(71) التذكير بقوله سُبحانه ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ ١﴾
الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وهو الحكيم الخبير، وتبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى كل عمل مبرور. اللهم صل على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فقد قال الله سبحانه: ﴿ٱقۡتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمۡ وَهُمۡ فِي غَفۡلَةٖ مُّعۡرِضُونَ ١ مَا يَأۡتِيهِم مِّن ذِكۡرٖ مِّن رَّبِّهِم مُّحۡدَثٍ إِلَّا ٱسۡتَمَعُوهُ وَهُمۡ يَلۡعَبُونَ ٢ لَاهِيَةٗ قُلُوبُهُمۡ﴾ [الأنبياء: 1-3] فأخبر سبحانه باقتراب حساب الناس على أعمالهم، اللازم لقرب قيام الساعة؛ لأن كل ما هو آت قريب، والبعيد ما ليس آت ﴿ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۗ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثٗا ٨٧﴾ [النساء: 87].
فلا ينبغي للعاقل أن يستبطئ هذا الحساب، والعرض على الله، ورؤية ما وعد به من الثواب على الحسنات، والعقاب على السيئات، فما هو إلا أن يقال: فلان قد مات. وما أقرب الحياة من الممات.
يقول الله سبحانه: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ ١ فَذَٰلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلۡيَتِيمَ ٢ وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ ٣ فَوَيۡلٞ لِّلۡمُصَلِّينَ ٤ ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ ٥ ٱلَّذِينَ هُمۡ يُرَآءُونَ ٦ وَيَمۡنَعُونَ ٱلۡمَاعُونَ ٧﴾ [الماعون: 1-7].
يقول سبحانه: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ ١﴾ وهذا استفهام إنكار، ينكر سبحانه على من يكذب بيوم الدين، أي يوم البعث والحساب عند الله، يوم يجازي كل إنسان بما عمل، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.
وما يكذب بيوم الدين إلا كل معتد أثيم. يقول الله تعالى: ﴿وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا يَوۡمُ ٱلدِّينِ ١٧ ثُمَّ مَآ أَدۡرَىٰكَ مَا يَوۡمُ ٱلدِّينِ ١٨ يَوۡمَ لَا تَمۡلِكُ نَفۡسٞ لِّنَفۡسٖ شَيۡٔٗاۖ وَٱلۡأَمۡرُ يَوۡمَئِذٖ لِّلَّهِ ١٩﴾ [الإنفطار: 17-19] فمن كذب بالبعث بعد الموت فهو كافر. يقول الله تعالى: ﴿زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَن لَّن يُبۡعَثُواْۚ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبۡعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلۡتُمۡۚ وَذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ ٧﴾ [التغابن: 7] يعني أن البعث بعد الموت سهل يسير على الله ﴿مَّا خَلۡقُكُمۡ وَلَا بَعۡثُكُمۡ إِلَّا كَنَفۡسٖ وَٰحِدَةٍۚ﴾ [لقمان: 28] ﴿أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَلَمۡ يَعۡيَ بِخَلۡقِهِنَّ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يُحۡـِۧيَ ٱلۡمَوۡتَىٰۚ بَلَىٰٓۚ إِنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٣٣﴾ [الأحقاف: 33] ﴿إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيًۡٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ٨٢ فَسُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيۡءٖ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ ٨٣﴾ [يس: 82-83].
والنبي ﷺ يقول: ««كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ، وَحَنَى جَبْهَتَهُ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ». قالوا: ما نقول؟ قال: «قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ، وَنِعْمَ الْوَكِيلُ»»[293].
وذلك أن الله سبحانه إذا حكم على الدنيا بالفناء عند قيام الساعة، فيأمر الله إسرافيل بأن ينفخ النفخة الأولى، وهي نفخة الصعق، فيموت جميع الناس حالاً، حتى إن الرداء بين الرجلين، لا هذا يقبضه، ولا هذا يقبضه، وحتى اللقمة تكون بيد الرجل فلا يوصلها إلى فمه، ولا يردها في القصعة. وهذا معنى قول النبي ﷺ: «جاءت الراجفَةُ تتبعها الرادفةُ، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه[294] فقيل له: كم بين النفختين؟ قال: «أربعون ». قيل: أربعون يومًا؟ قال: «أبيت» قيل: أربعون شهرًا؟ قال: «أبيت» قيل: أربعون سنة؟ فسكت»[295] فيموت جميع الناس، ويمكثون في قبورهم أربعين سنة.
