(67) التذكير بالاستقامة على الدين
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة من قال ربي الله ثم استقام. وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله سيد الأنام، اللهم صل على نبيك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فقد قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَبۡشِرُواْ بِٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمۡ تُوعَدُونَ ٣٠ نَحۡنُ أَوۡلِيَآؤُكُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَلَكُمۡ فِيهَا مَا تَشۡتَهِيٓ أَنفُسُكُمۡ وَلَكُمۡ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ٣١ نُزُلٗا مِّنۡ غَفُورٖ رَّحِيمٖ٣٢﴾ [فصلت: 30-32].
فوعد الله سبحانه، ووعده حق وصدق، كل من قال: ربي الله أي قال: أنا مسلم، أنا مؤمن، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله. ثم استقام على تصديق ما قال، فحافظ على واجباته؛ من أداء الصلوات الخمس في أوقاتها، وأداء زكاة ماله طيبة بها نفسه، يحتسبها مغنمًا له عند ربه، وصام رمضان، وبر والديه، ووصل أرحامه، وأحسن إلى الفقراء والمساكين والأيتام، كما أحسن الله إليه، والتزم الصدق، والوفاء بالعهد والوعد، وأداء الأمانة، واجتناب الربا وشرب المسكرات، وسائر أعمال المنكرات. فمن استقام على هذه الأعمال، ثم سعى سعيه في كسب المال الحلال، فإنه يحيا حياة سعيدة طيبة، يجد لذتها في نفسه، وتسري بالصحة والسرور على سائر جسمه، حتى يكون سعيدًا في حياته، سعيدًا بعد وفاته، ويفوز بهذه الخصال الحميدة. فمنها تتنزل عليه الملائكة بالرحمة والبركة والسكينة في حاله ومآله وعياله وصالح أعماله.
وإن من الناس من تتنزل عليهم الملائكة بالرحمة والبركة، ومنهم من تتنزل عليهم الشياطين بالشؤم والشر﴿هَلۡ أُنَبِّئُكُمۡ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَٰطِينُ ٢٢١ تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٖ ٢٢٢ يُلۡقُونَ ٱلسَّمۡعَ وَأَكۡثَرُهُمۡ كَٰذِبُونَ ٢٢٣﴾ [الشعراء: 221-223].
والثانية: تبشير الملائكة بأن لا تخافوا ولا تحزنوا، ومن ذهب عنه الخوف والحزن، فقد ذهب عنه جميع الشؤم والشر؛ لأن الإنسان متى كان يخاف وقوع شيء من الشر، فإنه يكون دائمًا خائفًا مهمومًا منه، ولا عيش لخائف. وإذا وقع به، فإنه لا يزال كئيبًا حزينًا منه. ومن المعلوم أن الهم والحزن عقوبات تتوالى، ونار في القلب تتلظى، ولا يزالان ينفخان في الجسم، حتى يجعلا السمين نحيفًا، والقوي ضعيفًا، كما قيل:
والهم يخترم الجسيم نحافة
ويشيب ناصية الصبي ويهرم
وكان من دعاء النبي ﷺ أنه يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ، وَقَهْرِ الرِّجَالِ»[257].
وهؤلاء المستقيمون على طاعة ربّ العالمين، قد سلموا من المرهوب، وفازوا بالأمر المحبوب، إن أصابت أحدهم سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء فصبر، فكان خيرًا له.
والبشرى الثالثة: قول الملائكة لهم: ﴿وَأَبۡشِرُواْ بِٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمۡ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: 30] وهذه البشرى هي أعلى وأجل؛ لأن فيها البشرى بالجنة التي يعمل لها العاملون، كما قال رجل للنبي ﷺ: «أما أني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، أما أني أسأل الله الجنة، واستعيذ به من النار، قال رسول الله ﷺ: «حَوْلَهُمَا نُدَنْدِنُ»»[258].
