متقدم

فهرس الكتاب

 

(68) تحريم الرّبا بأنواعه وعموم مفاسده وأضراره

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبالعمل بطاعته تطيب الحياة، وتفيض الخيرات، وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة نرجو بها النجاة والفوز بالجنات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صاحب الآيات والمعجزات.

أما بعد:

فإن الله سبحانه خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجمله بالعقل، وشرفه بالإيمان، وأوجد له جميع ما يحتاجه من المآكل والمشارب المباحة على اختلاف الأنواع والألوان. وقال: ﴿كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥ [سبأ: 15]. وقال: ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡاْ فِيهِ [طه: 81]. فأمر الله عباده بأن يأكلوا من رزق ربهم من كل ما يشتهونه من الأكل الحلال، والمشروبات المباحة، وأن لا يطغوا فيه، بأن يتناولوه من طريق الحرام. ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ رَوْحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِيَ أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ»[266].

وفي القرآن المنزل ﴿تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعۡتَدُوهَا [البقرة: 229] ﴿وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥ [الطلاق: 1] وحدود الله محرماته. فمن اكتسب المال من حله، بورك له فيه، ونعم المال الصالح للرجل الصالح، ومن اكتسبه من غير حله، لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع. وهذا أمر محسوس يشهد به الواقع الملموس، فإن الذين يكتسبون المال من الطرق المحرمة كالخيانة والسرقة والرشوة والمعاملة في المشروبات المحرمة، أو يتحيل على الناس في شراء الشيء ولا يؤدي إليهم ثمنه، أو يستأجر الأجير فيستوفي عمله ولا يؤدي إليه أجرته، فمن فعل ذلك فقد عصى ربه، وأذل نفسه، ومحق نسله، وتسبب في نقص رزقه، وكان كسبه بمثابة الزبد الذي يذهب جفاء، ويرجع إلى الوراء. ﴿يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِ [البقرة: 276].

فكل مال اكتسب من حرام فهو ربا، وعاقبته إلى قلته، كما في حديث ابن مسعود أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ قَسَمَ أَخْلَاقَكُمْ، كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللهُ الدِّينَ، فَقَدْ أَحَبَّهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَكْتَسِبُ عَبْدٌ مَالًا مِنْ حَرَامٍ، فَيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ، أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلَ مِنْهُ، أو يَخْلُفُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلَّا كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ، إِنَّ اللهَ لَا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ، وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ، إِنَّ الْخَبِيثَ لَا يَمْحُو الْخَبِيثَ»[267].

أحل الله البيع وحرم الربا، والبيع الحلال هو بيع المسلم للمسلم، لا غش ولا تدليس، ولا خديعة ولا خيانة، ولا غرر ولا ربا. فهذا البيع بهذه الصفة من أفضل الكسب، كما في الحديث، أن النبي ﷺ سئل عن أفضل الكسب. قال: «عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ»[268].

فعمل الرجل بيده لسائر الحرف المباحة؛ كالزراعة والصناعة، محبوب عند الله، فإن الله يحب المؤمن المحترف، ويبغض الفارغ البطال. وفي الحديث: «مَنْ غَرَسَ غَرْسًا لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ آدَمِىٌّ، وَلَا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً»[269]. وحديث جابر قال: قال رسول الله ﷺ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ غَرَسَ غَرْسًا، إِلَّا كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَتِ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلَا يَرْزَؤُهُ - ينقصه أو يأخذ منه - أَحَدٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ»[270].

والربا المحرم أنواع: أشده وأشره ربا النسيئة: وهو أن يستدين النقود من البنوك، أو من بعض التجار ومتى حل الدين ولم يجد وفاء مدّوا في الأجل، وزادوا ربحًا في الثمن، على حد ما يقول الجاهلية: إما أن تقضي وإما أن ترابي. فيربو المال على المدين، حتى يصير كثيرًا. وهذا هو ربا الجاهلية الذي حرمه الإسلام، ونزل في الزجر عنه كثير من آيات القرآن، ولعن رسول الله ﷺ آكله، وموكله، وكاتبه، وشاهديه من بين الأنام[271].

