متقدم

فهرس الكتاب

 

(72) تفسير قوله سبحانه: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١

الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين على أمور الدنيا والدين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق الأمين، والمبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقد روى الإمام أحمد عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: كان رسول الله ﷺ إذا نزل عليه الوحي يسمع في وجهه كدوي النحل، فنزل عليه الوحي يومًا، فرفع يديه إلى السماء وقال: ««اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنَا، وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا، وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا، وَأَرْضِنَا وَارْضَ عَنَّا، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ عَلَيَّ عَشْرُ آيَاتٍ، مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ» ثُمَّ قَرَأَ: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١ ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ ٢ وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَنِ ٱللَّغۡوِ مُعۡرِضُونَ ٣ وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِلزَّكَوٰةِ فَٰعِلُونَ ٤ وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ ٥ إِلَّا عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَيۡرُ مَلُومِينَ ٦ فَمَنِ ٱبۡتَغَىٰ وَرَآءَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡعَادُونَ ٧ وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِأَمَٰنَٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَٰعُونَ ٨ وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَوَٰتِهِمۡ يُحَافِظُونَ ٩ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡوَٰرِثُونَ ١٠ ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلۡفِرۡدَوۡسَ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ١١ [المؤمنون: 1-11]. [299].

بدأ هذه السورة بقوله: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١ أي قد فازوا ونجحوا وقد حرف تحقيق، يحقق الله الفلاح، وهو الفوز والنجاح للمؤمنين المتصفين بهذه الصفات.

والفلاح هو أجمع كلمة في فعل الخير؛ لأنه الفوز والنجاح بسعادة الدنيا والآخرة، و ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ١٤ وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ ١٥ [الأعلى: 14-15]. وجعلت هذه الكلمة في النداء إلى الصلاة، حيث يقول المؤذن: حي على الصلاة، حي على الفلاح. وفي الحديث: «من دُعي إلى الفلاح فلم يجب، لم يَرِد خيرًا، ولم يُرد به خيرًا»[300].

ولما خلق الله الجنة بما فيها من النعيم المقيم، من كل ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، قال لها: تكلمي. قالت: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١ فقال: طوبى لك منزل الملوك

ثم وصف المؤمنين باتصافهم بهذه الأعمال الصالحات؛ لأن الله سبحانه كثيرًا ما يقرن الإيمان بالأعمال الصالحات، كقوله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ خَيۡرُ ٱلۡبَرِيَّةِ ٧ [البينة: 7].

ثم وصف المؤمنين بأنهم ﴿ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ ٢ أي خائفون خاضعون وجلون. فبدأ بذكر الخشوع في الصلاة قبل الأمر بالمحافظة على الصلوات؛ لأن الخشوع لبّ الصلاة، وصلاة بلا خشوع، كجسد بلا روح.

وكان أصحاب رسول الله ﷺ، يرفعون أبصارهم إلى السماء وهم في الصلاة، فلما نزلت هذه الآية، خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم. ولما رأى النبي ﷺ رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة قال: «لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا، لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ»[301].

لكون مقام الصلاة موقفًا عظيمًا، يعتقد المسلم بقيامه أنه ذليل خاشع لرب العالمين، كما في الحديث: «آمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ قِبَل وَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فِي صَلَاتِهِ»[302]. ولهذا كان من أنواع الاستفتاح للصلاة أن يقول: ««وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» «وَالإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»»[303]. ﴿ٱلَّذِي يَرَىٰكَ حِينَ تَقُومُ ٢١٨ وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّٰجِدِينَ ٢١٩ [الشعراء: 218-219].

ولهذا استفتحت بقول: الله أكبر، ليستحضر المصلي عظمة ربه، وأنه أكبر من كل شيء، فتصغر في عينه الدنيا بما فيها، ثم يرفع يديه عند التكبير إشارة إلى رفع حجاب الدنيا، ثم الدخول على الله، ومن السنة وضع كفه الأيمن على الأيسر على صدره، وورد تحت السرّة، وفوق السرّة، والأول أصح؛ ليكون بمثابة الأسير الذليل بين يدي ربّه، ينتظر رحمته ويخشى عذابه، حتى كأنة دخل على الله والتجأ بجنابة؛ ولهذا سميت صلاة لكونها صلة بين العبد وبين ربه. فالمصلي متصل بربه، وموصول من بره وفضله وكرمه، كما أن تارك الصلاة منقطع عن ربه، فهذه الصلاة الشرعية هي قرة العين للمؤمنين في الحياة، كما روى أنس، أن النبي ﷺ قال: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»[304].