والبشرى الرابعة والخامسة: قول الملائكة لهم: ﴿نَحۡنُ أَوۡلِيَآؤُكُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ﴾. فمن كانت الملائكة أولياءه في الدنيا، فإنها تذب عنه كل سوء، فتدفع عنه الأذى، وتحارب دونه الأعداء. ولما تصدى رجل لسب أبي بكر ورسول الله ﷺ جالس، وأبو بكر صامت لا يجاوبه، فلما طال سبه له، تصدى أبو بكر للرد عليه، فقام رسول الله ﷺ منصرفًا، وعلى وجهه أثر الكراهية. فجاء أبو بكر يعتذر إليه، قال: يا رسول الله، لقد سمعت قوله فيّ وأنا ساكت، فلما جاوبته قمت وعلى وجهك أثر الكراهية؟ فقال: «نعم، إنه لا يزال الملك ينافح عنك لما كنت ساكتًا، فلما انتصرت، انصرف الملك، وانصرفت لانصرافه»[259].
وأما ولاية الملائكة له في الآخرة عند الاحتضار: فإن المسلم المستقيم على الدين عند حضور أجله، فإن الملائكة تنزل عليه بالرحمة والرضوان، وتبشره بالذي يسره، وتقول له بعطف ولطف وحنان: يا أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى روح ورضوان، ورب غير غضبان، أبشر بالذي يسرك، فهذا يومك الذي كنت توعد. ويقول الله: ﴿يَٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ ٢٧ ٱرۡجِعِيٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةٗ مَّرۡضِيَّةٗ ٢٨ فَٱدۡخُلِي فِي عِبَٰدِي ٢٩ وَٱدۡخُلِي جَنَّتِي ٣٠﴾ [الفجر: 27-30]. ولهذا ختم هذه البشارات بقوله: ﴿...وَلَكُمۡ فِيهَا مَا تَشۡتَهِيٓ أَنفُسُكُمۡ وَلَكُمۡ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ [فصلت: 31-3] أي لكم ما تتمنون وما لا يخطر ببال أحدكم من كل ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين، نزلاً أي ضيافة وكرامة من غفور رحيم.
أتدرون ما هي الاستقامة التي ندب الله عباده إليها، وأبدى وأعاد بالثناء على أهلها؟ هي: الثبات والاستقامة على الدين؛ من فعل الواجبات، واجتناب المحرمات، وهي المراد بقوله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ ٢٧﴾ [ابراهيم: 27]. فالثابت على الدين، وسلوك الصراط المستقيم؛ الذي سلكه رسول الله ﷺ وأصحابه، هو عين الاستقامة المنشودة. فمن ثبت على الدين، واستقام عليه، ولم يزغ عن أمر ربه، ثبته عند سؤال الملكين له في القبر، ويلقنه حجته، ثم يثبته على سلوك الصراط المعروض على متن جهنم، وهو أحر من الجمر، وأحد من السيف الأبتر، وهذا الصراط المعروض على متن جهنم بمثابة الخشبة المعروضة على القليب، وعلى جوانبه كلاليب، وحسك كالشوك، وهي المعاصي، وكبائر الذنوب، تخدش الناس، وتخطف من أمرت بخطفه، وتلقيه في جهنم، فيكلف الناس بالمرور على هذا الصراط، وهو المراد بقوله: ﴿وَإِن مِّنكُمۡ إِلَّا وَارِدُهَاۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتۡمٗا مَّقۡضِيّٗا ٧١ ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّٰلِمِينَ فِيهَا جِثِيّٗا ٧٢﴾ [مريم: 70-71].
فالمراد بالورود المرور، فتجري بالناس أعمالهم، حتى إن أحدهم يمر كالبرق، وتقول له النار: جز يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي. ويمر أحدهم كالريح، وكأجاود الخيل والركاب. ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يحبو حبوًا، فمخدوش ناج، ومكردس على وجهه في نار جهنم. والنبي ﷺ واقف على طرف الصراط ينظر إلى الناس، ويقول: «اللَّهُمَّ سَلِّمْ، سَلِّمْ» فمتى خلصوا من مرور الصراط، وردوا نهر الكوثر، فشربوا منه حتى لا يظمؤوا بعده أبدًا.
