(69) فضل الصِّدق في البيع والشراء والأخذ والعَطاء
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبالعمل بطاعته تطيب الحياة وتفيض الخيرات، وتنزل البركات، وأشهد أن لا اله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فقد قال الله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُلۡهِكُمۡ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ٩﴾ [المنافقون: 9].
فنهى الله عباده المؤمنين عن أن تلهيهم تجارتهم وبيعهم وشراؤهم عن ذكر الله، أي عن طاعة الله؛ لأن كل طاعة يفعلها الإنسان، فإنها من ذكر الله. فالصدق والأمانة والبر وفعل الخير، كله من ذكر الله، وهو غاية همة التقي، ولا يضره لو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا؛ لأن المؤمنين يشتغلون في دنياهم بجوارحهم، وقلوبهم متعلقة بالعمل لآخرتهم، فهم يبيعون ويشترون، ويبنون ويغرسون، ويسافرون للتجارة في البر والبحر، ولكنهم إذا نابهم أمر من أمور الله، أو حضرت فريضة من فرائض الله. كفريضة الصلاة، وفريضة الزكاة، بادروا بأدائها إلى الله، ولم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فيحصلون الحسنتين، ويفوزون بالسعادتين؛ سعادة الدنيا، وسعادة الآخرة ﴿لِيَجۡزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحۡسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ ٣٨﴾ [النور: 38] أي من فضل الدنيا وسعتها والبركة فيها؛ لأن أفعال الطاعات، هي نعم العون على سعة الرزق في الحياة.
أما من شغله ماله عن ذكر ربه وشكره وعبادته، فإنه الخاسر في الحياة وبعد الوفاة، وما تجارته إلا حقيقة في عذابه بها في الدنيا، وعقابه بها في الآخرة. يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَأَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ٨٥﴾ [التوبة: 85].
فمن أنعم الله عليه بنعمة الغنى بالمال، فصرف إليه جل عقله، وجل عمله، وجل اهتمامه، وترك لأجله فرائض ربه؛ من صلاته وزكاته، ونسي أمر آخرته، فهذا بالحقيقة فقير لا يؤجر على فقره، قد أوقع نفسه في الفقر من مخافة الفقر، فكان جزوعًا هلوعًا جموعًا منوعًا ﴿خَسِرَ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةَۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ﴾ [الحج: 11].
إن الله سبحانه قد فاوت بين الناس، فمنهم من أنعم الله عليه بالغنى فشكر، ومنهم من أنعم عليه بالغنى فطغى واستكبر، وبخل بما أتاه الله من فضله، والله سبحانه خلق الإنسان، وخلق له المال ليتجمل به في حياته، ويقضي منه سائر حاجاته، ويستعين به على طاعة ربه، ويتمتع به إلى أن ينال ما هو خير منه في آخرته، كلوا من رزق ربكم واعبدوه واشكروا له، إليه ترجعون. يقول سبحانه: ﴿كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ﴾ [سبأ: 15] فكسب المال من حله، ثم الجود بأداء واجب حقه، يعد من مفاخر الدنيا، وإنه لنعم الذخرى للأخرى، فقد ذهب أهل الدثور بالأجور، والدرجات العلى، ونعم المال الصالح للرجل الصالح، وفي الحديث: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ»[275] وقال: «إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا، إِلَّا مَنْ بَرَّ وَصَدَقَ»[276]. فليس شيء يحفز الهمم، كما يحفزهم كسب المال، وتوفيره للعيال، حتى إنه ليحرم نفسه من لذته، وإنفاقه في سبيل حسنته، من أجل توفيره لذريته، على أن المال غاد ورائح، ويبقى من المال شرف الذكر وعظيم الأجر، فمن رزقه الله من هذا المال رزقًا حسنًا، فليبادر بأداء زكاته، ولينفق منه سرًّا وعلنًا، حتى يكون أسعد الناس بماله، فإن مال الإنسان ما قدم، كما في الحديث: «يَقُولُ الإنسان: مَالِي مَالِي. وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ؟ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ؟ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟ وَمَا سِوَى ذَلِكَ، فَذَاهِبٌ، وَتَارِكُهُ لِلْوَرَثَةِ»[277].