لأن ضرر هذا النوع من الربا يقوض بالتجارات، ويوقع في الحاجات ويهدم بيوت الأسر والعائلات. فكم سلب من نعمة!؟ وكم جلب من نقمة! وكم خرب من دار!؟ وكم أخلى دارًا من أهلها!؟ فما بقي منهم ديار.

فالمتعاطي للربا، يسرع إليه الفقر والفاقة، ويحيق به البؤس والمسكنة، ويلازمه الهم والغم، ويندم حيث لا ينفعه الندم. وحسب المرابي من الشر كونه محاربًا لربه في حياته وبعد وفاته. يقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَوٰٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ٢٧٨ فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ [البقرة: 278-279].

وقد وصف الله المرابي في فساد تصرفاته بالمجنون فقال: ﴿ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْ [البقرة: 275].

والنوع الثاني: ربا الفضل، وقد حرمه الله على لسان نبيه ﷺ لكونه يقود إلى ربا النسيئة الذي هو ربا الجاهلية، وهو ما يتعامل به الناس اليوم، بحيث يستدينون النقود من البنوك لتوسيع تجارتهم، فيحل الدين وليس عندهم وفاء فترابي البنوك عليهم وهم نائمون على فروشهم. فترابي بأصل الدين وبالربح حتى يكون القليل كثيرًا.

وشرع الإسلام المبني على مصالح الخاص والعام، قد حرم هذا العمل بدليل أنه حرّم بيع الذهب بالفضة إلى أجل. فقال: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ». متفق عليه من حديث أبي سعيد.

فخص الذهب والفضة بالذكر لكونهما المتعامل بهما زمن النبي ﷺ، وقد قامت الأوراق المالية على اختلاف أجناسها مقام نقود الذهب والفضة في المنع من استدانة بعضها ببعض نسيئة، وكونه ينطبق عليها ما ينطبق على استدانة الذهب بالفضة نسيئة. في قوله: «وَلَا تَبِيعُوا غَائِبًا بِنَاجِزٍ»[272] وكما روى البخاري ومسلم عن عمر، أن النبي ﷺ قال: «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ - أي: الفضة - رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ»، يعني يدًا بيد، فلا يجوز استدانة أحدهما بالآخر نَسَاءة.

وليس الحكم مخصوصًا بهما، ولا مقصورًا عليهما دون ما يقوم مقامهما، ويعمل عملهما في القيمة والثمنية؛ فإن القواعد الشرعية تعطي النظير حكم نظيره، وتسوي بينهما في الحكم، وتمنع التفريق بينهما؛ لكون الاعتبار في أحكام الشرع هو بعموم لفظها لا بخصوص سببها.

فالشريعة منزهة عن أن تنهى عن شيء لمفسدة راجحة أو متأكدة فيه، ثم تبيح ما هو مشتمل على تلك المفسدة أو أزيد منها.

فإن الله سبحانه على لسان نبيه أوجب الحلول والتقابض في بيع الذهب بالفضة، ونهى عن بيع بعضها ببعض نسيئة، رحمة منه بأمته؛ ولهذا نرى بعض الناس يتحيل إلى التوصل إلى هذا الأمر المحرم، وإباحة تعاطيه، بجعل هذه النقود بمثابة العروض التي يسوغ بيع بعضها ببعض نسيئة، وخفي عليهم بأن حكم النظير حكم نظيره إيجابًا ومنعًا.

فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإن بيع أوراق العملات بعضها ببعض هي نفس ما نهى عنه رسول الله ﷺ من بيع الذهب بالفضة نسيئة.

وهذا النهي إنما صدر من الشارع الحكيم الذي وصف بقوله تعالى: ﴿لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨ [التوبة: 128] ولم ينه عن مثل هذا الشيء إلا ومضرته واضحة، ومفسدته راجحة. وإن لم تظهر مضرته في الحال، فإنها ستظهر على كل حال كما قيل:
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله
ويتلو كتاب الله في كل مشهد
وإن قال في يوم مقالة غائب
فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد
إن صاحب الدراهم كصاحب البنك وغيره، متى انفتح له باب الطمع في بيعها إلى أجل، ثم يجري المراباة بها، فإنه يتحصل على الزيادات بطريق الربا بدون تعب ولا مشقة ولا رضى من المدين، فيفضي إلى انقطاع الإرفاق الذي شرعه الله بقوله: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسۡرَةٖ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيۡسَرَةٖۚ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٢٨٠ [البقرة: 280].