وقيل لأبي حازم: كيف تصلي؟ فقال: إذا قرب وقت الصلاة أسبغت الوضوء بتمام، وأمثل الجنة عن يميني، والنار على شمالي، والصراط بين قدمي، والله المطلع علي، وأكبر بتعظيم، وأقرأ بتدبر، وأركع بتذلل، وأسجد بتواضع، وأسلم مع الوجل، ولا أدري أتقبلت مني صلاتي أم يضرب بها وجهي.

فهذا من الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة، أي يعملون الأعمال الصالحة بإحسان وإتقان، ويخافون أن لا يتقبل منهم، لكون المؤمن هو من جمع إحسانًا في العمل، وخوفًا من الرد. والمنافق هو من جمع إساءة في العمل، وأمنًا من العقاب، ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكۡرَ ٱللَّهِۚ فَلَا يَأۡمَنُ مَكۡرَ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ٩٩ [الأعراف: 99].

ثم إن الخشوع في الصلاة قد جعلها الفقهاء ركنًا من أركانها، وهو الطمأنينة، والسكون في السجود والركوع؛ لأن للصلاة ميزانًا توزن به، وهو قول النبي ﷺ «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»[305]. وميزانها القولي، هو ما أرشد إليه النبي ﷺ الأعرابي المسيء في الصلاة، وهو ما روى البخاري ومسلم أن النبي ﷺ كان جالسًا في المسجد، فدخل أعرابي فصلى، ثم جاء فسلم على النبي ﷺ، فقال له رسول الله ﷺ: «وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ، ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» فعل ذلك ثلاث مرات. ثم قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا، فعلمني. وإنه ينبغي لنا أن نفرغ الأذهان، وأن نصغي بالآذان إلى تعليم النبي ﷺ لهذا الأعرابي المسيء في صلاته. ثم نتخذ منه درسًا للصلاة المشروعة المقبولة عملاً وتعليمًا.

فقال له: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ، فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، وكبر»[306]. وإسباغ الوضوء، هو إيصال الماء إلى مواضعه من الأعضاء، وإزالة ما يمنع من وصول الماء إلى البشرة من خاتم أو ساعة أو إسمنت أو عجين، كما في الحديث: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي الْمَكْرُوهَاتِ، وَنَقْلُ الْأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ تَغْسِلُ الْخَطَايَا غَسْلًا»[307].

والوضوء هو مفتاح الصلاة. فلا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ، وهو مأخوذ من الوضاءة، وهي النظافة؛ لأن دين الإسلام دين النظافة، ومن حكمته تنشيط الأعضاء.

وعن علي رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال: «مِفْتَاحُ الصَّلاةِ الطُّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ»[308]. ثم قال: «وَاسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ وَكَبِّرْ» ولم يقل: قل: نويت أن أصلي كذا، وكذا؛ لأن النية قلبية، والتلفظ بها بدعة، قيل للإمام أحمد: تقول قبل التكبير: نويت أن أصلي كذا؟ قال: لا. إذ لم ينقل ذلك عن النبي ﷺ، ولا عن أحد من أصحابه. ثم قال: «وَاسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ» وهو شرط لمن قدر عليه لقوله: ﴿فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ [البقرة: 144]. أما من كان في طائرة أو في سيارة أو في باخرة، فإنه يصلي حيث توجهت به، مستقبل القبلة، أو مستدبرها، ﴿فَأَيۡنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجۡهُ ٱللَّهِ [البقرة: 115]. ثم قال: «واقرأ ما تيسر معك من القرآن».

وقراءة الفاتحة ركن في الصلاة لمن عقلها، لقوله ﷺ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»[309]. ولكن الناس زمن البعثة حديثو عهد بالجاهلية، وليس كل الناس يحسنون قراءة الفاتحة، وخصوصًا كبار الأسنان، كهذا الأعرابي وأمثاله، فقد جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إني لا أحسن شيئًا من القرآن، فعلمني ما يجزئني في صلاتي. فقال: ««قُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ» فقال: يا رسول الله. هذا لربي، فما لي؟ فقال: «تَقُوْلُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي»[310].

قال: «ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا» والاطمئنان: هو السكون، والركود في السجود والركوع، بحيث يقول: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات. وهذا أدنى الكمال.

قال: «ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا» أي حتى تسكن وتركد في قيامك، لقول النبي ﷺ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُقِمْ صُلْبَهُ مِنَ الرُّكُوعِ»[311].

قال: «ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا» لما في البخاري عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: الْجَبْهَةِ - وأشار بيده إلى أنفه، وأنه لا بد من سجود الأنف مع الجبهة - وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ، وَأَلَّا أَكُفُّ شَعَرًا وَلَا ثَوْبًا[312]. ثم يقول: سبحان ربي الأعلى؛ ثلاث مرات. وهي أدنى الكمال.