والمستقيم الثابت على الدين القويم، فإنه يثبت عند سلوك هذه المخاطر والمزالق، ويجري به عمله في أحسن سلوك منه، والنبي ﷺ يقول: «أنا ممسك بحجزكم عن النار، أقول: هلم عن النار، وأنتم تغلبونني، وتقاحمون فيها، كتقاحم الفراش والجنادب، وإنكم تردون علي معًا وأشتاتًا، فأعرفكم بسيماكم وأسمائكم، كما يعرف الرجل الغريبة في إبله، وإنه يؤخذ بالناس من أمتي ذات الشمال، فأقول: يا رب أمتي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: بعدًا وسحقًا لمن غيَّر بعدي»[260].
ثم إن الاستقامة أيضًا، الثبات على مصابرة الأعمال التي توكل إلى الشخص، ويعهد إليه فيها، من أعمال حكومية وغيرها. فالمستقيم على عمله، بحيث ينفذ ما عهد إليه فيه بدون بخس ولا نقص ولا خيانة وبدون تعليل ولا تمليل، فهذا ممدوح عند الله وعند خلقه، وينشر له الذكر الجميل، والثناء الحسن على حسن وفائه، واستقامته في أداء عمله، وكل شخص فمسؤول عما تولاه - كما قيل:
مهما تستقم يقدر لك اللـ
ـه نجاحًا في غابر الأزمان
أما غير المستقيم، فهو الذي يتهرب عن عمله، ويتغيب عن دوام جلوسه، ويخون ويختلس ولا يفي بوعد ولا عهد، ليس له حظ من الاستقامة، ولا الصدق ولا الأمانة، فتنتشر عنه هذه الصفات الذميمة الناشئة عن سوء سيرته، وفساد سريرته.
ولهذا جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ، فأخبرني بأمر أتشبث به، ولا تكثر عليّ. فقال رسول الله ﷺ: «قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ»[261]. فدله على أمر جامع نافع - أي استقم على العمل بإسلامك، وليس من شرط الاستقامة كونه لا يذنب أبدًا، بل قد يذنب ثم يتوب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، يقول الله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ إِذَا مَسَّهُمۡ طَٰٓئِفٞ مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ ٢٠١﴾ [الأعراف: 201] أي يبصرون طريق المخرج من هذا الذنب، فيتوبون ويستغفرون.
إن الاستقامة شأنها عظيم، قد قرأ هذه الآية قوم ثم لم يستقيموا على العمل بها، فتركوا فرائض الطاعات، وانتهكوا الحدود والمحرمات، واستباحوا أكل الربا، وشرب المسكرات، وصرفوا جل عقولهم وأعمالهم واهتمامهم للعمل في دنياهم، واتباع شهوات بطونهم، وفروجهم، وتركوا فرائض ربهم، ونسوا أمر آخرتهم، فنهى الله المؤمنين أن يكونوا أمثالهم. ومع هذه المخالفات، يدعون بأنهم مسلمون، وهم لم يستقيموا على صحة ما يدعون، فإن الإسلام ليس هو محض التسمي به باللسان، والانتساب إليه بالعنوان، ولكنه ما وقر في القلب، وصدقته الأعمال.
إن صراط الإسلام - أي طريق الإسلام - واحد، من استقام عليه نجا، ومن تخلف عنه غرق، وهو ما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه، وهو المراد بقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٥٣﴾ [الأنعام: 153]. وهذه السبل التي حذر عنها هي بنيات الطريق التي تفضي بسالكها إلى الهلاك والتعويق.