لأن الناس متى انفتح لهم باب استدانة النقود بالنقود؛ فإنه يسهل عليهم استدانتها عند أدنى سبب، فتتراكم الديون على الشخص من حيث لا يحتسب، فيقع أولاً في ربا الفضل، ثم يقوده إلى ربا النسيئة، والعاقبة إلزامه بالمأثم والمغرم الذي استعاذ منه النبي ﷺ.

وإن المشاهدة في الحاضرين، هي أكبر شاهد لتصديق نصوص الدين. فقد رأينا الذين انتهكوا حرمة هذا النهي، فاستباحوا استدانة النقود من البنوك نسيئة بلا مبالاة؛ لقصد التوسع في التجارات، أو شراء الأراضي، أو الدخول في الشركات، رأيناهم يجرون الويلات على أثر الويلات من جراء أضرار المراباة، وقد يعرض لهم ما يفاجئهم من كساد التجارات، وعدم نفاقها في سائر الأوقات.

أضف إليه ما قد يعرض لهم من حوادث الزمان، كقيام الحروب، أو الحريق، وغيرهما مما يؤذن بالكساد والركود، فتضاعف عليهم البنوك الأرباح بطريق المراباة على سبيل التدريج، حتى يعجزوا عن وفاء ما عليهم من الديون، فتستأصل البنوك حواصل ما بأيديهم من الأموال أو العقارات. وصدق الله العظيم: ﴿يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِ [البقرة: 276] فترابي البنوك عليهم وهم نائمون على فرشهم.

لأن البنوك الآن تعامل الناس بربا النسيئة، الذي هو ربا الجاهلية، الذي حرمه الإسلام، ونزل فيه الزجر عنه كثير من آيات القرآن. وحقيقته: أنه متى حل الدين وعجز عن الوفاء زادوا في الربح، ومدوا في الأجل، فترابي بالدين وبربحه، حتى يصير القليل كثيرًا؛ ولهذا يكفر مستحل هذا الربا عند جمهور العلماء.

وقد حَمَى النبي ﷺ هذا الحمى، وسد الطرق التي تفضي إليه، فحذّر أشد التحذير عن مقاربته رحمة منه بأمته، ولا يجني جان إلا على نفسه، وكل امرئ بما كسب رهين.

ولقد ورد في الكتاب والسنة من النهي والزجر، والتحذير والوعيد الشديد عن جريمة الربا، ما لا يرد في غيره من كبائر المنكرات، فمنها قوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُواْ ٱلرِّبَوٰٓاْ أَضۡعَٰفٗا مُّضَٰعَفَةٗۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ١٣٠ وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيٓ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ ١٣١ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ ١٣٢ [البقرة: 130-132]. ففي هذه الآية من الزجر والتقريع ما لا يخفى، وأكل الربا أضعافًا مضاعفة، هو أن يعامل به كل أحد، فيرابي بأصل الدين وبالربح.

فأمر الله المؤمنين بتقواه، وأن ينتهوا عما حرم الله، ويطيعوا الله ورسوله في امتثال الأمر، واجتناب النهي. ثم ذكر سبحانه صفة أعمال المرابين فقال: ﴿ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٢٧٥ [البقرة: 275]. ففي هذه الآية بيان لفساد سيرة المرابين، وسوء سريرتهم، وأنهم كالمجانين في كسبهم الربا، وعدم تورعهم منه، لكون الحلال هو ما حل بأيديهم، والحرام هو ما حرموه. ثم هم يتحيلون على إباحته بدعوى إنما البيع مثل الربا؛ فيرتكبون ما ارتكبت اليهود، فيستحلون محارم الله بأدنى الحيل.

ثم عرض سبحانه على هذا المرابي عرض صلح وإصلاح، ورأي رشد وسداد، وأنه متى جاءته دعوة هدى، تردعه عن هذا الردى، فقبلها وتاب إلى الله من سوء عمله ومعاملته، فإننا لا نقول له اخرج من مالك كله، وإنما يقول الله: ﴿فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ [البقرة: 275].

فمتى أسلم شخص مرابٍ، وجب عليه أن يستأنف أمره بتحسين عمله، فإن كان له ديون عند شخص أو أشخاص، وجب أن يتخلى عن الربا منها، أي الزيادة على رأس المال بإسقاطها، لاعتبار أنه ملك الغير.

ومثله ما لو قبض نقودًا معلومة من شخص أو أشخاص يعرفهم، فإنه يجب عليه أن يرد الزيادة التي قبضها، التي هي الربا الزائد على رأس المال؛ لقول الله تعالى: ﴿وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ [البقرة: 279]. وهذا معنى قول النبي ﷺ: «إِنَّ أَوَّلَ رِبًا أَضَعُ رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ»[273]، يعني بذلك، إسقاط الزيادة الحاصلة بالمراباة.

ومثله صاحب البنك: متى كان يعامل الناس بالربا، وبالبيع المباح، ثم تاب عن تعاطي الربا، فإنه يجب عليه التخلي عن الزيادات الربوية بإسقاطها ورد ما أخذه منها إلى صاحبه، وما جهله أو نسيه مما طال عليه الزمان، فإنه يتوب إلى الله ويكثر من الصدقة، وله ما سلف، وأمره إلى الله، لقوله سبحانه: ﴿فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ - من معاملته - ﴿وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ [البقرة: 275]، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه. وأما من عاد إلى معاملته بالربا، وأصر على معصيته ﴿فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ [البقرة: 275].

ثم أخبر سبحانه بسوء عاقبة الربا، وأن مصيره إلى قلته، وإلى انتزاع بركته من يد صاحبه، أو من يد ورثته، مهما طال الزمان أو قصر، إذ أن الفشل، ومحق الرزق، مقرون به. فقال سبحانه: ﴿يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِ [البقرة: 276] وكل مال اكتسب من حرام فهو ربا.

ثم أعلم سبحانه بإعلان الحرب على المرابين، فقال: ﴿فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ - أي ولم تنتهوا عن التعامل بالربا وعن أكله أضعافًا مضاعفة - ﴿فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ [البقرة: 279]. لاعتبار أنه عدو لله، ومن ذا الذي يطيق غضب الله ومحاربته!؟ لهذا قلنا: إنه لم يرد في جريمة من كبائر الذنوب أشد مما ورد في جريمة الربا.

لهذا أعده رسول الله ﷺ من الموبقات التي توبق صاحبها في الإثم. ثم توبقه في النار، ولعن آكل الربا وموكله، وحرم الله الربا رحمة منه بعباده، ولا يحرم شيئًا إلا ومضرته واضحة، ومفسدته راجحة. فهو أشد تحريمًا من الزنا وشرب الخمر، سواء فعله لضرورة أو لغير ضرورة، لكونه لو قيل بإباحته للضرورة، لسهل على الناس تعاطيه بحجة الضرورة، إذ كل أحد سيعرض له في حاله ومآله شيء من الضرورة.

والنبي ﷺ خطب الناس بعرفة في حجة الوداع قبل موته بثلاثة أشهر فقال في خطبته: «أَلَا وَإِنَّ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ مِنْ رِبَانَا؛ رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ»[274]. مع العلم أن الناس في ذلك الزمان في غاية من الحاجة والضرورة والفقر، ولم يبح تعاطيه لأحد ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا ٢ وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُ [الطلاق: 2-3].

﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا [الطلاق: 4] فلا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل.
وإياك إياك الربا فلدرهم
أشد عقابًا من زناك بنُهد
وتُمْحَق أموال الرباء وإن نمت
ويربو قليل الحل في صدق موعد
نسأل الله أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.

[266] أخرجه الطبراني في الكبير، وأبو نعيم في الحلية من حديث أبي أمامة الباهلي. [267] من حديث رواه الإمام أحمد من طريق حسن عن عبد الله بن مسعود. [268] رواه أحمد والبزار عن رافع بن خديج ورجال إسناده رجال الصحيح. [269] أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أبي الدرداء وإسناده حسن. [270] أخرجه مسلم. [271] أخرجه مسلم من حديث جابر. [272] متفق عليه من حديث أبي سعيد. [273] من خطبته ﷺ بعرفة في حجة الوداع. [274] أخرجه مسلم من حديث جابر.