إن المال لا يكون زينة في الحياة، ولا سعادة بعد الوفاة، إلا إذا سلك به صاحبه مسلك الاعتدال؛ بأن يأخذه من حله، ويؤدي منه واجب حقه، ويعامل الناس بالصدق والأمانة، فإن الصدق نماء، والكذب شؤم، والله تعالى يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّٰدِقِينَ ١١٩﴾ [التوبة: 119] فدعا سبحانه عباده المؤمنين إلى الاتصاف بالصدق، وأن يكونوا من حزبه الصادقين ﴿لِّيَجۡزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّٰدِقِينَ بِصِدۡقِهِمۡ وَيُعَذِّبَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ﴾ [الأحزاب: 24] وفي الصحيح أن النبي ﷺ قال: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» رواه البخاري من حديث حكيم بن حزام. وهذا معنى ما يسميه العلماء بخيار المجلس، وهو أن كل إنسان من المتعاقدين له الحق في فسخ العقد ما داما في المجلس قبل أن يتفرقا.
ولا يحل للبائع أن يخفي عن المشتري ما في السلعة من العيوب، ولا أن يقول سيمت بكذا، وهو كاذب، ولا أن يقول: اشتريتها بكذا، وهو إنما اشتراها بأقل، فمتى فعل ذلك، فإن للمشتري الخيار في فسخ العقد؛ لوقوع الغدر والتدليس عليه.
إن البيع الصحيح: هو بيع المسلم للمسلم بلا غش ولا خيانة ولا خديعة ولا كذب. فهذا البيع هو البيع المبرور الذي قال فيه النبي ﷺ: «أَفْضَلُ الْكَسْبِ عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ»[278]. فالبيع المبرور مقرون به اليمن والبركة في السلعة وفي الثمن.
أما البيع المشوب بالخيانة والخداع والكذب، فإنه مقرون به الشؤم والفشل ومحق الرزق. وفي الحديث «إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا، إِلَّا مَنْ بَرَّ وَصَدَقَ»[279].
وفي الصحيحين: أن النبي ﷺ قال: ««ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ». منهم «رجل حلف على سلعة بعد العصر، لقد أعطي بها كذا، وكذا، فصدقه المشتري وهو كاذب»» وفي صحيح مسلم عن سلمان أن النبي ﷺ قال: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: المنان بعمله، والمسبل إزاره خيلاء، والمنفق سلعته بالحلف الكاذبة».
وإنما حشر أكثر التجار فجارًا؛ من أجل استباحتهم لأكل زكاة مالهم وللخيانة والخداع والتغرير والكذب، وخروجهم عن حدود العدل والصدق. وكفى بك إثمًا أن تحدث أخاك بحديث هو لك به مصدق وأنت به كاذب، يقول: سيمت مني هذه السلعة بكذا وهو كاذب في ذلك.
وقد عمل بعضهم شيئًا من الحيل المحرمة، والتغرير والخداع؛ يشتري أحدهم الأرض بسبعمائة ألف، ويكتبون ثمنها في صك الشراء بمليون خداعًا وتدليسًا، وهذا كله من الأمر الحرام.
ومثله ما يستبيحه بعض التجار؛ من أن أحدهم يشتري بضائع من الخارج، ثم يطلب من الشركة أن تكتب في قوائمها أكثر من قيمتها؛ لقصد عرضها على الحكومة أو على المشترين. فيأخذ قدرًا زائدًا بطريق الخيانة والغدر والتغرير والكذب. وقد حث النبي ﷺ على الصدق. ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود أنه قال: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ، وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا». وعن عبادة بن الصامت، أن النبي ﷺ قال: «اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ، أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ»[280].