وقد أخبر النبي ﷺ أن أمته تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: «مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»[262]. فهذه الفرقة الناجية هي التي وفقت للاستقامة، ففازت بالسلامة، بخلاف سائر الفرق الضالة، فإنها زاغت عن دينها، وتنكبت طريق نبيها، كما الكثيرون من المنتسبين للإسلام في خاصة الأمصار التي أفسد التفرنج تربيتها، وعقائد أهلها، فصاروا لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله من الربا والزنا وشرب الخمر، ولا يدينون دين الحق، قد أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشرائع، واستخفوا بحرمات الدين، واتبعوا غير سبيل المؤمنين.
وصار هؤلاء أضر على الإسلام والمسلمين من اليهود والنصارى، من أجل أن الناس يغترون بهم، وينخدعون لأقوالهم وأعمالهم وعقائدهم، فهم مرتدون، والمرتد شر من الكافر الأصلي، ولم يأمر الله على لسان نبيه بقتل المرتد عن دينه إلا رحمة بمجموع الأمة أن تفسد بهم أخلاقهم، فإن الأخلاق تتعادى، والطباع تتنافل، والمرء على دين خليله وجليسه، يقول الله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَٰرِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡهُدَى ٱلشَّيۡطَٰنُ سَوَّلَ لَهُمۡ وَأَمۡلَىٰ لَهُمۡ ٢٥﴾ [محمد: 25]. ولهذا نزلت التعزية من السماء عن أمثالهم بقوله: ﴿وَلَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِۚ إِنَّهُمۡ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡٔٗاۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلَّا يَجۡعَلَ لَهُمۡ حَظّٗا فِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٌ ١٧٦﴾ [آلعمران: 176].
إن الاستقامة شأنها عظيم، ولما قيل للنبي ﷺ أنه قد أسرع إليك الشيب. قال: ««شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا» قالوا: فما شيبك منها؟ قال: «شَيَّبَنِي قَوْلُهُ: ﴿فَٱسۡتَقِمۡ كَمَآ أُمِرۡتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ﴾ [هود: 112]». [263]. وعن ثوبان، أن النبي ﷺ قال: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ»[264].
إن بعض الناس يكون مسلمًا مستقيمًا في بداية عمره، ثم يصاب بالانحراف في آخر عمره بسبب ولد ملحد، أو جليس فاسق، يقذف إليه بالشبه المضلة، والتشكيكات التي تزيغه عن معتقده الصحيح، ثم تقوده إلى الإلحاد والتعطيل والزيغ عن سواء السبيل، فقد روى الإمام أحمد عن أبي سعيد مرفوعًا: «إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا وَيَعِيشُ مُؤْمِنًا، وَيَمُوتُ كَافِرًا». كله من أجل عدم استقامته في حياته، والعمر بآخره، وملاك الأمر خواتمه.
وقد أخبر النبي ﷺ بأنها تكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح منها الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا. وهذه الفتن إنما يراد بها الفتن في الدين، والفتنة أشد من القتل، ونعوذ بالله من مضلات الفتن، والله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات، والعقل الكامل عند حلول الشهوات.
وكان النبي ﷺ يستعيذ في أدبار الصلوات، من فتنة المحيا والممات، ويقول في دعائه على الجنازة: «اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ والسنة، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ»[265].
نسأل الله سبحانه، أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
[257] رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري. [258] أخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة. [259] أخرجه أبو داود من حديث سعيد بن المسيب. [260] أخرجه البزار في مسنده من حديث عمر بن الخطاب. [261] رواه مسلم عن سفيان بن عبد الله. [262] أخرجه ابن بطة في الإبانة من حديث أبي أمامة وأنس. [263] أخرجه الترمذي في الشمائل، والطبراني في الكبير، وأبو يعلى في مسنده من حديث أبي جحيفة. [264] أخرجه ابن ماجه وأحمد من حديث ثوبان. [265] أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة.