(70) فتح مكـة
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
أما بعد:
فقد قال الله سبحانه: ﴿إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا ١ لِّيَغۡفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنۢبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكَ وَيَهۡدِيَكَ صِرَٰطٗا مُّسۡتَقِيمٗا ٢ وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصۡرًا عَزِيزًا ٣﴾ [الفتح: 1-3]. والمراد بالفتح هنا، هو صلح الحديبية، لكونه انفتح به ما هو مغلق بين الرسول ﷺ وأصحابه، وبين كفار قريش.
ولما نزلت هده الآية قال الصحابة: هنيئًا مريئًا، هذا لك يا رسول الله، فما لنا؟ فأنزل الله تعالى ﴿لِّيُدۡخِلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنۡهُمۡ سَئَِّاتِهِمۡۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ ٱللَّهِ فَوۡزًا عَظِيمٗا ٥﴾ [الفتح: 5]. [285].
وحاصلها: أنها لما اشتدت الحرب بين الرسول ﷺ وبين كفار قريش، وقد كثر أصحاب رسول الله ﷺ وقويت شوكتهم، بتوفر عددهم وعدتهم. ففي السنة السادسة من الهجرة، رأى رسول الله ﷺ في منامه أنه وأصحابه، يطوفون بالبيت، محلقين رؤوسهم ومقصرين، كما قال سبحانه: ﴿لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا ٢٧﴾ [الفتح: 27] أي صلح الحديبية.
وكانت الحديبية عينًا تقع على حدود الحرم، من جهة جدة. ونزل رسول الله ﷺ بأصحابه خارج الحرم، وإذا أراد أن يصلي، دخل حدود الحرم، لمضاعفة ثواب الصلاة فيه.
فعزم رسول الله ﷺ على العمرة، وأنه سيقاتل المشركين إن صدوه عن البيت، ودعا أصحابه إلى بيعة الرضوان، تحت الشجرة، فبايعوه على الموت؛ بأن لا يفروا، فأحرموا من ميقاتهم للعمرة، واستنفر من حوله من الأعراب، فاعتذروا قائلين: ﴿شَغَلَتۡنَآ أَمۡوَٰلُنَا وَأَهۡلُونَا فَٱسۡتَغۡفِرۡ لَنَا﴾ [الفتح: 11] وذلك لظنهم أن الرسول ﷺ وأصحابه لن يرجعوا. فخرج رسول الله ﷺ بمن معه من المهاجرين والأنصار، وعددهم ألف وخمسمائة، وكان مع رسول الله ﷺ زوجته أم سلمة، وقلّد الهدي معه، ليعلم الناس أنه لم يأت للقتال، وإنما جاء للاعتمار.
وبعد أن وصل إلى عسفان، جاءه عينه فأخبره بأن قريشًا جمعت رأيها على أن يصدوه عن دخول مكة، وأن لا يدخلوها عليهم عنوة أبدًا، وتجهزوا للحرب، فبعد المراجعة بينهم وبين رسول الله ﷺ اتفق رأيهم أن يرسلوا سهيل بن عمرو لإجراء عملية الصلح، فلما أقبل سهيل، قال رسول الله ﷺ: «قَدْ سُهِّلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ». فبرزوا لعقد الصلح، وكان الكاتب بينهما علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال رسول الله ﷺ: «اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» فقال سهيل: لا تكتب باسم الله، اكتب باسمك اللهم. ثم قال: «هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو». فقال: لا تكتب رسول الله، فلو كنا نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك. قال: امح رسول الله، واكتب محمد بن عبد الله. والصلح على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض، وعلى أن من جاءك مسلمًا رددته إلينا، ومن جاءنا مرتدًّا منكم لم نرده عليكم، وعلى أنكم ترجعون عامكم هذا فلا تدخلوا مكة، حتى لا يتحدث الناس أنكم أخذتمونا ضُغطة. وفي العام القابل تعتمرون بالسيوف في القرب.
وفي أثناء الكتابة، جاء أبو جندل فارًّا بدينه من مكة، فرمى بنفسه بين المسلمين. فقال سهيل: هذا أول ما نقاضيكم على رده. فطلب رسول الله ﷺ أن يسمح له به، فأبى، فأمر رسول الله ﷺ برده إليه.
وبعدما تم عقد الصلح، أمر رسول الله ﷺ أصحابه بأن يحلوا من إحرامهم، وينحروا هديهم، فتلكؤوا. ووقع الاضطراب بينهم عندما رأوا أبا جندل مردودًا إلى الكفر. فقالوا: يا رسول الله كيف من جاءنا مسلمًا نرده إليهم، ومن جاءهم مرتدًّا منا لا يردونه إلينا؟ فقال رسول الله ﷺ: «إن من جاءنا مسلمًا، فسيجعل الله له فرجًا ومخرجًا، ومن جاءهم مرتدًّا منا، فأبعده الله».
ثم جاء عمر إلى أبي بكر فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قال: أوليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: فلم نعط الدنية في ديننا؟ فقال: إنه رسول الله ﷺ، فاستمسك بغرزه.
ثم جاء إلى رسول الله ﷺ فقال له مثل ذلك. وقال: الم تقل لنا أنكم ستأتون البيت، وتطوفون به، فلماذا نرجع عنه؟ فقال: ««هل قلت لكم هذه السنة؟» قال: لا. قال: «فإنكم ستأتونه وتطوفون به»»[286].
وفي الصلح: أن من دخل في عقد رسول الله ﷺ وعهده، فإنه منه، ومن دخل في عقد قريش وعهدهم فإنه منهم. فدخل في عقد رسول الله ﷺ خزاعة، ودخل في عقد قريش بكر وغطفان. فنحر رسول الله ﷺ هديه، وحلق رأسه، وتتابع الصحابة على ذلك، وحلوا من إحرامهم، ورجعوا إلى المدينة.
ثم إن قريشًا مع من أعانهم من عرب الحجاز ونجد، هجموا على خزاعة في حال غفلة منهم، فقتلوهم. وبذلك انتقض عهدهم. وعزم رسول الله ﷺ على غزوهم، وقال: «اللهم عم الأخبار عن قريش، حتى نبغتها في دارها»[287]. فلما عزم على الخروج، كتب حاطب بن أبي بلتعة إليهم يخبرهم بعزم رسول الله ﷺ على غزوهم، وقال في كتابه: يا معشر قريش، إن محمدًا قد عزم على غزوكم بجيش كالسيل، يختفي بالنهار، ويسير في الليل، والله لو جاءكم وحده، لنصره الله عليكم. فانظروا في أمركم، والسلام. وأرسل الكتاب مع امرأة. فنزل الوحي بخبرها، وأرسل رسول الله ﷺ عليًّا والمقداد لذلك وقال: «إنكم ستأتون امرأة ظعينة بروضة خاخ، ومعها كتاب، فخذاه منها». فوجداها كما وصفها رسول الله ﷺ في روضة خاخ. فقالا: هات الكتاب. فقالت: ليس معي كتاب. فقالا: والله لتخرجن الكتاب، أو لنجردنّ الثياب. فأخرجت لهما الكتاب من عقاص شعرها. فقال رسول الله ﷺ لحاطب: «ما حملك على ذلك؟» فقال: والله ما فعلته رِدة عن الإسلام، وما من أحد من قريش إلا وله قرابة يحمون ماله، وليس لي أحد، فأردت أن أجعلها يدًا عندهم، يحمون بها مالي. فقال رسول الله ﷺ: «قد صدقكم». فقال عمر: دعني أضرب عنقه. فقال: «إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: إِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»[288]. فصار هذا الصلح في الحديبية، الذي كرهه أكثر المسلمين، ويرون أن فيه غضاضة وهضمًا للمسلمين، فصار عاقبته فتحًا ونصرًا مبينًا. وبه فتح الله مكة لرسوله ﷺ، فدخلها رسول الله ﷺ والمسلمون عنوَة، وسلاح أهلها بأيديهم مستعدون لحرب رسول الله ﷺ وأصحابه. فوسع نطاق الأمن للناس، وقال: «من دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه عليه فهو آمن»[289].