قال: «ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا» أي حتى تسكن وتركد في قعودك بين الجلستين، ويقول: رب اغفر لي، وارحمني، واهدني وعافني وارزقني، ثم يسجد الثانية كالأولى، قال: «وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا».

فهذه هي الصلاة المشروعة، الجديرة بأن تصعد إلى ربها، فتشفع لصاحبها، وتقول: حفظك الله كما حفظتني. أما الصلاة الناقصة، التي لا يتم صاحبها ركوعها ولا سجودها، ولا يطمئن فيها، فإنها تلف كما يلف الثوب الخلق، ويضرب بها وجه صاحبها، وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني. لأن الله سبحانه يحب من عباده تحسين العمل، لا كثرة العمل.

ثم قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَنِ ٱللَّغۡوِ مُعۡرِضُونَ ٣ واللغو هو الباطل من الأقوال والأفعال، فمجلس القمار والزنا هو مجلس لغو وباطل، والمجلس الذي يشرب فيه الخمر، هو مجلس لغو وباطل، ومجلس اللعب بالكرة الذي يشغل الناس عن الصلاة الواجبة هو موضع لغو وباطل، وقد مدح الله المؤمنين الذين يجتنبون هذه المواضع السيئة. ﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِٱللَّغۡوِ مَرُّواْ كِرَامٗا [الفرقان: 72].

وجيء إلى عمر بن عبد العزيز بقوم قد شربوا الخمر، ومعهم رجل صائم لم يشرب الخمر، قال: ابدؤوا بتعزير هذا الصائم، فقد قال الله تعالى: ﴿وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَلَا تَقۡعُدۡ بَعۡدَ ٱلذِّكۡرَىٰ مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ [الأنعام: 68] فكيف قعد مع القوم الظالمين؟

ثم قال: ﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِلزَّكَوٰةِ فَٰعِلُونَ ٤ فكثيرًا ما يقرن سبحانه ذكر الصلاة بأداء الزكاة؛ لأنها قرينة الصلاة، وهي قنطرة الإسلام، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان، وسميت زكاة لكونها تزكي المال أي تنميه وتكثره، وتنزل البركة فيه حتى في يد وارثه، كما أنها تزكي إيمان مخرجها من مسمى الشح والبخل، وتطهره. يقول الله: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا [التوبة: 103] فسمى الله الزكاة صدقة، من أجل أنها تصدق وتحقق إيمان مخرجها، وكونه آثر طاعة ربه على محبة ماله، فحاسب نفسه، ثم دفع زكاته إلى مستحقها، طيبة بذلك نفسه، يحتسبها مغنمًا له عند ربه، فصار مؤمنًا أمينًا ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ [التغابن: 16].

والناس في آخر الزمان يعدون الزكاة مغرمًا، أي يرونه بمثابة الغرم في أنفسهم، حتى لا يكاد يؤديها إلا القليل منهم، وهي بالحقيقة مغنم، وليست بمغرم، كما قيل:
ولم أر كالمعروف تدعى حقوقه
مغارم في الأقوام وهي مغانم
ثم قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ ٥ إِلَّا عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَيۡرُ مَلُومِينَ ٦ ففي هذه الآية فضل العفاف والإحصان عن الزنا، وكونه من كبائر الفواحش. يقول الله: ﴿وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلزِّنَىٰٓۖ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَسَآءَ سَبِيلٗا ٣٢ [الإسراء: 32] فالزنا عواقبه ذميمة، وعقوباته أليمة والقلوب المحبة له سقيمة، والبلية به لا سيما بعد وقوع الشيب داهية عظيمة.
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها
من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها
لا خير في لذة من بعدها النار
ثم قال: ﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِأَمَٰنَٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَٰعُونَ ٨ قال أنس: ما خطبنا رسول الله ﷺ إلا قال: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ»[313]. وجاء رجل من أهل العالية، وقال يا رسول الله: «أخبرني بأشد شيء في هذا الدين؟ فقال: يَا أَخَا الْعَالِيَةِ: الْأَمَانَةُ»[314].

