروجوا بها في أذهانهم، وهي خدعة حرب، فإن الحرب خدعة، وإلا فإن الشيوعية لم تشهد المعركة، ولم ينشب القتال بسببها ولا على حسابها، وإنما ثارت الفتنة بسبب بغي الكتائب على المسلمين، ومحاولتها إزالة اسم الإسلام عن لبنان. وفي الكتاب الذي كتبه رسول الله ﷺ عند موته بأن «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ»[325]، ومعنى كونهم يدًا على من سواهم، أنه متى بغى عدو على المسلمين، كهذه الطائفة المتعصبة، فإن من الواجب على المسلمين أن يكونوا كاليد الواحدة في دحر نحره ودفع شره، لكون المسلمين بعضهم أولياء بعض، والله يقول: ﴿وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوۡمِۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞ [الأنفال: 72] فأوجب الله على المؤمنين أن ينصر بعضهم بعضًا؛ وأن يساعد بعضهم بعضًا؛ لأن المسلمين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، والمسلمون كثيرون بإخوانهم، قويون بأعوانهم، والأخوة الإسلامية تستدعي العطف والحنان، والصدقة والإحسان، ومساعدة منكوب الزمان، فإن المسلم للمسلم أخوان ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ [المائدة: 2].

والمساعدة إذا لم تكن بالقوة والرجال، فإنها تكون بالمال؛ لأن المال هو المحور الذي تدور عليه رحى الحرب، ويستعان به في الطعن والضرب، وينقذ الناس عن الوقوع في الهلكة، والجوع الذي يمكّن عدوهم من استئصالهم، والقضاء عليهم جميعًا، ولا ينبغي أن يكون الكفار في تساعدهم وتناصرهم على باطلهم أقوى من المسلمين في حقهم. ومن الخطأ وفساد التصرف، كون حكام المسلمين يساعدون الكتائب من النصارى على المسلمين لروجان هذه الحجة الباطلة، بل يجب مساعدة المسلمين عليهم.

ونحن نحب أن يعيش المسلمون مع المسيحيين متجاورين متعاشرين، متساعدين كحالتهم السابقة ﴿لَكُمۡ دِينُكُمۡ وَلِيَ دِينِ ٦ [الكافرون: 6]، فلا يتعدى بعضهم على بعض، ولا يسفك بعضهم دم بعض، ولا يجعلون اختلاف دياناتهم سببًا لمثار النزاع، وسل السيوف من بينهم، وكان من حالتهم مع المسلمين في فتوحاتهم في قديم الزمان، أنه لما اتسعت الفتوح الإسلامية، وامتد سلطان المسلمين على الأقطار الأجنبية، من بلدان الروم، صار النصارى مع المسلمين في أمن وأمان، وعزة واطمئنان، وسموا أهل الذمة من أجل أنهم في ذمة الله، وذمة المؤمنين. من رامهم بسوء غرم وأثم، فصار الجميع يتعاونون على الكسب والسعي والعمران، وفنون العلم والعرفان، يساعد بعضهم بعضًا في ذلك الزمان، وأخذ الخلفاء وحكام المسلمين ينشرون عليهم ظلًّا ظليلاً من الرعاية والاحترام والعدل. فيحترمون دماءهم وأموالهم، كما يحترمون دماء المسلمين وأموالهم، ويحترمون أيضًا معابدهم وكنائسهم، ويحمونها فلا يتعرض لها أحد بضرر، ولا يمنع أهلها من دخولها، فهذا صنيع المسلمين مع المخالفين لهم في الدين، وبسببها أخذ النصارى يدخلون في دين الله أفواجًا أفواجًا، طائعين مختارين، ومن أقام منهم على دينه، فإنه آمن على ماله ودمه، لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، وقد أساء النصارى الصنيع مع المسلمين في لبنان، وفي كثير من البلدان ضد ما فعله بهم المسلمون، وضد ما كان عليه قدماء المسيحيين. فإن من تعاليم المسيح الأمر بالهدوء، والعفو والصفح، وعدم الانبعاث إلى الشر، حتى ولو حصل الغلط والخطأ من بعض البشر.

وناهيك بحوادث هذا الزمان، فإنهم لما تباعدوا عن تعاليم المسيحية أخذوا يتميزون بالحقد والشحناء على المسلمين، وسفك الدماء والتمثيل، وتشويه الأبرياء، وخطف الأولاد والنساء، وهدم المساجد المشيدة للعبادة، وإساءة الصنيع مع المسلمين، بل مع أهل ملتهم من النصارى، فقد قتلوا الرهبان في كنيستهم، ودين الإسلام وسائر الأديان تحرم قتل الرهبان، وهذه الأعمال لم تشهد لبنان، ولا غيرها من البلدان، أبشع ولا أشنع منها، حتى كأن لبنان نيران مستعرة، وأنقاض مستقذرة، وما هذا كله إلا حرصًا منهم على إزالة اسم الإسلام وأهله، وهذا العمل بهذه الصفة ينذر بشر العواقب، وأسوأ النتائج عليهم، وعلى كافة الناس معهم ﴿وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡ‍ًٔا [المائدة: 41] ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ سُوٓءٗا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥ [الرعد: 11]. وصدق الله العظيم ﴿وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا ١٦ [الإسراء: 16] ﴿وَسَيَعۡلَمُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَيَّ مُنقَلَبٖ يَنقَلِبُونَ [الشعراء: 227].

نسأل الله الثبات على الإسلام، ونعوذ بالله من منكرات الأخلاق والأقوال والأعمال.

[316] نص الخطبة التي ألقاها المؤلف ضمن خطبة الجمعة بتاريخ 7 المحرم سنة 1396هـ بالجامع الكبير في الدوحة - قطر. [317] رواه أحمد في مسنده ومسلم عن صهيب بن سنان الرومي. [318] أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي بكر. [319] روى الترمذي بسند حسن صحيح بلفظ: «سَلُوْا اللهَ العَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» عن أنس. [320] أخرجه الطبراني في الكبير وأبو يعلى في مسنده من حديث الحسن بن علي. [321] أخرجه أبو داود وأحمد من حديث ابن عمر. [322] أخرجه مسلم من حديث عائشة. [323] أخرجه مسلم عن ابن عمر. [324] متفق عليه من حديث جابر. [325] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث علي.