ثم يأمر الله السماء أن تتواصل عليهم بالمطر، حتى ينبتون من قبورهم كنبات الطراثيث. وبعد كمال إنباتهم يأمر الله إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث، فتخرج أرواحهم تتوهج، ويقول الله: فوعزتي لترجعن كل روح إلى الجسد التي كانت تعمره في الدنيا، فيقومون حفاة عراة غرلا. ولهذا قالت عائشة: واسوأتاه. ينظر أحدنا إلى سوأة بعض؟! فقال: «الأمر أعظم من أن يهمّهم ذلك». فيقومون من قبورهم، وهم يقولون: ﴿إِن كَانَتۡ إِلَّا صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ فَإِذَا هُمۡ جَمِيعٞ لَّدَيۡنَا مُحۡضَرُونَ ٥٣ فَٱلۡيَوۡمَ لَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡٔٗا وَلَا تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٥٤﴾ [يس: 53-54].
فينشئ الله الناس نشأة مستأنفة، حتى الذي احترق وصار رمادًا، أو الذي أكلته السباع أو أكلته الحيتان، فإن الله ينشئه خلقًا جديدًا، وحتى العجائز في الدنيا اللائي كن حمصًا رمصًا فإن الله ينشئهن نشأة مستأنفة، فيجعلهن أبكارًا، عربًا أترابًا في سن ثلاث وثلاثين سنة، ويكن أفضل وأجمل من الحور العين، بفضل صلاتهن، وصيامهن، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّآ أَنشَأۡنَٰهُنَّ إِنشَآءٗ ٣٥ فَجَعَلۡنَٰهُنَّ أَبۡكَارًا ٣٦ عُرُبًا أَتۡرَابٗا ٣٧﴾ [الواقعة: 35-37].
وقد قالت أم سلمة: يا رسول الله، المرأة منا تتزوج عدة أزواج، وتدخل هي وأزواجها الجنة، فمع من تكون؟ فقال: «يا أم سلمة، إنها تخير، فتختار أحسنهم خلقًا. يا أم سلمة: ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة»[296]. إن العقائد عليها مدار الأعمال، فمتى حسن الاعتقاد حسن العمل وحسنت النتيجة، أو ساء الاعتقاد ساء العمل وساءت النتيجة.
فقد أخبر الله عن هذا الذي يكذب بيوم الدين، أي يكذب بالبعث للحساب أنه نتج عن سوء اعتقاده، وفساد عمله، فصار يدع اليتيم - أي يدفعه بعنف وشدة - ليس في قلبه له رحمة ولا حنان ولا إحسان؛ لأنه لا يرجو عند الله ثوابًا، ولا يخاف عقابًا.
ثم قال: ﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ ٣﴾ لأن من ليس فيه خير لنفسه فإنه لن يكون فيه خير للناس، وإنما تنجم الحوادث الفظيعة، والفواحش الشنيعة، من القتل والسرقة وشرب الخمر ونهب الأموال وانتهاك الأعراض من العادمين للدين، الذين لا يرجون عند الله ثوابًا، ولا يخافون عقابًا. فهم الذين يقال لهم يوم القيامة: ﴿مَا سَلَكَكُمۡ فِي سَقَرَ ٤٢ قَالُواْ لَمۡ نَكُ مِنَ ٱلۡمُصَلِّينَ ٤٣ وَلَمۡ نَكُ نُطۡعِمُ ٱلۡمِسۡكِينَ ٤٤ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلۡخَآئِضِينَ ٤٥ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوۡمِ ٱلدِّينِ ٤٦ حَتَّىٰٓ أَتَىٰنَا ٱلۡيَقِينُ ٤٧﴾ [المدثر: 42-47].