فالمؤمن يطبع على الخلال كلها، إلا الخيانة والكذب، قيل للنبي ﷺ: «أيكون المؤمن جبانًا؟ قال: «نَعَمْ». قيل: أيكون بخيلاً؟ قال: «نَعَمْ». قيل: أيكون كذابًا؟ قال: «لَا»»[281]. لهذا تجد الصادق الأمين، يركن الناس إلى معاملته، وإيداع أموالهم عنده، وعرض السلع الرخيصة عليه، لمحبتهم له وثقتهم به، وحسن ظنهم بصدقه وأمانته. فتتوسع تجارته، وينتشر بين الناس فخره وشرفه.
وأما الكذاب الخائن، فإن الناس لا يزالون منه على حذر، بحيث يحذر بعضهم بعضًا من معاملته، وعدم الثقة به، فتكسد تجارته، ويسقط قدره، ويكون كذبه بمثابة الكلب يطرد الرزق عن بابه، ويمنعه من سلوك أسبابه، ولا يجني جان إلا على نفسه، وقد قال النبي ﷺ: «أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلَا عَلَيْكَ مِمَّا فَاتَ مِنَ الدُّنْيَا: حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ»[282]. فهذه الخلال هي التي تجمل التجارة وتنميها، وتنزل البركة فيها، وتحبب الناس للمتصف بها.
وكان النبي ﷺ إذا جرب على أحد شيئًا من الكذب سقط من عينه، واستهان عنده، فلا يقبل عليه بالرضا، حتى يجدد توبته عن تلك الكذبة، ويحث أصحابه على اعتياد الصدق في أقوالهم وأعمالهم ومعاملتهم، وحتى التخاطب مع الصغار من أولادهم. كما في حديث عبد الله بن عامر قال: دعتني أمي يومًا ورسول الله ﷺ جالس في بيتنا. فقالت: تعال أعطك كذا - أي تمرة - فقال رسول الله ﷺ: «أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُطِعْهُ لَكُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةً»[283]. مراده بهذا تهذيب أمته صغارهم وكبارهم على اعتياد الصدق، وتربيتهم على التخلق به، واجتناب الكذب، وتقبيحه في نفوسهم؛ لأن من شب على شيء شاب على حبه، وعلى التخلق به، حتى يصير نكتة راسخة في قلبه. والكذب مجانب الإيمان، وهو من خصال النفاق، كما في الصحيحين: أن النبي ﷺ قال: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» وفي رواية «إِذَا خَاصَمَ فَجَرَ»[284].
لهذا يرى العقلاء من علماء النفس أن من فساد التربية للصبي، كونه يعود الكذب في التخاطب معه وكثرة تخويفه من الكلب، أو من الجن عند بكائه، فيتربى في نفسه هذا التخويف، فيتخلق بالرعب والخوف والاضطراب، فيخاف من كل شيء، ومن الجن، فيصورهم في نفسه، وهو لا خوف عليه منهم، ولا يزال دائمًا يخاف من هذا التخويف في نومه ويقظته، حتى يكبر معه في نفسه حالة كبره، ويصير طبيعة له.
ومن شؤم الكذب أنه ينفق السلعة؛ لكنه يمحق الكسب، ويؤذن بالفشل.
فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[275] رواه الترمذي والحاكم وقال الترمذي: حسن غريب وقال الحاكم: من مراسيل الحسن. [276] أخرجه ابن ماجه والترمذي من حديث رفاعة. [277] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [278] رواه البزار وصححه الحاكم من حديث رفاعة بن رافع. [279] أخرجه الدارمي وابن حبان في صحيحه من حديث رفاعة بن رافع. [280] رواه أحمد وابن حبان في صحيحه. [281] أخرجه مالك من حديث صفوان بن سليم. [282] رواه أحمد والطبراني بأسانيد حسنة عن عبد الله بن عمر. [283] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى من حديث عبد الله بن عامر. [284] متفق عليه من حديث أبي هريرة.