وكان رجل يصلح سلاحه لمحاربة رسول الله ﷺ وأصحابه، وعنده زوجته، فقالت له: ما أرى أحدًا يقوم لمحمد وأصحابه. فقال: إني أرجو أن أخِْدمَكِ أحدهم، ثم أخذ يرتجز ويقول:
إن يقبلوا اليوم فما لي علهْ
هذا سلاح كامل وإلّهْ
وذو غرارين سريع السلهْ
ثم أخذ سلاحه وخرج، ثم رجع سريعًا مذعورًا، وقال لزوجته: أغلقي علي الباب. فقالت له: ما أسرع ما رجعت. فأخذ ينشد:
إنك لو رأيت يوم الخندمه
إذ فر صفوان وفر عكرمه
واستقبلتنا بالسيوف المسلمه
يقطعن كل ساعد وجمجمه
لهم نهيت خلفنا وهمهمه
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
ولما دخل النبي ﷺ مكة مؤيدًا منصورًا، ومحشودًا محفودًا، ورأى النساء يصرخن بالبكاء، ويرمين خمرهن في وجوه الخيل خوفًا على أولادهن وأزواجهن من القتل. لهذا التفت رسول الله ﷺ إلى أبي بكر فقال: «ما يقول حسان في مثل هذا؟» قال: يقول:
عدمنا خيلنا إن لم تروها
تثير النقع موعدها كدَاء
ينازعن الأعنة مصغيات
على أكتافها الأسَلُ الظِّماءُ
تظل جيادنا متمطرات
يُلطِّمُهنّ بالخُمر النساء
ثم إن رسول الله وسع مجال الأمان للناس، فقال: «مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ وَضَعَ سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ، فَوَضَعُوْا كُلُّهُمْ سِلَاحَهُمْ»[290]، وصدق عليهم قول الشاعر:
دعا المصطفى دهرًا بمكة لم يُجَب
وقد لان منه جانب وخطاب
ولما دعا والسيف صلت بكفه
له أسلموا واستسلموا أو أنابوا
ثم إن رسول الله ﷺ جمع قريشًا فقال لهم: ««مَا تَظُنُّوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟» فقالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم. لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين. فقال لهم: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ»[291] وسموا الطلقاء من يومئذ، وهم مسلمة الفتح، ولم يُقتل منهم سوى أفراد يعرف أن بقاءهم يفسد بقيتهم. منهم: عقبة بن أبي معيط، الذي وضع سَلاء الجزور على رأس رسول الله ﷺ وهو ساجد. ومنهم النضر بن الحارث، الذي كان يهجو رسول الله ﷺ بشعره.
ولما أعلن لهم بالعفو الشامل، قام أبو سفيان بن الحارث - ابن عم رسول الله ﷺ - فأنشد أبياتًا منها:
لعمرك إني حين أحمل رايةً
لتغلب خيلُ اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله
فهذا أواني حين أهدى فأهتدي
هداني هاد غير نفسـي ودلني
على الله من طَرَّدْتُ كل مُطرّد
فضرب رسول الله ﷺ صدره، وقال له: «أَنْتَ طَرَّدْتَنِي كُلَّ مُطَرَّدٍ».
ثم إن رسول الله ﷺ ترك أهل مكة على حالتهم وعلاتهم، ولم يثبت التاريخ أنه سأل واحدًا منهم عن إسلامه، بل تركهم حتى دخلوا في الإسلام باختيارهم، ورغبتهم تدريجيًّا، وصدق عليهم قوله سبحانه: ﴿۞عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجۡعَلَ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَ ٱلَّذِينَ عَادَيۡتُم مِّنۡهُم مَّوَدَّةٗۚ وَٱللَّهُ قَدِيرٞۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٧﴾ [الممتحنة: 7].
وقد أمر الله نبيه بأن يقول: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُمُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيۡهَاۖ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِوَكِيلٖ ١٠٨﴾ [يونس: 108].
ولو كان قتال الكفار مشروعًا حتى يسلموا، لوجب أن يميز النبي ﷺ بين من أسلم فيستبقيه، وبين من أصرّ على كفره فيقتله.
وبعد فتح مكة، أخذ الناس يدخلون في دين الإسلام أفواجًا أفواجًا طائعين مختارين، لكون عرب الحجاز ونجد، قد استأنوا بإسلامهم فتح مكة، وقالوا: إن كان محمد رسولاً، فسيظهر على قريش ويفتح مكة، وإن لم يكن رسولاً، فستظهر عليه قريش ويقتلونه. ولما فتح الله عليه مكة، أقبلت وفود العرب من كل فج عميق، يظهرون إسلامهم، وأنزل الله سبحانه في أوسط أيام التشريق ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ١ وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا ٢ فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ٣﴾ [النصر: 1-3] وفي هذه السورة، إشعار باقتراب أجل رسول الله ﷺ.
وفي صحيح البخاري ومسلم عن جابر قال: خطبنا رسول الله ﷺ عام الفتح بمكة، فقال: ««إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ»، فقيل: يا رسول الله. أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، ويستصبح بها الناس؟ فقال: «لَا، هُوَ حَرَامٌ» ثم قال: «قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ؛ إِنَّ اللهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ – أي: أذابوه -، ثُمَّ بَاعُوهُ، وَأَكَلُوا ثَمَنَهُ»[292].
[285] أخرجه الترمذي وأحمد من حديث أنس. [286] معنى حديث طويل أخرجه البخاري من حديث المسور بن مخرمة. [287] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير بمعناه من حديث ابن عباس. [288] متفق عليه من حديث علي. [289] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [290] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وأبو داود من حديث ابن عباس. [291] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث أبي هريرة. [292] متفق عليه من حديث جابر بن عبد الله.