فاعترفوا بذنبهم، وأنهم يكذبون بيوم الدين - أي بالبعث بعد الموت - فنجم عن تكذيبهم فساد أعمالهم؛ لأن كل إناء ينضح بما فيه، وعادم الخير لا يعطيه. ففساد أعمالهم إنما نشأ عن فساد اعتقادهم، بخلاف الذين يؤمنون بالغيب، ويصدقون بالبعث، وإنهم مجازون على حسناتهم. يقول الله فيهم: ﴿وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِينٗا وَيَتِيمٗا وَأَسِيرًا ٨ إِنَّمَا نُطۡعِمُكُمۡ لِوَجۡهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمۡ جَزَآءٗ وَلَا شُكُورًا ٩ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوۡمًا عَبُوسٗا قَمۡطَرِيرٗا ١٠ فَوَقَىٰهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ ٱلۡيَوۡمِ وَلَقَّىٰهُمۡ نَضۡرَةٗ وَسُرُورٗا ١١ وَجَزَىٰهُم بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةٗ وَحَرِيرٗا ١٢﴾ [الإنسان: 8-12] واليتيم: هو من توفي أبوه قبل أن يبلغ الحلم. ولا يتْمَ بعد احتلام. ولليتيم حق. وخير بيت في المسلمين، بيت فيه يتيم يحسن إليه. وشر بيت في المسلمين، بيت فيه يتيم يساء إليه. ومن مسح رأس يتيم لا يمسحه إلا لله، فإن له بكل شعرة تمر عليها يده حسنة، وكذلك المسكين، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «لَيسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ فَتَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، والتَّمْرَةُ والتَّمْرَتَانِ، ولَكِن المِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيْهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيهِ، وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ»[297] يموت أحدهم وحاجته في صدره.
ثم قال: ﴿فَوَيۡلٞ لِّلۡمُصَلِّينَ ٤ ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ ٥﴾ فتوعد بالويل هؤلاء الذين هم عن صلاتهم ساهون - أي لاهون، غافلون - قيل: كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها. وقيل: إنهم أحيانًا يصلون وأحيانًا لا يصلون، فلا قيمة، ولا قدر للصلاة في نفوسهم. وقيل: إنهم يصلون صلاة منقوصة، فلا يتمون ركوعها ولا سجودها، ولا يخشعون فيها، حيث لم يستحضروا عظمة ربهم في صلاتهم، وقد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون. وروي أن الرجل يصلي ستين سنة، وما كتب له منها صلاة واحدة. قيل بماذا؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها. وأسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته[298]. وهذا كله يعد من إضاعة الصلاة، ومن السهو عن الصلاة. أما السهو في الصلاة، فإنه اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد، وسبحان من لا ينام ولا يسهو. فإذا سها أحدكم في صلاته فلم يَدْرِ كمْ صلى، ثلاثًا، أو أربعًا، فليبن على ما استيقن وهو الأقل. ثم يسجد سجدتي السهو، فإن صلى نقصًا، كانتا جبرًا لصلاته، وإن صلى تمامًا، كانتا ترغيمًا للشيطان.
ثم قال: ﴿ٱلَّذِينَ هُمۡ يُرَآءُونَ ٦﴾ - أي بصلاتهم وبصدقتهم وبحجهم، فيعملون هذه الأعمال ليراهم الناس، ولم يفعلوها لله. ومن صلى يرائي، فقد أشرك. ومن تصدق يرائي، فقد أشرك؛ لأن الله سبحانه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان صالحًا، وابتُغي به وجهه.
ثم قال: ﴿وَيَمۡنَعُونَ ٱلۡمَاعُونَ ٧﴾ .إن من لم يكن فيه خير لنفسه، والعمل لآخرته، فأجدر به بأن لا يكون فيه خير للناس، فتراه يمنع إعارة القِدْر، والصحن والبساط، والسيارة، وغير ذلك مما ينتفع به الناس، وخير الناس أنفعهم للناس، وخير الناس من يرجى خيره ويؤمن شره، وأحب الخلق إلى الله من أحسن إلى خلقه.
فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وتزودوا من دنياكم لآخرتكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[293] أخرجه الترمذي وأحمد من حديث أبي سعيد الخدري. [294] أخرجه الترمذي من حديث أبي. [295] متفق عليه من حديث أبي هريرة وفيه لفظ أربعون سنة؟ قال: أبيت. [296] رواه الطبراني في الكبير والأوسط. [297] رواه الإمام مالك، وأحمد بن حنبل، والبخاري ومسلم، وأبو داود، والنسائي، عن أبي هريرة [298] أخرجه أحمد والدارمي من حديث أبي قتادة الأنصاري..