والأمانة تارة تكون بين العباد فيما يتعاملون فيه من التبايع والودائع والكيل والوزن وأداء الحقوق إلى ربها، وكل الوظائف الحكومية هي من الأمانات لدى المتولين لها، بحيث يسأل كل واحد منهم عن ولاية عمله، وعن حفظه لأمانته، والله لا يصلح كيد الخائنين، فمن الواجب أن تحاط وتحفظ بالأمانة، وأن تذاد أيدي العدوان عن اختلاس شيء منها، فقد قال النبي ﷺ: «مَنْ وَلَّيْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِنْهُ مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ، فَإِنَّهُ غُلُولٌ» ﴿وَمَن يَغۡلُلۡ يَأۡتِ بِمَا غَلَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ [آل‌عمران: 161] ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا [النساء: 58]. وتارة تكون الأمانة بين العبد وبين ربه، فالوضوء أمانة، والغسل من الجنابة أمانة، والصلاة أمانة، والزكاة أمانة، والصيام أمانة، وكذا سائر الحقوق والحدود، فمن حافظ على أداء أمانته، أثابه الله الجنة على حسن عمله، ومن بخس أو نقص، عوقب بما عمل.

ثم قال: ﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَوَٰتِهِمۡ يُحَافِظُونَ ٩

.

فبدأ هذه الآيات بالصلاة، وختمها بالصلاة، وهذه الآية تشبه قوله: ﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا ١٩ إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعٗا ٢٠ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلۡخَيۡرُ مَنُوعًا ٢١ إِلَّا ٱلۡمُصَلِّينَ ٢٢ ٱلَّذِينَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ دَآئِمُونَ ٢٣ [المعارج: 19-23].

فوصفهم باستدامة محافظتهم على الصلوات في أوقاتها، وأنهم ليسوا كمن يصلي وقتًا، ويتركها أوقاتًا، كفعل الملاحدة الجفاة، ويعتذر أحدهم بنجاسة ثوبه، وسراويله، لكون الصلاة لا قيمة لها في نفسه، ولا يهتم بأمرها، من فعل الطهارة لها: ﴿وَلَٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنۢبِعَاثَهُمۡ فَثَبَّطَهُمۡ وَقِيلَ ٱقۡعُدُواْ مَعَ ٱلۡقَٰعِدِينَ [التوبة: 46].

والصلاة هي أمانة الرب، وعمود دين العبد، من تركها تهاونًا بها، واستخفافًا بأمرها، فإنه كافر بالنص الثابت عن رسول الله ﷺ ﴿وَقَدۡ خَابَ مَنِ ٱفۡتَرَىٰ [طه: 61] فروى مسلم عن جابر، أن النبي ﷺ قال: «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة». وعن بريدة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»[315]. فلا دين لمن لا صلاة له. إن موضع الصلاة من الدين، كموضع الرأس من الجسد.

ولهذا كان السلف الصالح يسمونها الميزان؛ لأن آخر ما يفقده العبد من دينه الصلاة، فإذا أرادوا أن يبحثوا عن دين إنسان سألوا عن صلاته، فإن حدثوا بأنه محافظ على الصلاة في الجماعات، علموا بأنه ذو دين، وإن حدثوا بأنه لا يشهد الصلاة في الجماعات، علموا بأنه لا دين له. وكل من لا دين له، جدير بكل شر، بعيد عن كل خير، وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِ [التوبة: 11].

ثم قال: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡوَٰرِثُونَ ١٠ ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلۡفِرۡدَوۡسَ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ١١ فليس هذا الإرث محض مال تذهب لذته، وتبقى تبعته، حلاله حساب، وحرامه عقاب، ولكنه فضل من الله، وهو الفوز بجنته، والنجاة من النار، فهو الذي يستحق أن يتنافس فيه الصالحون، ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلۡيَتَنَافَسِ ٱلۡمُتَنَٰفِسُونَ [المطففين: 26].
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
نسأل الله أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

[299] أخرجه الترمذي وأحمد من حديث عمر بن الخطاب. [300] أخرجه ابن أبي شيبة من حديث عائشة. [301] رواه الحكيم في نوادره عن أبي هريرة بإسناد ضعيف والمعروف أنه من قول ابن المسيب - في مصنف ابن أبي شيبة. [302] رواه الإمام أحمد من حديث الحارث الأشعري. [303] من حديث رواه مسلم عن عمر. [304] رواه الإمام أحمد في مسنده والنسائي والحاكم والبيهقي عن أنس وإسناده جيد. [305] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث مالك بن الحويرث. [306] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [307] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا». [308] رواه أبو داود والترمذي والدارمي. [309] متفق عليه ورواه الإمام أحمد في مسنده وأصحاب السنن أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عبادة بن الصامت. [310] رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والدارقطني والحاكم. [311] أخرجه أصحاب السنن من حديث أبي سعيد. [312] متفق عليه من حديث ابن عباس. [313] من حديث رواه الإمام أحمد في مسنده وابن حبان عن أنس وإسناده قوي. [314] أخرجه البزار من حديث علي. [315] رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.